فوائد من كتاب (المسائل والأجوبة) لابن قتيبة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد فهذه نتف مهمة من كتاب ابن قتيبة المسائل والأجوبة وقد صنفتها موضوعيا وبوبت لبعضها أبوابا جعلتها بين معقوفتين .. فلنشرع على بركة الله
العقائد :
- سألني سائل عن قول الله جل وعز: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ .
وقوله للسماء والأرض قبل أن يخلقهما: ﴿ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾ وقال: كيف يأمر معدوما لم يخلقه؟
• والذي عندي أن الناس لم يؤتوا في هذا الباب إلا من جهة تشبيههم أمر الله بأمور الناس، وعلمه بعلمهم، وقد جل تبارك وتعالى عن ذلك لعلمه الشيء قبل أن يكون، وجهلهم الشيء حتى يكون. والسماء والأرض وكل شيء خلقه الله فهو قائم في علمه قبل أن يأتي به الله قيام العلم بصورته وهيئته وكيفيته وتنقله، فيقول لذلك القائم في علمه المستتر عن خلقه: كن: أي اظهر، فيكون أي يظهر عينا موجودا بقدرته .
- سألت عن قول النبي - ﷺ -: «أوتيت الكتاب ومثله معه» ؟
• والكتاب هو القرآن، ومثله يعني السنن التي كان يأتيه بها جبريل - ﷺ -، وليست في الكتاب كرجم المحصن، ونفي البكر، وتحريم نكاح المرأة على عمتها، وخالتها، ومقدار ما يقطع من يد السارق، وأشباه ذلك هذا مما يعمل به المسلمون، وليس له ذكر في الكتاب
سألت عن قول النبي - ﷺ -: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» ؟
• وهذا كلام خرج مخرج الحكم يريد : ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أن يدخل النار، ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة؛ لأن الكبرياء لله - ﷿ -، ولا تكون لغيره، فإذا نازعها الله - ﷿ - لم يكن حكمه أن يدخل الجنة، والله - ﷿ - يفعل بعد ذلك ما يشاء .
ومثل هذا من الكلام قولك في دار رأيتها صغيرة فقلت: لا ينزل هذه الدار أمير، تريد: حكمها، وحكم أمثالها ألا ينزلها الأمراء، وقد يجوز أن ينزلوها. وكذلك قوله: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم» ؛ لأنه رغب عن هدية الله، وصدقته، ولم يعمل برخصته، ويسره، والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم ، وكلاهما مستحق للعقوبة إن عاقبه الله - ﷿ -. وكذلك قوله: ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم﴾ أي حكمه أن يجازيه بذلك، والله - ﷿ - يفعل ما يشاء. وهذا على حديث أبي هريرة عن النبي - ﷺ - أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» .
سألت عن قوله: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ؟
• يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه ميعة الشباب، وحدة، وعجلته، وسفهه، واستصحب التجربة، والخبرة، فلا تدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث، ومع السن الوقار، والجلالة، والهيبة. والحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه، وأفتى هلك، وأهلك.
سألت عن قوله: «من ترك [قتل] الحيات خشية الثأر فقد كفر» وعن أشباه هذا ؟
• والكفر صنفان: أحدهما الكفر بالأصل، كالكفر بالله، جل وعز، أو برسله ، أو بملائكته ، أو بكتبه ، أو بالبعث، وهذا هو الأصل الذي من كفر بشيء منه فقد خرج عن جملة المسلمين، فإن مات لم يرثه ذو قرابته المسلم، ولم يصل عليه .
والآخر الكفر بفرع من الفروع على تأويل، كالكفر بالقدر، والإنكار للمسح على الخفين، وترك إيقاع طلاق الثلاث ، وأشباه هذا. وهذا لا يخرج به عن الإسلام، ولا يقال لمن كفر بشىء منه: آمن ، كما أنه يقال للمنافق: آمن ولا يقال: مؤمن .
