فوائد من كتاب (قصة الحضارة) لديورانت
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ..
فإن النظر في التاريخ من أنفع ما يبتغيه المرء لرجاحة عقله واستقامة سلوكه ، من أجل ذلك ملأ الله -عز وجل- أعظم كتبه بالقصص والأخبار ، ثم إنه -عز وجل- قد ركّب في فِطَر الناس حب سماع الأخبار وإسماعها حتى قالت العرب "لا تشبع أذن من خبر" وحتى تجد الرجل يظل نهاره كله ينحت في الصخرة الصماء لنقل قصة سمعها أو حدث شَهِده .
ثم لم يزل المؤرخون أرسالا وجماعات تترا يكتبون ما بلغهم أو شهدهوه بأنفسهم ، حتى جاء ويل ديورانت فكتب كتابا هو غرة من غرر كتب التاريخ ، مكث في تأليفه ثلاثين عاما ، طاف خلالها العالم ، وقرأ في مشروعه من الكتب ما إن ورقها لينوء بالعصبة أولي القوة !
وها هو قد أبان عن ما قد بعثه إلى مشروعه هذا فقال في مقدمة كتابه : "لقد أحسست منذ زمن طويل بأن طريقتنا المعتادة في كتابة التاريخ مجزءاً أقساماً منفصلاً بعضها عن بعض يتناول كلُ قسم ناحيةً واحدة من نواحي الحياة -فتاريخ اقتصادي وتاريخ سياسي وتاريخ ديني وتاريخ للفلسفة وتاريخ للأدب وتاريخ العلوم وتاريخ الموسيقى وتاريخ للفن- أحسست أن هذه الطريقة فيها إجحاف بما في الحياة الإنسانية من وحدة ، وأن التاريخ يجب أن يكتب عن كل هذه الجوانب مجتمعة كما يكتب عن كل منها منفرداً ، وأن يكتب على نحو تركيبي كما يكتب على نحو تحليلي" .. ثم أخذ الرجل يطوي القرون بقلمه طيا ، يمر على أطلال الحضارات وتركات الأمم وركام المعارف بكلام عارفٍ عاقلٍ ذكيٍ منصفٍ -إلى حد كبير- ، والكلام في كتابه يحلو ويطول : والمقصود أن الرجل قد أتى بما لم يأت به الأولون .
هذا وكنتُ قد قرأت الأجزاء العشرة الأولى منه : فيمر بي من جليل كلامه وجوامع عباراته ما يحملني على أن أخط بالقلم تحت كلامه خطا يكاد يخرق الصفحة من فرحٍ بكلامه ! .. ثم ما تَقارّ لي القلب أن أتركها مبددة في كتابه الضخم حتى عُدت على ما قرأتُ فاستللت عباراته تلك فجمعتها مكتوبة في هذا المستند -وستجد أني تركت كثيرا من سباق كلامه ولحاقه وبعضا من ذيوله وتتماته طلبا للاختصار- ، ثم عُدت إلى هذه الخلاصات فبوّبتُ على كلامه بأبواب تكشف فحوى كلامه وتوضح مرادي منها وجعلته بين معقوفتين ، ثم عُدت لها فصنفتها على حسب الموضوعات الرئيسية وهي كالتي (المجتمعات وقوانينها ، والتاريخ ، والأمم ، والسياسة ، والعقائد والأفكار -وهو أكبر الأقسام وأهمها- ، والسلوك ، والمنوعات) ، ثم قرأت كتابه (دروس من التاريخ) فرأيت أن أُلحق فوائده بهذا المستند ، والهمّ معقود على إتمام الكتاب إذا سلّم الله من عوارض الأشغال !
علما أني لم أنشر هنا إلا قليلا من فوائده المجموعة عندي وذلك لكثرتها ، فإن أردتها فراسلني حتى أبعث إليك ببقيتها
وهنا أقف بقلمي وقلبي شكرا وامتنانا لله الواحد الرحمن على ما يسر وسدد وأعان ، ثم الشكر لأبوي الكريمين فما وجدت خيرا إلا كانا سببا فيه ، والشكر كذلك لصاحب لي كريم حبيب إلى القلب كان سببا في نشر هذه الورقات .
أخيرا : لا تنس -يا صاحبي- أن تأخذ الحِذر وأن تبذل العُذر! .. تأخذ حذرك من بعض كلامه : فليس كله صاف من أكدار ماديّته -والرجل ملحد لا يؤمن إلا قليلا- ، وتبذل العذر لجامع كلامه : فلم أجمعه لغيري ولا أزعمه كاملا أو مبرأ من كل عيب ، وسأفرح برأيك وملاحظاتك على بريدي هذا :
(muath170@gmail.com) ..
