لماذا لا توجد
«ماركات سعودية»!
كنت في مقهى شهير يقع في مجمَّع تجاري برفقة صديق، وبحكم عملي في التسويق والاتصال وبناء العلامات التجارية، سألني صديقي سؤالاً مباشراً ومفاجئاً: لماذا لا توجد لدينا «ماركات» سعودية المنشأ؟
كان السوق يعج بمتاجر ومنتجات لمئات، وربما آلاف، الماركات (العلامات التجارية) الأجنبية، ولم يكن بينها سعودي المنشأ، إلا القليل الذي لا يكاد يُذكَر، وسَطَ هذا الكم الهائل من العلامات الأجنبية التي تحمل معها بوداعة ثقافة صانعيها، لتذوب بيننا، وتصبح شيئاً فشيئاً جزءاً منا، لنتحول تدريجياً إلى مستهلكين، وننسى دورنا في الإنتاج، ولو بفنجان قهوة ساخنة، أو قطعة كعك متميزة الطعم.
الإجابة لسؤال صديقي ربما تكون مباشرة كسؤاله، وهي أن «الماركة» ابنة شرعية للصناعة، فالأمة التي تصنع وتُنتِج، يكون من الطبيعي رؤية «الماركات» تتوالد فيها وتتكاثر كل يوم. وكل ما يُنتَج يجب أن يحمل اسماً تجارياً (ماركة)، لكي يُعرَف ويُسجَّل، ويسهل بذلك تمييزه رسمياً وشعبياً. وقد يتحول الاسم التجاري إذا تميّز وتفوّق إلى اسم يُطلَقُ على فئة محددة وكاملة من المنتجات، كقولنا مثلاً «كلينكس» للإشارة إلى فئة المناديل الورقية أياً كان اسمها التجاري.
وليست «الماركات» مرتبطة بالصناعة وحدها، بل وبمجالات الإنتاج كافة، ففي قطاع «الخدمات» وحده فرص كثيرة جداً للابتكار وخلق الماركات، ولو لم يكن هناك «تصنيع» فعلي لأي شيء. ويشمل قطاع «الخدمات» مجالات عديدة كالصرافة والتحويل، والضيافة والإعاشة، والسياحة، والنقل، والتعليم والتدريب، والاستشارات، والتصميم وتقديم المحتوى، وغيرها الكثير.
لكن غياب الإنتاج/التصنيع، أو الإبداع بمعناه العام، الذي تسبب في غياب «الماركات» المحلية، له أسباب أخرى كثيرة ومعقدة وغير مباشرة، يمتزج فيها الاجتماعي بالنفسي والثقافي والتراثي.
بدايةً، علاقتنا نحن العرب مع الإنتاج/التصنيع غير وثيقة، فقد تركنا غيرنا منذ قرون يُنتِج ويصنع ويبدع ونحن نستهلك، فهناك نظرة دونية، ولو كانت ربما غير مُعلَنه، تجاه قِيَم الإنتاج/التصنيع بمعظم أشكاله.
كما أن الموارد الطبيعية لم تكن متوافرة، فالماء، وهو أهمها، كان عزيزاً، فما بالك بموارد أخرى كالأخشاب والمزروعات والمعادن وغيرها. وهناك عامل «طبيعي» ثانوي آخر، يُضاف إلى غياب أو ندرة الموارد الطبيعية، تجاهله معظم الذين تطرقوا إلى جفاف الإبداع العربي، وهو «لهيب الشمس»! فمن سيصنع أو يُنتِج في هذه الحرارة المُحرِقة! لقد كان العربي قديماً يعيش حياة قاسية بين جفاف الأرض وحرارة السماء، في كفاح مستمر من أجل البقاء.
أما حالياً، فلا أجد أن أنظمتنا التعليمية إجمالاً تولي اهتماماً كبيراً بالإبداع، وأذكر في المدرسة أن الأعمال الفنية الجاهزة التي تُشترى من السوق كانت تُقدِّر وتُبرَز ويُحتفى بها أكثر من الأعمال التي ينفذها الطلاب بأيديهم! وكان الاعتماد في المدارس على الخطاط المُحترِف، ودفع أجر له، سائداً أكثر من الاعتماد على إمكانات وإبداعات الطلبة في الخط والأعمال الفنية والمجسمات التوضيحية!
أما في البيت، فيندر أن تجد بيننا أباً يطلب من أبنائه ابتكار أو إبداع شيء، ولو «مقلمة» من عِلَب الصفيح. بل يندر أن تجد في البيت ورشةً مصغرة، يقضي فيها الأبناء بعض الوقت في الفك والتركيب، فقد يعوِّدهم ذلك على الابتكار والاعتماد على أنفسهم. ومن المؤسِف ألا تجد في المكتبات المحلية كتباً باللغة العربية عن كيفية تركيب أو إصلاح الأشياء بالاعتماد على النفس (Do it yourself)، بينما توجد هذه الكتب بكثرة في المكتبات الغربية، بل أن كثيراً من المدارس في الغرب تُدرِجها في خططها الدراسية.
ومن النادر أيضاً أن ترى أماً تُشجِّع ابنتها على عمل ربطات شَعرها واكسسواراتها وحتى ملابسها بنفسها في البيت باستخدام الأدوات والمواد البسيطة الموجودة بكثرة في محيطها. بل إن اكسسوارات البيت، من تحف ومواد زينة، تُشترى كلها من المتاجر، بينما نجد أن كميات كبيرة من البلاستيك والزجاج والخشب والمعدن تُلقى في قمامة المنزل دون أدنى تفكير باستغلالها أو إعادة استخدامها بشكلٍ إبداعي!
إذاً.. كيف يكون لدينا «ماركات سعودية» في الأسواق نفاخِر بها العالَم، ونحن لا نُعمِل عقولنا لنُبدِع شيئاً نفخر به، ولا نصنع شيئاً بأيدينا، لا في بيوتنا، ولا في مدارسنا!
غياب الإنتاج/التصنيع، أو الإبداع بمعناه العام، الذي تسبب في غياب «الماركات» المحلية، له أسباب أخرى كثيرة ومعقدة وغير مباشرة، يمتزج فيها الاجتماعي بالنفسي والثقافي والتراثي.