فوائد من كتابَي (الأدب الصغير والأدب الكيبر) لابن المقفع

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :

فلا أظنك تجد كتابا بعد الوحيين جمع من الحكم مثل ما جمع ابن المقفع في كتابه هذا مع وجازة الألفاظ وكثرة المعاني وإحكام الكلام .. فدونك بعضا من عظيم غرره ودرره، على أني أرى لك أن تقرأ الكتاب كاملا وتدع هذا المختصر فإنه لن يغني عنه إلا يسيرا ..



يقول ابن المقفع :


جل المنطق بالتعلم، ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه، إلا وهو مروي، متعلم، مأخوذ عن إمام سابق، من كلام أو كتاب.

وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.

فإذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا بديعًا، فليعلم الواصفون المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص؛ وجد ياقوتا، وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه، وما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صانعا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل؛ وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة، وسلكت سبلا؛ جعلها الله ذللا، فصار ذلك شفاء وطعاما، وشرابا منسوبا إليها، مذكورا بها أمرها وصنعتها.

فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه, أويستحسن منه، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدع، فإنه إنما إجتباه كما وصفنا.


أما الحفظ والتعهد، فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة؛ فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته.


إن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبًا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنًا


على العاقل أن يعلم أن الناس مشتركون, مستوون في الحب لما يوافق, والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال، والحزمة والعجزة.

الباب الأول من ذلك:

أن العاقل ينظر فيما يؤذيه, وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب، إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء، إن كان مما يكره، أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا, ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة, والساعات على الساعة.

الباب الثاني من ذلك:

أن ينظر فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرجاء, والخوف فيه موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف, ولا رجاءه في غير المدرك.

فسيتوقى عاجل الذات طلبًا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيًا لبعيده, فإذا صار إلى العاقبة، بدا له أن فراره كان تورطًا وأن طلبه كان تنكبًا.

الباب الثالث من ذلك:

هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف, فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة محروم.


وعلى العاقل مخاصمة نفسه, ومحاسبتها, والقضاء عليها, والإثابة والتنكيل بها.فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه، وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا, فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء، وجد، وتذكير للأمور، وتبكيت للنفس, وتذليل لها

فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بها أخذًا، وأقلهم عنها فيه فترة.


وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا يباشر به القلوب, ويقدع الطماع فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانًا، بإذن الله، من الهلع


وعلى العاقل أنْ يُحْصي على نفْسه مساويها في الدّين [وفي الرّأْي]  وفي الأخْلاق وفي الآداب، فيجْمعُ ذلك كُلّهُ في صدْره أوْ في كتابٍ، ثُمّ يُكْثرُ عرْضهُ على نفْسه، ويُكلّفُها إصْلاحهُ، ويُوظّفُ ذلك عليْها توْظيفًا من إصْلاح الخلّة  والخلّتيْن والخلال في اليوْم أو الجُمُعة أو الشّهْر.


نّ الخصال الصّالحة من البرّ لا تحْيا ولا تنْمى إلاّ بالمُوافقين والمُؤيّدين، وليْس لذي الفضْل قريبٌ ولا حميمٌ أقْرب إليْه [وأحبّ]  ممّنْ وافقهُ على صالح الخصال فزادهُ وثبّتهُ. ولذلك زعم بعْضُ الأوّلين أنّ صُحْبة بليدٍ نشأ مع العُلماء أحبُّ إليْهمْ من صُحْبة لبيبٍ نشأ مع الجُهّال.


وعلى العاقل أنْ لا يكُون راغبًا  إلاّ في إحْدى ثلاث خصالٍ: تزوُّدٍ لمعادٍ، أوْ مرمّةٍ ٤ لمعاشٍ، أوْ لذّةٍ في غيْر محْرمٍ.


ولمْ نر شيْئًا قطُّ إلاّ قدْ أُوتي من قبل الصّغير المُتهاون به. قدْ رأيْنا المُلْك يُؤْتى من العدُوّ المُحْتقر به، ورأيْنا الصّحّة تُؤْتى من الدّاء الّذي لا يُحْفلُ به، ورأيْنا الأنْهار تنْبثقُ من الجدْول الّذي يُسْتخفُّ به. وأقلُّ الأُمُور احْتمالًا للضّياع المُلْكُ


وعلى العاقل أنْ يجْبُن عن الرّأْي  الّذي لا يجدُ عليْه مُوافقًا وإنْ ظنّ أنّهُ على اليقين.


وعلى العاقل أنْ يعْرف أنّ الرّأْي والهوى مُتعاديان، وأنّ من شأْن النّاس تسْويف الرّأْيّ وإسْعاف الهوى. فيُخالف ذلك ويلْتمس أنْ لا يزال هواهُ مُسوّفًا ورأْيُهُ مُسْعفًا.