فلنشرع على بركة الله …..
لمجتمعات وقوانينها
[مراحل تطور عقول الأمم]
في المراحل الأولى من تاريخ الأمة قل أن يكون للتفكير وجود بل الذي يسود وينتشر هو العمل ويكون الناس في هذه المراحل صريحين محررين من عوامل الكبت جريئين في مشاكساتهم وصلاتهم الجنسية. وكلما ارتقى مدارج الحضارة وفرضت عليهم العادات والأنظمة والشرائع وقواعد الآداب والأخلاق قيوداً تزداد على مر الأيام كبتاً للغرائز حل التفكير محل العمل والخيال محل الإقدام والاحتيال محل الصراحة والخفاء محل التعبير الصادق والعطف محل القسوة والشك محل اليقين؛ وزالت الوحدة الأخلاقية التي يشترك فيها الإنسان البدائي مع الحيوان؛ وأصبح السلوك مجزءاً طابعه التردد والإدراك وتقدير العواقب؛ وضعفت الرغبة في القتال واستحالت ميلاً إلى الجدل الذي لا يقف عند حد. وما أقل الأمم التي استطاعت أن تصل إلى الرقي العقلي والإحساس القوي بالجمال من غير أن تضحي في سبيل ذلك بالقدر الكثير من رجولة أبنائها ووحدتهم فلم تستطيع صد الأقوام الهمج المعدمين الطامعين في ثروتها. فحول كل رومة يحوم الغاليون وحول كل أثينة يحوم المقدونيون.
[فن التصوير آخر شباب الحضارة]
التصوير في العادة آخر فن عظيم ينضج في الحضارة؛ فهو في المراحل الأولى من مراحل الثقافة يخضع للعمارة الدينية ولعمل التماثيل الدينية ولا يصبح فناً مستقلاً إلا حين تدعوه الحياة الخاصة والثروة الخاصة إلى زخرفة المنازل أو لتخليد ذكرى اسم من الأسماء.
[مراحل الأمم : العناية بالأدب ثم العقائد والفلسفة ثم العلوم الطبيعية]
شهد القرن الخامس قبل الميلاد ذروة مجد الآداب وشهد القرن الرابع ازدهار الفلسفة وشهد القرن الثالث ذروة مجد العلوم الطبيعية. ذلك أن الملوك كانوا أكثر من الديمقراطيات تسامحاً في البحث العلمي وأكثر منها تشجيعاً له.
[من أعظم الظلم أن ترى الناس بمعاييرك الشخصية]
عند النظر في عادات الشعوب الأخرى يجب أن نذكر أنفسنا تذكيراً لا ينقطع بأن تقاليد الشعوب الأخرى لا يمكن الحكم عليها حكماً يقبله العقل وفق تشريعنا الخلقي يقول تود: "فالباحث السطحي النظر الذي يطبق معياره هو على عادات الأمم كلها يرثى لحالة المرأة الهندية في تدهورها رثاء يدفعه إليه عطف إنساني مفتعل لأنه سيجد تلك المرأة قليلة الرغبة في مشاركته تلك العاطفة"
[الإنصاف في نقد الحضارات]
لا يجوز لنا أن نغلو في كبريائنا حين تأخذنا الدهشة لهذه المعارض الحيوانية من آلهة الهنود فلنا كذلك إبليس عدن في صورة حية والثور الذهبي في العهد القديم من الإنجيل والسمك المقدس في سراديب الموتى وحمل الله الوديع.