[هل عُبد عزير ؟]
أما عزير فإنه أقام لهم التوراة بعينها حين عاد إلى الشام يعرفونها، فقالت طائفة من اليهود: هو ابن الله، ولم يقل ذلك كل اليهود . وهذا خصوص خرج مخرج العموم كما قال: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم﴾ ولم يقل ذلك كل الناس لكل الناس . وقد انقرض هؤلاء اليهود الذين قالوا: ﴿عزير ابن الله﴾، فلم يبق منهم أحد.
- سألت عن حديث عبد الله بن مسعود : «أنذرتكم صعاب المنطق وبحسب المرء من العلم أن يخشى الله» ؟
• أنذرتكم صعاب المنطق: يريد المسائل الدقاق الغوامض. وهذا مثل الحديث الذي يرويه معاوية بن أبي سفيان «نهى رسول الله - ﷺ - عن الأغلوطات» وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين، ولا تكون إلا فيما يقع أبدا كمدبر جنى على مكاتب، وخرساء لاعنها صحيح، وأعمى قذف بزنا، وأشباه ذلك، ثم قال: وبحسب المرء من العلم أن يخشى الله؛ لأنه إذا خشي الله طلب من العلم ما ينفعه، وما يحتاج إليه مثل علم الصلاة والزكاة والصيام والحج وأشباه ذلك، ولم يشغل نفسه بتعلم ما يدق ويخفى مما لا يكاد يقع. ولمثل هذا قال عمر ﵀: «لا تنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا. فإن الشيء إذا كان أعان الله عليه» وقد روى تميم الداري عن النبي - ﷺ -: «ليس في الدين إشكال» يريد أن الذي ينوب الناس منه، ويحتاجون إليه في أنفسهم ليس فيه غموض.
سألت عن حديث رواه مطرف بن طريف عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة قال: «رأيت فيما يرى النائم كأن ملكا عرج السماء فقلت: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت قلت: أخبرني عن أصحاب صفين ، قال: فئتان مؤمنتان اقتتلوا . قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب الجمل قال: فئتان مؤمنتان اقتتلوا . قال: قلت فأخبرني عن أصحاب النهر قال: أولئك الذين نكثوا بيعتهم، وخلعوا إمامهم، فلقوا أبيس بيس لقيه قوم. قال: فعجبت من عربيته» ؟
• قوله: أبيس بيس يريد أشد الأمور التي يقال فيها بئس الشيء
- سألت عن حديث رواه عبد الله بن وهب ، عن الليث بن سعد ، عن عبيد الله بن عمر قال: «تلا يحيى بن سعيد يوما هذه الآية ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ فقال جميل بن نباتة: يا أبا سعيد، أرأيت السحر من خزائن الله فقال يحيى: مه ما هذه من مسائل المسلمين، وأفحم القوم» فقال عبد الله بن أبي حبيب: إن أبا سعيد ليس من أصحاب الخصومة، وإنما هو إمام من أئمة المسلمين، ولكن على ما قيل: إن السحر لا يضر إلا بإذن الله. أفتقول أنت غير ذلك؟ قال: فسكت فلم يقل شيئا. فقال عبيد الله، فكأنما كان علينا حمل فوضع.
