فيلم مندوب الليل..

قهقهة ساخرة في وجه الإنسان.



كان من اللافت سير الفيلم وفق ثيمات ظاهرية مباشرة (الفقر، الحاجة، النحس)، وأخرى غير مباشرة (الطبقية/الإزدواجية/ اندرقراوند نايت لايف).


القصة كانت تنقصها حبكة البداية، الحدث المؤدي إلى كل شيء لم يكن مقنعًا كفاية، لكن سردها وتتابعها وما تعبر عنه كان جديدًا على صناعتنا الوليدة.


التصوير رائع والمشاهد دقيقة ومعبرة، إذ لا يوجد أي مشهد عبثي لايخدم القصة، ورغم أن الفيلم غير جمالي بالدرجة الأولى، ومعظم مشاهده في الليل، لكنه أنتج مشاهد بديعة كمشهد المندوب ينزل في طريق طويلة من الحارات والأزقة الخلفية، والأفق أمامه هو المركز المالي.

ولا يفوتني مشهد (فهد) يؤدي صلاة الفجر بعد شروق الشمس، وارتفاع الكاميرا من فوقه راصدة ارتعاد فرائصه، من أروع اللقطات التي رصدت تفصيلًا دقيقًا في حياة المجتمع السعودي، وعلاقته بالذنب والدين ودوره في معاشه اليومي. 

“Reality is not art, but a realist art is one that can create an integral aesthetic of reality.”

-     André Bazin, What is Cinema?                                                                                                                     

التصوير والإخراج معًا كانا من أفضل ماشاهدت في السينما السعودية حتى الآن، تجربة بصرية صِيغت بذكاء، تأخذ المُشاهد في رحلة لتتبع إنسان القرن الواحد والعشرين في المملكة، فردٌ تتجاذبه كماشة الفردانية المتفشية، بوحشتها اللانهائية، وتشده الرغبة المستميتة في المال والسعادة والعاطفة، لا سيما الأخيرة؛ والتي وجدت نفسها الشخصية الرئيسية في وضع لا يتفق مع حالتها الاجتماعية ودوافعها، وأفكارها، وطريقة عيشها لكنها يائسة في تتبع هذه النداءات الغريزية، وتظل تحرث حولها من أسفلها وأعلها ومن خلفها، حتى يتلاشى كل شيء من تلقاء نفسه.


عبّر عن ذلك التكوين البصري المعتمد على الألوان القاتمة المغبَرّة، من الأخضر الداكن والرمادي والأزرق المعتم، وزجاج السيارات الهائمة في شوارع الرياض، المبتَلّ بركض سكانها نحو السعادة والمال والمتَع القصيرة. ومن جهة أخرى الانسان العاديّ، المنخرط في مجتمعه الصغير، المهموم بالوظيفة، الخاضع للتراتبية في السوق، والباحث بشقاء عن مصادر دخلٍ إضافية، تسد عجز دخله من وظيفته العادية، غير القادر على امتلاك حياة تخصه وحده، والمعيل الوحيد لأسرة ترزح تحت ضغطٍ اجتماعي، ووضع اقتصادي حرج.



تمثيل دوخي كان سبب في مشاهدتي للفيلم، أداءه البسيط والصادق، معتمدًا فيه بشكل كبير على تعابير الوجه خاصة العينين. جسّد دوخي ضياع الفرد في المدن الكبرى بين العمل والأسرة، ووجدت في مشهدين ذلك الذنب النزق، الناشئ من تمني التواجد لأجل العائلة، لكن الإنشغال بالعمل لإعالتهم، يحول دون ذلك، فإما هذا أو ذاك. 

مطاردة المال و العاطفة الذين كانا يسريان بخطّ متوازٍ، وانهارا أيضًا في وقت متقارب، جميل الحقيقة وأضفى تماسك في القصة، وتصاعد ملحمي يبلغ الذروة في المشاهد النهائية، ويترك المتلقي لنهاية شبه مفتوحة.


ما أثار إعجابي أن القصة محلية صافية، تخضع المتلقي لاختبار نفسيّ، عماده متضادات الحياة، حتى (البيّاع) سيجد له مكانًا بجانبك في صف المسجد، في ضوء النهار أنت وهو واحد، ولكن إذا جنّ الليل؛ سلكتما طرقًا مختلفة وسط المدينة المتناقضة بشوراع ضيقة قديمة، يقابلها سرابٌ لشوارع أخرى أوسع، أشدّ إنارة، تتطاول فيها بناياتٌ بلا عدّ، وأبراجٌ زجاجية، تودي بك إلى أماكن براقة، في مدينة لا تهدأ حتى ساعة متأخرة قبيل الفجر. 

وكعاملة في مجال اللغة، لم أخفِ إعجابي بالإضافة الأخيرة بعد نهاية الفيلم، قصاصة من معجم لغويّ، تورد المعاني المتعدية للكلمة المستخدمة في عنوان الفيلم. وهي نقطة أخرى يسجلها العاملون عليه لصالحهم.


كما لم أتمالك أثناء حضور العرض، تداعي مشاهد وصور من فيلم آخر في عقلي، الفيلم الكوري Parasite 2019، "أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يفوز بجائزة أفضل فيلم في تاريخ جوائز الأوسكار  الممتد على مدار 92 عاما".

صراعات البقاء، النفوذ، والنزاعات البشرية حول الملكية، ملكية مصدر، أو مادة، بل حتى الإنسان بحد ذاته. الكوميديا السوادء القابعة في قاع كل مشهد، والقهقهة العنجهية للحياة، في وجه معاناة الإنسان. يبدو ذلك جليًّا إذا عدنا إلى (مندوب الليل) في مشهد الباص، حين نجى (فهد)، ووجدت (سارة) ابنتها، لكن هاتف (فهد) بقي يصدح في الفراغ معلنًا بداية جديدة لوالده، لكن الصدى وأقدامًا غريبة لرجل مرور، كانا المجيب الوحيد.