[مراحل حياة الأمم]
إن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية يقوم الدين إلى جانب مهدها وتصحبها الفلسفة إلى قبرها. ففي بداية الثقافات كلها ترى عقيدة دينية قوية تخفي عن أعين القوم كنه الأشياء وترقق من طبائعها وتبث في قلوبهم من الشجاعة ما يستطيعون به أن يتحملوا الآلام ويقاسوا الصعاب وهم صابرون تقف الآلهة إلى جانبهم في كل خطوة يخطونها ولا تتركهم يهلكون إلا حين يهلكون؛ وحتى في هذه الحال يحملهم إيمانهم القوى على الاعتقاد بأن خطاياهم هي التي أغضبت الآلهة فانتقموا منهم. ذلك أن ما يصيب الناس من شر لا يفقدهم إيمانهم بل يقويه في قلوبهم؛ فإذا جاء النصر وإذا نسوا الحرب لطول ما ألفوه من الأمن والسلام ازدادت ثروتهم؛ واستبدلت الطبقات المسيطرة بحياة الجسم حياة الحواس والعقل وحلّت اللذة والراحة محل الكدح والمتاعب؛ وأضعف العلم الدين بينما يضعف التفكير والدعة ما في الناس من رجولة وصبر على المكاره. وأخيراً يبدأ الناس يرتابون في آلهتهم ويندبون مأساة المعرفة ويلجئون إلى كل لذة عاجلة زائلة يعتصمون بها من سوء مصيرهم. فهم في البداية كأخيل وفي النهاية كأبيقور؛ وبعد داود يأتي أيوب وبعد أيوب يأتي سفر الجامعة.
[القوة أول الحضارات واللين آخرها]
إن كل دولة تبدأ بالعنف ثم تأخذ في طريق الملاينة الذي ينتهي إلى الحرية ذلك إن أمنت على نفسها الخطر.
[مكانة الكتابة]
أوسع خطوة خطاها الإنسان في انتقاله إلى المدنية هي الكتابة .. وقال في موضع آخر : فالظاهر أن الكتابة من نتائج التجارة نستطيع أن نقول إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقاً لأن الكتابة هيأت وسيلة تسجيل المعرفة ونقلها كما كانت وسيلة ازدهار العلم وازدهار الأدب … إن بداية ظهور الكتابة هي الحدُّ الذي يُعَيّن بداية التاريخ
[بر الوالدين وطاعة الزوج وأثرها في المجتمع]
يرى كونفوشيوس أن : المجتمع يقوم على إطاعة الأبناء آباءهم؛ والزوجة زوجها؛ فإذا ذهبت هذه الطاعة حلت محلها الفوضى
[واجبات المرأة بكلام امرأة]
قال أم الفيلسوف منشيس : "ليس من حق المرأة أن تفصل في أمر بنفسها وذلك لأنها تخضع لقاعدة الطاعات الثلاث: فإذا كانت شابة وجب عليها أن تطيع أبويها وإذا تزوجت كان عليها أن تطيع زوجها وإذا ترملت وجب عليها أن تطيع ولدها. وأنت رجل كامل الرجولة وأنا الآن عجوز فافعل ما توحيه إليك عقيدتك بأنه حق واجب عليك أن تفعله وسأفعل أنا ما يوجبه عليّ القانون الذي أأتمر بأمره. فلم إذن تشغل نفسك بي؟ "
[خيرات الأرض دليل رماح المستعمرين]
كان خليقا بمصر أن تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة لأن النيل يرويها ويغذيها ولأنها أكثر بلاد البحر الأبيض المتوسط قدرة على الإكتفاء بخيراتها فهي غنية بالحب والفاكهة وتنتج أرضها ثلاث غلات في العام ولم يكن يعلو عليها بلد آخر في صناعاتها وكانت تصدر الغلات والمصنوعات إلى مائة قطر وقطر وقلما كان يزعجها ويقلق بالها حرب خارجية أو أهلية. ولكن يبدو أن "المصريين" برغم هذه الأسباب -أو لعلهم لهذه الأسباب- "لم نعموا بالحرية يوما واحدا في تاريخهم كلهم" على حد قول يوسفوس. ذلك أن ثروتهم كانت تغري بهم الطغاة أو الفاتحين واحدا في إثر واحد مدى خمسين قرنا من الزمان كانوا فيها يستسلمون لأولئك الطغاة والفاتحين
[الحضارة ثمرة الهمجية]
إن كل حضارة ثمرة من ثمار شجرة الهمجية الصلبة ، وهي تسقط -حين تسقط- عند أبعد نقطة من جذع هذه الشجرة.
[الساميون والسلطة]
من أخص خصائص المجتمعات السامية ارتباط السلطتين الروحية والزمنية في الأسرة وفي الدولة لأنها تأبى أن يكون لها سيد إلا الله وحده.
["لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"]
سئل حبر يهودي عن تفسير الشريعة فيما لا يزيد من الزمن على الوقت الذي يستطيع أن يقف فيه على قدم واحدة فأجابه بقوله: "لا تفعل مع غيرك ما تكرهه لنفسك" وكان هذا القول صورة سلبية حذرة من تلك القاعدة الذهبية التي صاغها اللاويون في صيغتها الموجبة من زمن بعيد. ويضيف التلمود إلى إجابة هلل العبارة الآتية: هذه هي الشريعة كلها وكل ما عدا ذلك شرح وتطبيق عليها
[عند الشدائد تذهب الحريات]
رأت الدولة الرومانية نفسها محاطة بالأعداء من كل جانب ففعلت ما لابد أن تفعله الأمم جميعها في أوقات الحروب التي يتقرر فيها مصيرها فقبلت طغيان زعيم قوي ورضيت أن يفرض عليها ما لا تكاد تطيقه من الضرائب وتخلت عن الحرية الفردية إلى أن تنال الحرية الجماعية
الحضارة العظيمة لا يقضى عليها من الخارج إلا بعد أن تقضي هي على نفسها من الداخل.
[خطر الدخلاء على الأمم]
ظهور قواد للجيش من بين أبناء الولايات واستيلاؤهم على عرش الإمبراطورية كان سببا في القضاء على زعامة إيطاليا بل قل على استقلال إيطاليا قبل سقوط الإمبراطورية في الغرب بزمن طويل ، ذلك أن جيوش روما لم تعد كما كانت من قبل جيوشا رومانية بل كان معظمها يتألف من أبناء الولايات وأكثرهم من البرابرة ولم يكونوا يحاربون دفاعا عن دينهم أو وطنهم بل كانوا يقاتلون لنيل أجورهم وهباتهم ومغانمهم . وقال في موضع آخر : كان أغسطس يشك في إمكان استقرار أحوال بلد يسكنه هذا الخليط المختلف العناصر من الأهلين ويرتاب في ولاء هؤلاء السكان إلى الإمبراطورية ، وهم الذين تجري في عروقهم دماء الشعوب المغلولة على أمرها.
[الترف وأثره في سلطان المرأة وانتشار العهر]
جرت العادة من قديم الزمان أن يقوي سلطان المرأة كلما زادت ثروة المجتمع؛ ذلك أنه إذا امتلأت البطون أخلى الجوع الميدان للحب ولذلك فشت الدعارة في روما وانتشر اللواط حين اتصل الرومان ببلاد اليونان وبلاد آسيا ، وقال في موضع آخر : كان ازدياد الثراء وفساد الأخلاق من أكبر العوامل في الانحلال الخلقي وانفصام رابطة الزواج. وظلت الدعارة منتشرة في البلاد رغم ازدياد التنافس من النساء ومن الرجال.
[ترك القتال وأثره في ذل الأمم]
العبرة المرة التي نستخلصها من هذه المأساة هي أن اليقظة الساهرة أبداً هي ضمان دوام المدنية فالأمة ينبغي أن تحب السلام لكنها يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد للقتال.
[القوة أساس من أسس النهضة]
إن اليابان لم تنس قط ما وقع لها من ذل في عام 1853 ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها أن تعمم التجنيد بل جعلت من كل مدرسة في البلاد معسكرا للتدريب الحربي وثديا يرضع النشء بلبان الحماسة الوطنية؛ وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان أن تخاطب "الأجانب الهمج" مخاطبة الند للند كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءا جزءا وهو أمل طاف برأس أوربا لكنه لم يتحقق لها
[خطر الربا على المجتمعات]
وكان الربا هو الكارثة التي رزئت بها بلاد بابل والثمن الذي أدته تجارتها كما تؤديه الآن تجارتنا نحن .. وقال في موضع آخر : سعر الفائدة يتناسب تناسبا عكسيا مع استقرار المجتمع
["أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"]
كان كل فتح حربي جديد يزيد في ثراء روما كما يزيد في فسادها ووحشيتها ، وكانت قد كسبت كل حرب خاضت غمارها عدا حرب الطبقات ، وأزال تدمير قرطاجنة آخر عائق قائم في سبيل الانقسام والفتن في المدينة وجوزيت روما على تملكها العالم بثروات طاحنة وفتن صماء دامت قرناً من الزمان. وقال في موضع آخر : فشا في الدولة الرومانية التفكك الاجتماعي بعد أن عمها الفساد الأخلاقي بتأثير الثروة التي جاءت في أعقاب النصر الحربي
[(ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)]
قال عن أحد أباطرة الرومان : قد أزعج الناسَ بما كان يتصف به من الاستقامة الصارمة العنيدة والاستمساك بالمبادئ استمساكاً لا يتفق في رأيهم مع روح العصر الذي يعيش فيه ، ذلك أن حياته نفسها كانت اتهاماً لحياتهم لا يغفرونه له ، وكانوا يتمنون أن لو مال قليلاً نحو الرذيلة
[القانون بلا وازع من القلب عبث]
أغسطس نفسه كان يرتاب في قوة هذه الشرائع. وكان يتفق مع هوراس في أن القوانين عبث لا طائل منه إذا لم تتغير القلوب
[ربات المنزل من دعائم الحضارة الرومانية]
كان من وراء هؤلاء النسوة اللاتي اشتهرن ببطولتهن كثيرات من النساء المغمورات اللائي لم يذكر التاريخ أمرهن واللائي كان وفاؤهن لأزواجهن وتضحياتهن في سبيل أبنائهن الدعامة القوية التي أبقت على صرح الحياة الرومانية.