مُقارفةُ المأْثم - وإنْ كان مُحْتقرًا - مُصيبةٌ جليلةٌ. ولقاءُ الإخْوان - وإنْ كان يسيرًا - غُنْمٌ  حسنٌ.


النّاسُ - إلاّ قليلًا ممّنْ عصم اللهُ - مدْخُولُون ٤ في أُمُورهمْ 

يتناقضُون البُنى ، ويترقّبُون ٤ الدُّول، ويتعايبُون بالهمْز. مُولعُون في الرّخاء بالتّحاسُد، وفي الشّدّة بالتّخاذُل.


كم قد انتزعت الدنيا ممن استمكن منها، واعتكفت له،

فأصبحت الأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم.


إذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيته، ولا تترك من الشر إلا ما كرهته، فقد أطلعت الشيطان على عورتك، وأمكنته من رمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير، فيكرهه إليك، وفيما تكره من الشر، فيحببه إليك.

ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما يحب منه.


الدنيا زخرف، يغلب الجوارح، مالم تغلبه الألباب، والحكيم من يغضي عنه، ولم يشغل به قلبه: اطلع من أدناه فيما وراءه، وذكر لواحق شره، فأكل مره، وشرب كدره؛ ليحلولي له، ويصفو في طول من إقامة العيش الذي يبقى ويدوم، غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه، ولم يأته من طريق هواه.


الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة، فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على السنة الجهال، على جهالتهم بهما وعماهم عنهما.


أحكم الناس أبعدهم عن الشك في الله ، وآخذهم بالرأي أتركُهُم للهوى ،  وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي


فصل ما بين الدين والرأي، أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبت بالخصومة، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين رأيًا، ومن جعل الرأي دينًا فقد صار شارعًا، ومن كان هو يشرع لنفسه الدين، فلا دين له.

قد يشتبه الدين والرأي في أماكن، لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل.


العجب آفة العقل، واللجاجة قعود الهوى،  والحمية سبب الجهل، والأنف توأم السفه، والمنافسة أخت العداوة.


إذا هممت بخير، فبادر هواك، لا يغلبك؛ فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم.


التوفيق في التعلم أن يكون وجه الرجل الذي يتوجه فيه من العلم والأدب فيما يوافق طاعة، ويكون له عنده محمل وقبول، فلا يذهب عناؤه في غير غناء، ولا تفنى أيامه في غير درك، ولا يستفرغ نصيبه فيما لا ينجع فيه، ولا يكون كرجل أراد أن يعمر أرضا تهمة، فغرسها جوزًا ولوزًا، وأرضًا جلسًا، فغرسها نخلًا وموزًا.

مما يدل على معرفة الله، وسبب الإيمان، أن يوكل بالغيب لكل ظاهر من الدنيا، صغير أو كبير، عينًا، فهو يصرفه، ويحركه، فمن كان معتبرًا بالجليل من ذلك، فلينظر إلى السماء، فسيعلم أن لها ربًا يُجري فلكها، ويدبر أمرها، ومن اعتبر بالصغير، فلينظر إلى حبة الخردل فسيعرف أن لها مدبرًا بنبتها، ويزكيها، ويقدر لها أقواتها من الأرض والماء، يوقت لها زمان نباتها، وزمان تهشمها، وأمر النبوة والأحلام، وما يحدث في أنفس الناس من حيث لا يعلمون، ثم يظهر منهم بالقول والفعل، ثم اجتماع العلماء والجهال والمهتدين والضلال على ذكر الله، وتعظيمه، واجتماع من شك في الله، وكذب به على الإقرار بأنهم أنشئوا حديثًا، ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم.

فكل ذلك يهدي إلى الله، ويدل على الذي كانت منه هذه الأمور، مع ما يزيد ذلك يقينًا عند المؤمنين، بأن الله حق كبير، ولا يقدر أحد على يوقن أنه بالباطل.


مما يدل على علم العالم معرفته ما يدرك من الأمور، وإمساكه عما لا يدرك، وتزيينه نفسه بالمكارم، وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر ولا عجب، ومعرفته زمانه الذي هو فيه، وبصره بالناس، وأخذه بالقسط، وإرشاده المسترشد، وحسن مخالفته خلطاءه، وتسويته بين قلبه ولسانه، وتحريه العدل في كل أمر، ورحب ذرعه فيما نابه، واحتجاجه بالحجج فيما عمل، وحسن تبصيره.


إن مخافة العالم مذمة العلماء أشد من مخافته عقوبة السلطان.