قلت أنت: وهذا عندي إعراض عن الجواب، وقد صدقت في قولك إنه ليس جوابا بينا ولا مقنعا؟
• والذي عندي في قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾ أنه من العام الذي أريد به الخاص، كقوله: ﴿تدمر كل شيء بأمر ربها﴾ أي تدمر الريح كل شيء . مثله: ﴿وأوتيت من كل شيء﴾ أتيته الملوك كذلك قوله: ﴿وإن من شيء﴾ يريد من الرزق ﴿إلا عندنا خزائنه﴾ فأضمر الرزق،
- سألت عن قول أرطاة : «المنذر المهدي قرشي يمان ليس من ذي ولا ذو» ؟
• يقول: قرشي، ومنشؤه ومخرجه من اليمن، وليس من ذي ولا ذو، يريد وليس نسبه نسبهم، فيكون من ذي رعين أو ذي فائش أو ذي يزن وأشباه هذا مما كانت ملوك حمير تكتني به،
- سألت عن حديث قيل فيه: «من حلف بغير الله أشرك» وقلت: فسره بعض الناس، فقال: هو أن يحلف برب سوى الله، فيكون حينئذ مشركا. وهل يلحق هذا من قال: وحقك لا فعلت، وحقك لأفعلن؟
• والذي عندي أنه لم يرد بقوله: فقد أشرك أي كفر، وخرج عن الإسلام، وإنما أراد أنه قد أشرك بينه وبين الله في القسم إذا حلف به كما حلف بالله.
ونحوه الحديث الآخر الذي سألت عنه، وهو قوله : «قليل الرياء شرك» أراد: الرجل يرائي بعمله الناس ليحمدوه، ويثنوا عليه. ألا ترى أنه إذا فعل ذلك فقد جعل بعض عمله للناس كما جعل نعمته لله. وقال الله جل وعز: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ في عبادة الله، فيجعل بعضها ربا له، وبعضها لله. وقال في قصة آدم، وحواء: ﴿فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما﴾ وإنما جعلا له الشركاء بالتسمية، لا بالنية والعقد ، إذ سمياه عبد الحارث. فأما من قال: وحقك، وعيشك، وحياتك، وجدك، فليس من هذا في شيء؛ لأنه من اللغو الذي يستعمله الناس في ألفاظهم، ولا يتعمدونه، ولا ينوون البر فيه، وإنما الشرك في اليمين أن تقصد الشيء بعينه، فتحلف به متعمدا له، وتنوي البر في ذلك والوفاء كما يفعل الحالفون بالله. وإذا كان اللغو في الحلف بالله غير مؤاخذ به كان في الحلف بغيره أحرى ألا يؤاخذه به.
وقد روي في بعض الحديث أن رسول الله - ﷺ - قال للهجنع : «وأبيك إن هذا هو الجوع» على ما يستعمل الناس بغير قصد إلى القسم كما كان يقال له بأبي أنت، وأمي يراد «أفديك بأبي وأمي» والقائل يعلم أن هذا لا يكون، وكذلك السامع.
- سألت عن حديث النبي - ﷺ -: «الإيمان نيف وسبعون بابا؛ أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» وقلت: أتقول لمن لم يمط الأذى عن الطريق ناقص الإيمان؟
• أما وجه هذا الحديث فالإيمان صنفان أصل وفرع. فالأصل الشهادتان والتصديق بالبعث والجنة والنار والملائكة وبكل ما أخبر الله به في كتابه وأشباه هذا مما خبر به رسوله عنه، وهذا هو الأمر الذي من كفر بشيء منه فقد خرج من الإيمان، ولا يقال له: مؤمن، ولا ناقص الإيمان.
ومن الأصول الصلاة والزكاة والصوم وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وهذا هو الأمر الذي من آمن بأنه مفروض عليه، ثم قصر في بعضه بتوان أو اشتغال فهو ناقص الإيمان حتى يتوب ويراجع. وكذلك الكبائر إن لابسها غير مستحل لها فهو ناقص الإيمان حتى ينزع عنها. وأما الفروع فإماطة الأذى من الإيمان، وإفشاء السلام من الإيمان، وأشباه هذا. ولا يقال لمن فعل من هذا شيئا وترك شيئا ناقص الإيمان، لأنه فرع من فروعه. والأصل الذي يكون به النقصان أو التمام سالم، ولأن هذه الخلال متفرقة في الناس، ففي الواحد منهم عشر خلال منها، وفي الآخر خمس، وفي آخر عشرون، وكلهم، إذا كان مؤمنا بالأصول مجتنبا للكبائر مواظبا على الفروض، تام الإيمان. ومثل هذا مثل شجرتين في إحداهما ثلاثون فرعا من الغصون، وفي الأخرى عشرون فرعا من الغصون، وهما جميعا تامتان، ولا يقال هذه شجرة تامة أو ناقصة.
