فوائد من كتاب (الرد على المنطقيين) لابن تيمية
المقصود أنهم جعلوا المجربات والمتواترات مما يختص به من حصل له ذلك فلا يصلح أن يحتج به على غيره .. ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الإلحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها يقول احد هؤلاء بناء على هذا الفرق: «هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على» فيقال له «اسمع كما سمع غيرك وحينئذ يحصل لك العلم».
وإنما هذا كقول من يقول رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس وأنا لم أره فيقال له أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين.
وكمن يقول: «العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر وأنا لا أنظر أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر».
ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها.
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة.
فلذلك قال تعالى: ﴿وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم﴾.
وقال تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا﴾.
وقال تعالى: ﴿وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا﴾.
وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك
أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.
وقال تعالى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا﴾.
وقال: ﴿ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون﴾.
ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث والسنة من الآثار النبوية والسلفية المعلومة عندهم بل المتواترة عندهم عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين لهم بإحسان.
قال تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾.
وقال تعالى: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾.
وقال تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا﴾ قالت طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال تعالى هؤلاء الذين تدعونهم يتوسلون إلى كما تتوسلون إلى ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة
والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}.
وقال تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾.
وقال تعالى: ﴿وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾.
وقال تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾.
أو يفعلون كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل حيث اخذ يذكر المفاضلة بين الأرواح العلوية وبين الأنبياء ويجعل إثبات هذه وسائط أولى من تلك تفضيلا لأقوال الحنفاء على أقوال الصابئة وهذا غلط عظيم.
فان الحنفاء لا يثبتون بين الله وبين مخلوقاته واسطة في عبادته وسؤاله وإنما يثبتون الوسائط في تبليغ رسالاته فأصل الحنفاء شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا وغيره من الرسل رسل الله.
كان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الإسلام فقال ليس للإسلام فلاسفة
وهم أكثر ما ينفقون على من لا يفهم ما يقولونه ويعظمهم بالجهل والوهم أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ وما يعرف بالعقول السليمة وما قاله سائر العقلاء مناقضا لما قالوه وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقه واقترن بها حسن الظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله.
ثم أن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبر أهم منهم بل وردهم عليهم وإلا بقى في الضلال.
وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه.
واتفق أن فيه أمورا ظاهرة مثل الشكل الأول ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه بل طولوا فيه الطريق وسلكوا الوعر والضيق ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق.
أصل الشرك من تعظيم القبور وعبادة الكواكب:
والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين:
أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح قال ابن عباس: «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام» وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ «أن نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض» ولهذا لم يذكر الله في القرآن قبله رسولا فان الشرك إنما ظهر في زمانه.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس وذكره أهل التفسير والسير من غير واحد من السلف في قوله تعالى: ﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا﴾ «أن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم» وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب وذكر ابن عباس قبائل العرب التي كانت فيهم مثل هذه الأصنام
والسبب الثاني: عبادة الكواكب فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب ويتكلمون عليها بالشرك والكفر فتأتى الشياطين فتكلمهم وتقضى بعض حوائجهم ويسمونها روحانية الكواكب وهي الشيطان أو الشيطانة التي تضلهم.
والكتاب الذي صنفه بعض الناس وسماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فان هذا كان شرك الكلدانيين والكشدانيين وهم الذين بعث إليهم الخليل صلوات الله عليه وهذا أعظم أنواع السحر ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد».
الأنبياء جميعهم وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين موحدين لم يكن قط دين يقبله الله غير الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: ﴿واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون﴾ وقال تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ وقال تعالى: ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا أنه ليس بيني وبينه نبي» وقد أخبر
الله في القرآن عن جميع الأنبياء وأممهم من نوح إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين مؤمنين كما قد بسط في موضع آخر.
وقد قال تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم وذكرهم الله في آيتين من كتابه هذه السورة وفي قوله: ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا﴾
وقال تعالى: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون﴾ وقال تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون﴾
وقال تعالى: ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة﴾ كما قال في يونس {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.}
طريقة القرآن في بيان إمكان المعاد:
فتارة يخبر عمن اماتهم ثم احياهم كما اخبر عن قوم موسى بقوله: ﴿وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون﴾
وكما اخبر عن المضروب بالبقرة بقوله: ﴿فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى﴾ وكما اخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: ﴿موتوا ثم أحياهم﴾.
وكما اخبر عن: ﴿أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ وعن إبراهيم: ﴿وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم﴾ وكما اخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان يحيى الموتى باذن الله.
وكما اخبر عن أصحاب الكهف أنهم لبثوا نياما في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وقال تعالى: ﴿وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم﴾ وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الناس كانوا قد تنازعوا في زمانهم هل يبعث الله الارواح فقط أو يبعث الارواح والاجساد فأعثر الله هؤلاء على أهل الكهف وعلموا أنهم بقوا نياما لا يأكلون ولا يشربون ثلثمائة سنة شمسية وهي ثلثمائة وتسع هلالية فأعلمهم الله بذلك إمكان إعادة الأبدان فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} وكما في قوله: ﴿والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور﴾.