[المساواة والحرية]
المساواة ليست نظاما طبيعيا وحيث تطلق الحرية للكفاية والدهاء فلابد من أن تنشأ الفوارق وتبقى حتى تقضي على نفسها في الفقر الشامل الذي تؤدي إليه الحرب الاجتماعية والذي لا يميز بين من كان في الأصل غنيا ومن كان فقيرا؛ وقصارى القول أن الحرية والمساواة ليستا رفيقين متلازمين بل عدوين متباغضين. وتجمع الثروة يبدأ بأن يكون نظاما محتوما ثم ينتهي بأن يكون نظاما مهلكا مبيدا. وفي ذلك يقول أفلوطرخس: "إن التفاوت في الثراء بين الأغنياء والفقراء قد بلغ غايته حتى بدا أن المدينة قد أضحت في حال تخشى مغبتها وأن ليس ثمة وسيلة تنجيها من الاضطراب ... إلا سلطة استبدادية".
[الحضارة تولد عند قوم وتزدهر عند آخرين ثم يتخطقها الهمج]
كان موقف سومر من بابل وموقف بابل من أشور كموقف كريت من بلاد اليونان وموقف بلاد اليونان من روما. فقد أنشأت المدينة الأولى حضارة وتعهدتها الثانية وأتمتها حتى بلغت ذروتها وورثتها الثالثة وأضافت إليها من عندها وحمتها وأسلمتها وهي تحتضر هدية منها إلى البرابرة الظافرين الذين كانوا يحيطون بها.
[قرب الهمجية من الحضارة ووسائلهم في خطفها]
البربرية تحيط على الدوام بالحضارة وتستقر في وسطها ومن تحتها متحفزة لأن تهاجمها بقوة السلاح أو بالهجرة الجماعية أو بالتوالد غير المحدود.
[وميض المدنية بين وهج الهمجية]
حقاً إن المدنية ليست إلا فترة عارضة موقوتة تتخلل وحشية الغابات.
[أثر الحرب] [الملكية أُمّ الدولة وأبوها القتال]
لم يكن للنتائج المترتبة على الحروب نهاية تقف عندها فقد كانت عاملاُ لا يرحم في اقتلاع الشعوب الضعيفة والقضاء عليها ورفعت مستوى الإنسان من حيث الشجاعة والعنف والقسوة والذكاء والمهارة؛ وحفزت الإنسان على الاختراع وأدت إلى صنع آلات أصبحت فيما بعد أدوات نافعة وإلى اصطناع فنون للحرب سرعان ما انقلبت فنونا للسلم؛ "فكم من السكك الحديدية اليوم تبدأ على أنها جزء من خطة القتال ثم تنتهي وسيلة من وسائل التجارة! " وفوق هذا كله عملت الحرب على انحلال الشيوعية والفوضى اللذين سادا الجماعات البدائية وأدخلت في الحياة نظاما وقانونا وأدت إلى استرقاق الأسرى وإخضاع الطبقات وقيام الحكومات؛ فالدولة أمها الملكية وأبوها القتال.
وقال في موضع آخر : وكانت الحكومة الآشورية بقضّها وقضيضها أداة حرب قبل كل شيء. ذلك أن الحرب كثيرا ما كانت أنفع لها من السلم فقد كانت تثبت النظام وتقوي روح الوطنية وتزيد سلطان الملوك وتأتي بالمغانم الكثيرة لتغني بها العاصمة وبالعبيد لخدمتها.
وقال في موضع آخر : وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية وذلك لتسيير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضاً في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار
[عناصر الحضارة المادية الأربعة]
تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.