- سألت عن حديث عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام: «إن من أشراط الساعة أن يرفع الأشرار ويوضع الأخيار وتقرأ المثناة على رؤوس الناس ليس لها مغير. قيل: يا رسول الله وما المثناة؟ قال: كل كتاب ليس من كتاب الله» ؟
• ومتأول هذا بعيد من الصواب، ولولا هذه الأحاديث المنقولة إلينا لم نعرف بالكتاب أكثر ديننا لأنه يأتي مجمل يفصله الحديث، ومشكل يبين مراد الله فيه الرسول، وهذا بين كثير لا يحتاج إلى الإطالة. وإنما المثناة هاهنا شيء ولده أهل الكتاب، ونسبوه إلى الله جل وعز، يقول الله: ﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾ . وإنما سمي مثناة لأنهم ذكروا أن الله أنزله بعد الكتاب الذي كان في أيدي الناس، كأنه ثني به، ونسخ به أشياء، وأحل به أشياء كان حرمها.
القرآن
[العرب قد يخفلى على بعضها بعض القرآن]
* والعرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب، والمتشابه، بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض؛ والدليل عليه قول الله جل وعز : ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ ونحن نذهب إلى أن الراسخين في العلم يعلمونه على ما بينا، فأعلمنا الله تبارك وتعالى أن من القرآن ما لا يعلمه من العرب إلا من رسخ في العلم. ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول الله إنك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه ونحن العرب حقا. فقال: «إن ربي علمني فتعلمت» ،
[السؤال 72 ص 208 فصل القول في قول الله (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) واختار الوصل]
تأويل قول إبراهيم - ﷺ -: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ أن يطمئن بيقين النظر. واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين البصر. ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النبي - ﷺ -: «ليس المخبر كالمعاين» . حين ذكر قوم موسى ..
الحديث
سألت عن قول النبي - ﷺ - للمستحاضة: «خذي فرصة ممسكة» . وقلت: إن بعض الفقهاء يذهب إلى أنها المطيبة بالمسك ، وبعضهم يذهب إلى أنها المأخوذة من مسك شاة، وهو الجلد ؟
• ولا أرى هذين التفسيرين صحيحين. ومن كان منهم يستطيع أن يمتهن المسك هذا الامتهان حتى يمسح به دم الحيض؟ ولا نعلم في الصوف لتتبع الدم معنى يخصه دون القطن، والخرق . والذي عندي في ذلك، والله وفي اللسان (فرص): «والفرصة: القطعة من الصوف أو القطن، وقيل: هي قطعة قطن، أو خرقة تتمسح بها المرأة من الحيض، وفي الحديث: أنه قال للأنصارية يصف لها الاغتسال من الحيض: خذي فرصة ممسكة فتط
أعلم، أن الناس يقولون للحائض: احتملي معك كذا يريد عالجي به قبلك، واحتشي به، وأمسكي معك كذا، يكنون به، فيكون ذلك أحسن من الإفصاح. فقوله: خذي معك فرصة؛ أي قطعة من قطن، أو صوف، أو خرقة. وقوله: ممسكة: أي محتملة، يريد تحتملينها معك تمسح القبل. والعرب تقول مسكت كتابي بمعنى أمسكت، وتمسكت ، وقال الله : ﴿والذين يمسكون بالكتاب﴾ ، والكتاب على هذا ممسك .
[قول رسول الله للصديق أصبت وأخطأت]
فقال أبو بكر يا رسول الله هل أصبت؟ قال: أصبت، وأخطأت قال: أقسمت يا رسول الله لتخبرني قال: «لا تقسم»، ولم يخبره" .