حياة الشيطان ترك العلم


لا ينبغي للمرء أن يعتدّ بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوو الألباب، ولم يجامعوه عليه؛ فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد.


أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك.


وأنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير، وأن لا تكترث من الشر بما لم يصبْك.


ومن أحسن ذوي العقول عقلًا من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرًا لا يفسد عليه واحدًا منهما نفاد الآخر، فإن أعياه ذلك رفض الأدنى، وآثر عليه الأعظم.


وقال: المؤمن بشيء من الأشياء، وإن كان سحرًا، خير ممن لا يؤمن بشيء، ولا يرجو معادًا.


رأس الذنوب الكذب: هو يؤسسها، وهو يتفقدها، ويثبتها، ويتلوّن ثلاثة ألوان: بالأمنية، والجحود، والجدل، يبدو لصاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من الشهوات، فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفى، فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة، فإن أعياه ذلك ختم بالجدل، فخاصم عن الباطل، ووضع له الحجج، والتمس به التثبت، وكابر به الحق حتى يكون مسارعًا للضلالة، ومكابرًا بالفواحش.


لا يثبت دين المرء على حالة واحدة أبدًا، ولكنه لا يزال إما زائدًا وإما ناقصًا.


وكان يقال: إذا تخالجتك الأمور، فاشتغل بأعظمها خطرًا، فإن لم تستبن ذلك، فأرجاها دركًا، فإن اشتبه ذلك، فأجدرها أن لا يكون له مرجوع، حتى تولي فرصته.


أما اللذان تحتاج إلى تجربتهما؛ فإن أحدهما بر كان مع أبرار، والآخر فاجر كان مع فجار، فإنك لا تدري لعل البر منهما، إذا خالط الفجار أن يتبدل، فيصير فاجرا، ولعل الفاجر منهما، إذا خالط الأبرار أن يتبدل برًّا، فيتبدل البر فاجرًا، والفاجر برًّا. وأما اللذان قد كفيت تجربتهما، وتبين لك ضوء أمرهما، فإن أحدهما فاجرٌ كان في أبرار، والآخر برٌّ كان في فجار.


كان يقال: عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنه صواب تهاون، والتهاون آفة الدين، وإقدامه على ما لا يدري، أصواب هو أم خطأ جماح٤، والجماح آفة العقل.


حق على العاقل أن يتخذ مرآتين؛ فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه، فيتصاغر بها، ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناس، فيحليهم بها، ويأخذ ما استطاع منها.


المروءات كلها تبع للعقل، والرأي تبع للتجربة


أصل العقل التثبت


لا يستخف ذو العقل بأحد.

وأحق من لم يُستخف به ثلاثة: الأتقياء، والولاة، والإخوان، فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته.


من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست: العلم، والتوفيق، والفرصة، والأعوان، والأدب، والاجتهاد.


يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس.


لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه، وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها.


السعيد يرغبه الله في الآخرة حتى يقول: لا شيء غيرها، فإذا هضم دنياه، وزهد فيها لآخرته، لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا، ولم ينقصه من سروره فيها.

والشقي يرغبه الشيطان في الدنيا حتى يقول: لا شيئ غيرها، فيجعل الله له النغيص في الدنيا التي آثر، مع الحزي الذي يلقى بعدها.


من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه


فضل العلم في غير الدين ملهكة، وكثرة الأدب في غير رضوان الله، ومنفعة الأخيار قائد إلى النار.

والحفظ الذاكي الواعي لغير العلم النافع مضرٌّ بالعمل الصالح، والعقل غير الوازع عن الذنوب خازن الشيطان.


لا يؤمننك شر الجاهل قرابة، ولا جوار، ولا إلف.


كان يقال: قارب عدوك بعض المقاربة، تنلْ حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة، فجترئ عليك عدوك، وتذل نفسك، ويرغب عنك ناصرك.


الحازم لا يأمن عدوه على حال: إن كان بعيدًا لم يأمن مغاورته، وإن كان قريبًا لم يأمن مواثبته، وإن كان منكشفًا لم يأمن استطراده٤ وكمينه، وإن رأه وحيدًا لم يأمن مكرهُ.


الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي يتحصين الأسرار.


إن المستشير، وإن كان أفضل من المستشار رأيًا، فهو يزداد برأيه رأيًا، كما تزداد النار بالودك ضوءًا.


صرعة اللين أشد استئصالًا من صرعة المكابرة


أربعة أشياء لا يستقل منها قليل: النار، والمرض، والعدو، والدّيْن.


الكريم يمنح الرجل مودته عن لقية واحدة، أو معرفة يوم، واللئيم لا يصل أحدًا إلا عن رغبة أو رهبة.


وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب؛ لأنه لا يزال بخلّة الحرص والشره.


وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضى. وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضل البرّ الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون ومالا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل عليه، وليس من الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غمّ فقدهم.


لايتم حسن الكلام إلا بجسن العمل، كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو لم يتداو به لم يغنه علمه.


قيل في أشياء ليس لها ثبات، ولا بقاء: ظل الغمام، وخلة الأشرار، وعشق النساء، والنبأ الكاذب، والمال الكثير.


وقل ما ترانا نخلف عقبة من البلاء، إلا صرنا في أخرى.


الأدب الكبير

ولم نجد المتقدمين غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه: لا في تعظيم لله، ﷿، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا، وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وتوضيح سبلها، وتبين مآخذها، ولا في وجه من وجوه الأدب، وضروب الأخلاق.

فلم يبق في جليل الأمر، ولا صغيره لقائل بعدهم مقال.


يا طالب الأدب إن كنت نوع العلم تريد، فاعرف الأصول والفصول، فإن كثيرًا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون دركهم دركًا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل، فهو أفضل.

فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنه،

وأصل الأمر في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافًا، ثم إن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد، ومضاره، والانتفاع بذلك كله، فهو أفضل.

وأصل الأمر في البأس والشجاعة ألا تحدث نفسك بالإدبار، وأصحابك مقبلون على عدوهم، ثم إن قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر٤، فهو أفضل.

وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق على أهلها، ثم إن قدرات أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطول٥ على من لا حق له، فافعل، فهو أفضل.

وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط٦ بالتحفظ، ثم إن قدرت على بارع الصواب، فهو أفضل.

وأصل الأمر في المعيشة ألا تني٧ عن طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد، وما تنفق، ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها، فإن أعظم الناس في الدنيا خطرًا أحوجهم إلى التقدير


قابل المدح كمادح نفسه


كل أحد حقيق، حين ينظر في أمور الناس، أن يتهم نظره بعين الريبة، وقلبه بعين المقت، فإنهما يزينان الجور، ويحملان على الباطل، ويقبّحان الحسن، ويحسّنان القبيح.


الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.


وكل الناس محتاج إلى التثبُّت.


 الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، أما إذا ولي، فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأنذال والأرذال هم أشد لذلك تصنعًا، وأشد عليه مثابرة


إن ابتليت بصحبة والٍ لا يريد صلاح رعيته، فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين، ليس منهما خيار:

إما الميل مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين.

وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا الموت، أو الهرب.


عليك بجواب الحجة في حلم ووقار، ولا تشكّن في أن الغلبة والقوة للحليم أبدًا.


قال عن السلاطين : إن وجدت عنهم، وعن صحبتهم غنى، فأغن عن ذلك نفسك، واعتزله جهدك، فإنه من يأخذ عملهم بحقه، يُحلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحقه، يحتمل الفضيحة في الدنيا، والوزر في الآخرة.


تحزر من سكر السلطان، وسكر المال، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب، فإنه ليس من هذا شيء إلا وهو ريح جنة تسلب العقل، وتذهب بالوقار، وتصرف القلب، والسمع، والبصر، واللسان إلى غير المنافع.


ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحنُّنك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد.


طب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي، مداراة؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم.


إذا أقبل إليك مقبل بوده فسرك ألا يدبر عنك، فلا تنعم الإقبال عليه، والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب٤ لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه، إلا من حفظ بالأدب نفسه، وكابر طبعه.


وإن آنست من نفسك فضلًا فتحرّج أن تذكره، أو تبديه، واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل.


وإن أردت أن تلبس ثوب الوقار، والجمال، وتتحلى بحلية المودة عند العامة، وتسلك الجدد الذي لا خبار٤ فيه، ولا عثار، فكن عالمًا كجاهل، وناطقا كعييٍّ..


احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء.

وذلك أن العدو خصم تصرعه بالحجة، وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ، فإنما حكمه رضاه.


إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمؤاساة، فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان، فتحتمل العار.


اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد، فلا تفرطن في اكتسابهم، وابتغاء الوصلات، والأسباب إليهم.


اعلم أنك لا تصيب الغلبة إلا بالاجتهاد والفضل، وأن قلة الإعداد لمدافعة الطبائع المتطلعة، هو الاستسلام لها. فإنه ليس أحد من الناس إلا وفيه من كل طبيعة سوء غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء،

فأما أن يسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز، فليس في ذلك مطمع، إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لها كلما تطلعت، لم يلبث أن يميتها، حتى كأنها ليست فيه، وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود، فإذا وجدت قادحًا من علة، أو غفلة استورت، كما تستوري النار عند القدح، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلا بعودها الذي كانت فيه.


