قوائم الموسيقى سير ذاتية.
منذ عدة أيام اختلفت واجهة حسابي لاستماع الموسيقى منبأة باكتمال القصة السنوية لاستماعاتي، أرجأت مشاهدتها لعلمي كم ستكون غامرة، وستأخذ من وقتي خلال أيام الأسبوع، فموعدنا مساء يوم الخميس، كي نعرج على الأغنيات، والحكايات، ونسلى ونسهو دون قلق.
حاز المرتبة الأولى للموسيقيين في قوائمي مؤلف وعازف بيانو إيطالي، اسمه Fabrizio Paterlini.
أول تسلل لموسيقاه نحو وجداني كان منذ عامين، عبر ألبوم تهادى على قلبي كالنسيم العذب، كان بعنوان (دم الحياة)، توخى فؤادي الحذر كي لا يهلك على أطراف أصابع الشيخ الخمسيني، وهي تداعب المفاتيح البيضاء والسوداء، بالتحام تامٍ مع سحر النغم.
منذ ذلك الوقت أضفت مقطوعات متفرقة له إلى قوائمي علىSpotify، أما المرحلة الفارقة حين دلفت موسيقاه إلى قائمتي المخصصة للاستماع أثناء كتابة اليوميات، أو القصص والمقالات، بل حتى مراحل التفكير والتخطيط في العمل.
أجادت موسيقاه التناغم مع حياتي، رافقتي أكتب، أعمل، أقرأ، أتنقل، أصغي وأتطلع إلى السماء كالنشوان بلا كلل، وأسامر الليل أحيانًا، وأتسكع بلا قصد في الطرقات، ألوي عنقي تجاه الأشجار، وأقتحم عُباب الحياة وموجها المتلاطم.
مثلث لي مناجاةً أبدية للخلاص، وقفة مسترخية مرة، وحادة مرة، مسالمة تارة، وتارة غاضبة، ومعظم الوقت حزينة ساهمة، وممعنة في السؤال.
أتتبع اليوم عناوين المعزوفات، وأذهل كيف أصبحت إيقاع أيامي وسلواها، ونديمة الساعات المتساقطة من الوقت، وحليفة زمني المنقضي ومقبرته الخضراء، إذ تنامى عشب الوجود بتهافت نغماتها عليه، ونضجت الآلام، واختمرت الأفكار، وأعادت العواطف تشذيب نفسها، كي يستمر تكويني، ولا تنقطع ولاداتي، أو تصاب ذاتي بالعرج، ويعتريها سأم الحياة فلا تطيب.
“In the world myriad as ours, the gaze is a singular act: to look at something is to fill your whole life with it, if only briefly”
Ocean Vuong
ومما أعادني للحظات الوجود الكلي، كانت معزوفته الرقيقة Be in the moment، وهي أكثر معزوفاته التي استمعت إليها هذا العام وفقًا للقصة السنوية حول استماعات المستخدم على Spotify.
فمثلت واحدًا من أجلّ أهداف العام: الحضور في الزمن الحالي، إذ حاولت تعلمه، قرأته، ناقشته مع أصدقائي، خضته في أحاديث مطولة داخل العيادة، ولا زلت أدرب نفسي كل يوم عليه، لأكون إنسانًا متصلاً مع الزمن الآنيّ، موضوعيًا ومحايدًا، لا يغرق في الحلم، ولا تثقل كاهله قصص الماضي، أو تحبسه الأفكار المتقادمة، ويرتهن لأشباح مقبورة، أو أصنام هدمها وقطع طريقًا طويلة لتجاوزها.
امرأة تعيش الآن وليس غدًا. تُجل اللحظة، تنهم للأيام، ولا تقتات على الذكريات، تتخيل وتحلم نعم؛ لكن دون إفراط، فلديها دومًا ماتقوم بفعله، كي تخلق الحاضر، وتراقص المستقبل البعيد، ليقترب ويحييها بحماسة، كما تحييه وتتطلع إليه.
وكم اتسع وجداني أثناء المرور على ذلك كله، وأدركتني راضية ومستقرة، مفنية وقتي في المحاولة، وتوظيف ما يسقط في يدي لأحترف ما أسميته (العيش النقيّ)، وأبتدع غاية وجودي كل يوم بشكل مختلف، ومنسجم مع إرادة الحياة، في صدام ناعم لتقويض أشكال الوجود المتكرر بفجاجة تصيب المتأمل بالغثيان، لا أثر لها؛ سوى رقعة زائدة في تاريخ البشرية، خلفت تشوهًا باديًا للعيان في لوحة الخلق العظيم.
وأتمنى أن لا تعجز الموسيقى عن تقديم العون لي في ذلك، وأن أبقى مصغية إلى لحن الحياة، متفكرة، متأثرة، حادة البصيرة، مهتدية إلى طرق جديدة صادقة وممتعة، لا علم لي بوجهتها الأخيرة، لكن سأتلقاها بطمأنينةٍ ربيتها أمدًا طويلاً.