• والذي عندي في قوله أصبت، وأخطأت أنه أراد أصبت تأويل الرؤيا، وأخطأت في بدارك إلى عبارتها، وقد سئلت عنها أنا، فإني كنت أولى بذلك منك، وقال الله جل وعز: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم﴾ .
يريد ألا تقولوا قبل أن يقول رسول الله، ولا تجيبوا إذا سئل، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تقولوا: يا محمد، ولكن قولوا يا نبي الله ويا رسول الله، وأشباه ذلك.
يقال: فلان يقدم القول بين يدي أبيه، وبين يدي السلطان إذا قال قبل أن يقول ، وليس يجوز أن يكون الخطأ في تأويل الرؤيا، والإصابة فيه؛ لأن التأويل وقع موافقا للحال التي كان عليها رسول الله - ﷺ -، والثلاثة الخلفاء بعده..
- سألت عن قوله: «لا تفضلوني على يونس» ، وهو يقول: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ؟
• وليس هذا بمتناقض، وإنما أراد بقوله: «لا تفضلوني على يونس» طريق التواضع
- سألت عن قول رسول الله - ﷺ -: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» ؟
• وهذا عندنا أريد به المداحون بالباطل كالرجل يلقى الرجل، فيستنزل ما عنده بتقديم مدحه ويجعل ذلك ذريعة إلى ما أمله منه كما يفعل الشعراء، فيقولون: أنت أسرع من الريح وأشد إقداما من السيل وأهيب من الليل وأجرأ من الليث . وإنما كره هذا لأنه كذب؛ ولأنه داعية إلى العجب والكبر؛ ولذلك قال عمر: «المدح هو الذبح» ، ولم يرد به من مدح رجلا بما فيه فقد مدح رسول الله - ﷺ - في الشعر، وفي الخطب، وفي المخاطبة، فلم يحث في وجوه المداحين التراب.
وأما حثو التراب في وجوههم فله معنيان: أحدهما أنه أراد بذلك التغليظ عليهم في رد ما أتوا به، ولم يرد إيقاع الفعل، كما قال في شارب الخمر: «وفي الرابعة إن شرب فاقتلوه» ولم يرد أن يقتل، ولكن غلظ عليه ليتناهى الناس [عن] ذلك. وكما قال: «من قتل عبده قتلناه» ولم يرد بذلك إلا تغليظ الوعيد. والمعنى الآخر أن يقال للمادح بالباطل: بفيك التراب . ونحو هذا قول النبي - ﷺ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولم يرد أنه يدفع إليه حجر، وإنما أراد أنه لا شيء له إلا ما يهينه ولا ينفعه، فيقال له إذا طالب بالولد: الحجر لك. وما أكثر ما يستعمل الناس هذا فيقال لمن طالب بما لا يجب له: لك الحجر.
[القرن كم عام ؟]
والذي عندي في القرن أنه من قولك: فلان قرن لفلان في السن إذا كان لدته، فإذا اجتمع قوم متساوون في أسنانهم أي متقاربون، ثم ماتوا، أو مات أكثرهم، فقد مضى قرن لأن كل واحد منهم قرن لصاحبه هذا فيما لدى أهل الحرب . فأما مدته فإني اعتبرت فيها قول النابغة الجعدي ، وكان قد عمر مئة وعشرين، سنة ثم قال بعد ذلك يذكر أنه أفنى ثلاثة قرون:
لبست أناسا فأفنيتهم … وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم … وكان الإله هو المستآسا
وهذا يدل على أن أولى الأقاويل: القرن أربعون سنة.