إن أردت أن تكون داهيًا  فلا تحبّن أن تسمي داهيًا. فإنه من عرف بالدهاء خاتل علانية، وحذره الناس، حتى يمتنع منه الضعيف، ويتعرض له القوي.

وإن من إرب٤ الأريب دفن إربه ما استطاع، حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة في الطريقة.


وإن ابتليت بمحاربة عدوك، فحالف هذه الطريقة التي وصفت لك من استشعار الهيبة، وإظهار الجرأة، والتهاون، وعليك بالحذر، والجد في أمرك، والجرأة في قلبك، حتى تملأ قلبك جراءة، ويستفرغ عملك الحذر.


واعلم أنه قلما بده أحد بشيء يعرفه من نفسه، وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس، فيعيره به معير عند السلطان، أو غيره، إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه، للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البديهة.

فاحذر هذه، وتصنع لها، وخذ أهبتك لبغتاتها، وتقدم في أخذ العتاد لنفيها.


اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء.

ومن البلاء على المغرم بهن، أنه لا ينفك يأجم ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.


إنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده، أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن.

وإنما المرتغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس، كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة، أشد تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء.

ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية، ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفًا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه


اعلم أن فضل الفعل على القول زينة، وفضل القول على الفعل هجنة، وأن إحكام هذه الخلة من غرائب الخلال.


إذا تراكمت عليك الأعمال، فلا تلتمس الروح في مدافعتها، بالروغان منها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها٤، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك.


لا تصاحبن أحدًا، وإن استأنست به أخًا ذا قرابة، أو أخًا ذا مودة، ولا ولدًا إلا بمروءة، ومن فقد من صاحبه صحبة المروءة، ووقارها، وجلالها، أحدث ذلك له في قلبه رقة شأن، وسخف منزلة.


لا يعجبنك إكرام من يكرمك؛ لمنزلة أو لسلطان، فإن السلطان أوشك٥ أمور الدنيا زوالًا، ولا يعجبنك أكرام من يكرمك؛ للمال، فإنه هو الذي يتلو السلطان في سرعة الزوال، ولا يعجبنك إكرامهم إياك؛ للنسب، فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا.


اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة.

فانظر في ما رأيت أو سمعت: أمن قتل في القتال مقبلًا أكثر، أم من قتل مدبرا؟ وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بطلبته؟، أم من يطلب إليك بالشره والزيغ؟


إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك، فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى.

وليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس، والاستغناء عنهم، وليكن افتقارك إليهم في لين كلمتك لهم، وحسن بشرك بهم، وليكن استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك، وبقاء عزك.


واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عابوه، ونصبوا له، ونقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلًا،


إن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعًا من لطفك به في نفسه.


واتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق، ويشكر للمكتئب.



اعلم ان خفض الصوت، وسكون الريح، ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأوٌ٤ ولا عجب


اعلم أن المستشار ليس بكفيل، وأن الرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، ولأنه ليس من أمرها شيء يدركه الحازم، إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي، ثم لم تجد عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه ذنبًا، ولا تلزمه لومًا وعذلًا


إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا، أو دعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر من الدنيا عليك، فلا يغرنك ذلك في نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضجر، واستخذاء، وتغير نفس، عندما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها مما التوى عليك منها. ولو تممت٤ على رفضها، وأمسكت عن طلبها، أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول بأضعاف، ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا، وهي مقبلة عليك، فأسرع إلى إجابتها.


إذا كنت في جماعة قوم أبدًا، فلا تعمن جيلًا من الناس، أو أمة من الأمم بشتم، ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئًا


ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدث الرجل حديثًا تعرفه، ألا تسابقه إليه، وتفتحه عليه، وتشاركه فيه، حتى كأنك

 الجيل: الصنف من الناس، وأهل الزمان الواحد.

تظهر للناس أنك تريد أن يعلموا أنك تعلم مثل الذي يعلم.

وما عليك أن تهنئه بذلك، وتفرده به.

وهذا الباب من أبواب البخل، وأبوابه الغامضة كثيرة.


اعلم أن من تنكب الأمور ما يسمى حذرًا، ومنه ما يسمى خورًا، فإن استطعت أن يكون حبنك من الأمر قبل مواقعتك٤ إياه، فافعل. فإن هذا الحذر، ولا تنغمس فيه ثم تتهيبه، فإن هذا هو الخور


اعلم أن خير طبقات أهل الدنيا طبقة أصفها لك: من لم ترتفع عن الوضيع، ولم تتضع عن الرفيع.


Join