ذرات غبار
كانت تملك أذنًا موسيقية لافتة، تنهم للموسيقى كما لو كانت نزرها الأخير من الزاد في هذا الكون.. تصغي إليها في كل وقت، ترتب موسيقاها كما لو تنظم أدراج المطبخ، موسيقى للكتابة، موسيقى للتنزه، للاستحمام، مع الأصدقاء، وأخرى للعمل.. وحين تحظى بقراءة كتاب جيد، أو محادثة خلاقة مع صديق، أو تطير مسافرة، تعد قائمة لذلك.
ابتاعت كثيرًا من سماعات الأذن، وأكثرها وفاءًا تلك المتدلية.. تحب الغناء أيضًا، تدرك أن صوتها متواضع، ولم يمنعها ذلك من أن تتخيل نفسها مغنية مسرحية، لكنها تغني فقط على السلالم، وأمام شريكتها في السكن..
تشعر أن الأيام مشاهد سينمائية تدور في فيلم غنائي، يجب أن تكون مصحوبة بالموسيقى، وإلا ستنقص من شاعريتها ثمان درجات على مقياس عشر، إذا تركنا درجة للسكون، ودرجة لصوت الحياة.
كل ذكرىً من شبابها حفها النغم، ومن المعتاد أن تصحو من النوم وفي عقلها أغنية، كما لو سمعتها في الحلم، أحيانا في العمل تغفل عن نفسها، وتردد بصوت مسموع أغنية انتشت بسماعها في زحام الطريق، أو أخرى على قائمة التشغيل منذ أسبوعين.. وتعود لتتماسك محافظة على رزانتها.
تخرج أحيانًا للتسكع، يبدو الرصيف لها كنوتة، وتتمايل جذلة لا على شيء، بل على نغمة مألوفة، أو قديمة.. ترى الأشجار وتكاد تلمح الأغنيات دانية على أغصانها، بحثا عن أي كتف طائشة تقع عليها، والسماء! ياللروعة! تلك اللوحة بالغة الاتقان، تتخيل في طبقاتها حفلات موسيقية، ربما عربية، أو أندلسية.. تعتقد بجدية أن أهل السماء يفضلونها شرقية.
لها من أهل الموسيقى جمع غفير، تأنس وتطرب بسماعهم ومشاهدتهم، لكن واحدة كانت هي الأكمل بالنسبة لها.
تفتحت أذنها متأخرًا على تلك المطربة، عاشت معها إحدى عشرة سنة، من السماع والمشاهدة، الحفظ والترديد، وتتبع القديم والجديد.. في يوم من الأحلام؛ حضرت حفلة موسيقية شاركت فيها مطربتها الأحبّ.. اعتقدت وهي تستعد للحفل قبل موعده بأسبوع، أنها ملكت حظ الدنيا، وأن وجدانها سيظل متفتحًا ومتوقدًا طائرًا كنسر حرّ جراء ما ستحضره، وتعيشه في أركان المسرح مع أغنياتها المفضلة.
حانت ليلتها المرتقبة، وكفتاة تستعد للخروج لأول مرة في موعد؛ لم تعرف ماذا ترتدي وكيف تصفف شعرها، وأي عطرٍ ستضع؟
في اللحظة الأخيرة قررت أن ترتدي عباءة بشراشيب بنفسجية، تدلت من كفتيها بنعومة، وأسدلت شعرها بين البنفسج، ثم وضعت عطرًا خشبيًا تتخلله رائحة ياسمين مجفف، يذكرها بغروب الصيف، ونسيمه حين يتخلل خصلات شعرها المتراقصة.
داخل المسرح وفقت لدقيقة قبل أن تجد مقعدها، أخذتها مهابة قرب الجوقة الموسيقية، والأمتار القليلة التي تفصلها عن المطربة، البيانو اللامع، المسرح المضاء بالأحمر، والخلود المنبعث من هذا المشهد.
جلست في مقعدها مرتجفة طوال الليلة، تلسعها موسيقى تخاف ألا تتذكرها، وتجد في سمعها اضطرابًا غير معهود، وفي ذهنها تشويشًا لا يطاق، أما وجدانها فكان كالطفل المحبوس، مما جعل من الصعب عليها القبض على الإيقاع، أو حبس الصورة، والذوبان في الموسيقى.
كانت الأغنيات تصدح، بينما رأسها يميل إلى الخلف، والمشهد مشوش، بدت لها الفرقة الموسيقية تموج، بالرغم من قرار العازفين، أما الآلات فكانت تتصعد إلى السماء، والمغنية تتصدع والمسرح يبتعد..
هجمت كل هذه المعطيات على دماغها، حاجبة عنها انتشاءها المعهود، وشعرت أنها عمياء، والموسيقى تتسرب من وجدانها، كما ينسحب التراب من كف منبسطة، مصدرًا فحيحًا خفيضًا يتبعه صوت الكفين يضربان بعضهما بعضًا، ليستبدّ الخواء.
أثناء محاولتها الإدراك؛ تشكل كل شيء أمامها كذكرىً خاطفة، لحظة من الطفولة يصعب استحضارها، وميض متذبذب من مشاهد وأصوات، ارتعاشة مألوفة وصبابة معتقة، تريد أن تغرف المزيد منها، وأشد ماتخشاه أن تضمحل من ذاكرتها.
لكن خشبة المسرح المترائية كضفة متلألأة عند منتصف الليل، أبَت في تلك الليلة رسوّ مركبها.