تعليم الأنبياء جامع للادلة العقلية والسمعية جميعا بخلاف الذين خالفوهم فان تعليمهم غير مفيد للادلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم ببالغيه كما قال تعالى: ﴿إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله أنه هو السميع البصير﴾ وقال: ﴿الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار﴾ وقال تعالى: ﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون﴾ ومثل هذا كثير في القران
فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية فقد ينتفع بالدليل الخفي والحد الخفي بعض الناس وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبا به وقد لا يسلمه حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته فانه يسلمه وكذلك إذا ذكر له حد يميزه وهذا في الغالب يكون من معاند أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه وفكرت فيه وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة فان العادة طبيعة ثانية فكثير ممن تعود البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له لا يعرف ولا يقبل ولا يسلم إلا ما حصل له بعد بحث ونظر بل وجدل ومنع ومعارضة فحينئذ يعرف به ويقبله ويسلمه وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة لا تحتاج إلى بحث ونظر فالطريق الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر وتنفع في المناظرة لقطع المعاند وتبكيت الجاحد.
فان السفسطة أمر يعرض لكثير من النفوس وهي جحد الحق
القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقهم واختلافهم فإنهم يكونوا أضل كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي ﷺ أنه قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ثم قرأ قوله: ﴿ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون﴾ إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾
ولهذا قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ وقد أنزل مع رسله الكتاب والميزان كما قال تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز﴾ وقال: ﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان﴾.
وقد أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ وقال تعالى: ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾ وقال: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات﴾ وقد اخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾. ولهذا يوجد اتبع الناس للرسول أقلهم اختلافا كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافا من جميع الطوائف
قال سبحانه وتعالى: ﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان﴾ وقال: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر أنه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط.
فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها .. فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به.
ا وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة.
ليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله.
والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: ﴿أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون﴾ وقوله: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون﴾ أي هذا حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال: ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ ومن التسوية بين المتماثلين قوله: ﴿أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر﴾ وقوله: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا﴾
وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كإنزاله الإيمان وهو الأمانة معهم والإيمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: «حدثنا رسول الله ﷺ حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الأمانة» قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شيء» فقد بين في هذا الحديث
أن الأمانة التي هي الإيمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الأصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الإيمان وانزله في القلوب.
قال في الرد على منكري التواتر : يقال لهم من المعلوم بالاضطرار أن تواتر خروج محمد ﷺ ومجيئه بهذا القرآن أعظم عند أهل الأرض من تواتر وجود الفلاسفة كلهم فضلا عما يخبرون به من القضايا التجربية والحدسية التي استدلوا بها على الطبيعيات والفلكيات وكذلك ما تواتر من سائر معجزاته وما تواتر من أخبار موسى والمسيح صلوات الله عليهما هذا معلوم عند الناس أعظم من تواتر وجود أولئك فضلا عن تواتر ما يخبرون به.
ثم عرف أرسطوا بهذه الكتب المنسوبة إليه كما عرف بطليموس المجسطى وكما عرف ابقراط وجالينوس بما ينسب إليهما من كتب الطب وإلا فأي شيء هو الذي تواتر عند الناس من أخبار هؤلاء فضلا عن أن يتواتر عنهم ما يذكرونه في كتبهم من القضايا التجربية والحدسية وغاية ما يوجد أن يقول بطلميوس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أنا أو ذكر لى فلان أنه جربه أو نحو ذلك من الحكايات التي ملأ بها جالينوس كتابه وليس في هذه شيء من المتواتر وإن قدر أن غيره جرب أيضا فذاك خبر واحد.
فالتواتر عزيز عندهم جدا وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالارصاد ما ادعوا أنهم علموه وإذا قيل قد اتفق على ذلك رصد فلان وفلان كان غاية ما عندهم أن يذكروا جماعة رصدوا وهذا غاية أن يكون من المتواتر الخاص الذي ينقله طائفة.
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعى أنه علم عقلي معلوم بالبرهان.
وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالإلهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وصار يتعجب تعجبا لا ينقضي ممن يقرن علم هؤلاء بالإلهيات إلى ما جاءت به الأنبياء ويرى أن هذا من جنس من يقرن الحدادين بالملائكة
وأما ما جاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء البتة وليسوا قريبين منه بل كفار اليهود والنصارى أعلم بالأمور الإلهية ولست أعنى بذلك ما اختص الأنبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم فان هذا ليس من علمهم ولا من علم غيرهم وإنما أعنى العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في أمر معرفة الرب وتوحيده ومعرفة أسمائه وصفاته وفي النبوات والمعاد وما جاءوا به من مصالح الأعمال التي تورث السعادة في الآخرة
أوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ وقال تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ وقال تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ وقال تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ ومثل هذا كثير.
وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الإلهية حتى في الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا
حكمتهم العملية إنما مبناها على أنهم عرفوا أن النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الإفراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الأمور العفة والشجاعة والعدل والعلم.
وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الإسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القرآن والحديث وكلام السلف في مدح هذه الأمور والذين صنفوا في الأخلاق والأعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الأعمال لأبي حامد ومثل أصحاب رسائل إخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الأصل.
حكمتهم غايتها تعديل أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من أقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي أمرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الإنسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء
معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب إلى الإسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في أن الإيمان مجرد العلم بالله.
وإذا قالوا: «سعادة النفس أن تشهد الله وتراه» فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق أو من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها إذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الأحياء أو غيره قال: «هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها» هذه هي الرؤية عندهم
تكلم عن الأقوال في تفسير بعض الآيات ثم قال : فهذه الأقوال ذكرها الثعلبي وأمثاله ولم يسموا قائلها وذكرها أبو الفرج ابن لجوزي إلا السادس وسمي قائل الأولين وذكر أنهم المنافقون عن الثوري وهذه الأقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالإسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الأسانيد كتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير أبي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وأمثال هذه التفاسير وما نقل عن ابن عباس لا يثبت.
وأما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله وأثنى عليهم وبعض الناس يقول أن بقراط كان من هؤلاء.
ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الأمم المتقدمة وقد روى ابن أبي حاتم بالإسناد الثابت أنه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون؟ قال: «الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا» وكذلك روى عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: «هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين» قال: «وروى عن علماء نحو ذلك» أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك أنهم كفار فان الله قد أثنى على بعضهم فهم متمسكون بالإسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه فان هذا دخل في الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد: «هم قد يقولون لا إله إلا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي».
وأما من قال من السلف: «الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور» كما نقل ذلك عن أبي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء أرادوا من دخل في دين أهل الكتاب منهم وكذلك من قال: «هم صنف من النصارى» كما يروى عن ابن عباس أنه قال: «هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة أوساط رؤؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في أهل الكتاب».
ومن قال: «أنهم يعبدون الملائكة» كما يروي عن الحسن قال: «هم قوم يعبدون الملائكة» وعن أبي جعفر الرازي قال: «بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون» فهذا أيضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء أنهم صنفان فمن دان بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا.
اليوم الآخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى: ﴿ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه﴾ وقوله تعالى: ﴿قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم﴾ وقوله تعالى: ﴿زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن﴾ وقوله تعالى: ﴿وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين﴾ إلى قوله: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ويل يومئذ
للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين} وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد﴾ وقوله: ﴿ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق إلى أنصاف أذنيه».
وقوله: ﴿القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ وقوله: ﴿فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية﴾ وقوله: ﴿أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون﴾ وقوله تعالى: ﴿سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره﴾
إلى قوله: ﴿يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه﴾ وقوله تعالى: ﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ وقوله: ﴿فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر﴾ وقوله تعالى: ﴿فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا﴾ وقوله تعالى: ﴿إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾ ومثل هذا في القران كثير.
والنبي ﷺ بدئ أولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الأنبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما: «رؤيا الأنبياء وحي» وقرأ قول إبراهيم عليه السلام ﴿إني أرى في المنام أني أذبحك﴾ ثم أن النبي ﷺ نقل من درجة إلى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به إلى ربه ليلة الإسراء.
لم يقصد أحد الكعبة إلا قصمه الله ، أما الحجاج فلم يقصد إلا ابن الزبير
في الترمذي وغيره «لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر». ، ومع هذا فالصديق أكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ أحيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه أن يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن أشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو أكمل من المحدث وليس بعد أبي بكر صديق أفضل منه ولا بعد عمر محدث أفضل منه.
كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون أهل القلوب أرباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد: «علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم بعلمنا» وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: «إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة» وقال أيضا: «ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر» وقال أبو عثمان النيسابوري: «من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول: ﴿وإن تطيعوه تهتدوا﴾ وقال آخر:»من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال«.
وقيل لأبي يزيد البسطامي: قد قدم شيخ من أصحابك فذهب ليزوره فرآه قد بصق في القبلة فقال:»ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على أدب من آداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره«وهذا الذي فعله أبو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن أبي داود وغيره»أن رجلا كان إماما في مسجد من مساجد الأنصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي ﷺ فرأى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الإمام فنهاهم أن يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا أن رسول الله ﷺ نهانا أن نصلي خلفك فجاء إليه فذكر ذلك له فقال: صدقوا إنك آذيت الله ورسوله«.
وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء:»لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي
على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي»
وقال تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ فذكر سبحانه الأقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه أما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه أمر من الأمور أما أن يكون مالكا مستقلا به وأما أن يكون شريكا فيه وأما أن يكون عونا وظهيرا لرب الأمر وأما أن يكون سائلا محضا وشافعا إلى رب الأمر فإذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به.
برئنا الى الله من معشر / بهم مرض من كتاب الشفا
وكم قلت يا قوم أنتم على / شفا حفرة مالها من شفا
فلما استهانوا بتعريفنا / رجعنا الى الله حتى كفى
فماتوا على دين رسطاليس / وعشنا على سنة المصطفى