[معنى التحيات لله]
الذي عندي أنه إنما قيل: التحيات لله على الجميع لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ويقال لبعضهم: أنعم صباحا، ويقال لبعضهم: اسلم وانعم. وكانت العجم تقول لملوكها: عش ألف سنة: زه هزار سال نوروزخر . ولذلك قال الله جل وعز: ﴿يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر﴾ . وقيل لنا: قولوا في التشهد: التحيات لله، أي هذه الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى عن الملك بها هي لله يراد: هذه الممالك لله. ولو أن قائلا قال في الله ﷿: مالك الأملاك يراد مالك ما تملكه الملوك كان ذلك حسنا كما يقال: ملك الملوك، وسيد السادة، وإله الآلهة، وكذلك له الأملاك يراد له أملاك الملوك.
- سألت عن حديث وابصة ، حين سأل رسول الله - ﷺ - عن البر والإثم فقال له: «البر ما انشرح له صدرك؛ والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه الناس» . وقلت: أيجوز أن يكون الرجل يخبر بشيء من الخير عن النبي - ﷺ - أو أصحابه، فيحيك في صدره، أو ينهى عن الشر، فيكون كذلك أم كيف وجه الكلام؟
• والذي عندي أن هذا يقع في الأمر الذي قد اختلف فيه قديما، فروي عن قوم من السلف أنهم فعلوه، وآخرين كرهوه، أو حرموه، ولا يعلم السامع بالخبرين على أيهما يعمل؟ ولا أي الفريقين يتبع؟ كالمسكر من الشراب، واللعب بالشطرنج، والشهادة [لمجلس] من الغناء، وأشباه هذا. وصدر المؤمن المشفق لا ينشرح إلا [لتركه] والإعراض عنه، فإن هو لم يتركه ومال به الهوى إلا ملابسته فعله، وفي قلبه منه حاز، وإنما حزت هذه الأشياء في القلوب لأن الناس جميعا مجتمعون على أن التارك لها غير معنف ولا ملوم، وأنه أولى بالسلامة في البدء والعاقبة، وأنه أمن من أن يقال له يوم القيامة: ألا شربت، ألا تغنيت، ألا لعبت. والملابس لها، وإن كان مقتديا فيها بقوم، لا يأمن غلطهم، وأن يقال له: ولم شربت؟ ولم تغنيت؟ ولم لعبت؟
فأما حديث عبد الله بن مسعود في قوله للرجل الذي سأله فقال: لي جار يعمل بالربا فيدعوني إلى طعامه فقال: (كل لك مهنؤه وعليه وزره) وهو مع هذا الإثم حواز القلوب، فإن ابن مسعود إمام وعالم لا تقدح في صدره الشكوك قدحها في صدر غيره، فلما سئل عن إجابة صاحب الربا أجاب بما علم، وقال لمن دونة ممن لا يعلم فوق ما قدح في صدرك إنه مؤثم لأنه إذا قدح في قلبك ذلك، ثم ركبته ركبت معصية عندك.
ونحو هذا حديث آخر ذكرته عن الأعمش عن مسلم الملائي عن حبة بن جوين العرني قال: «سمعت عليا يقول: لو أن رجلا صام النهار وقام الليل وقتل بين الركن والمقام لم يحشره الله يوم القيامة إلا مع من كان يرى أنه على هدى» يقول: إذا رأى أنه على حق فهو بالنية له صاحب، وإن لم يعنه، وهذا كقول رسول الله - ﷺ -: «المرء مع من أحب» .
- سألني سائل عن قول رسول الله - ﷺ -: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» وقال: هل يجوز أن يكون أصدق من الأنبياء ومن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟
• والذي عندي أن هذا الكلام لا يوجب ما ذهبت إليه من تقديمه في الصدق على الأنبياء، وعلى أبي بكر وعثمان وعلي وأشباههم؛ إنما نفى أن يكون على الأرض مثله فوقه في الصدق، ولم ينف أن يكون عليها مثله، فتدبر هذا، وتفهمه.
الفقه
- سألت عن حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - ﷺ -: «لعن الله الراشي والمرتشي» وعن حديث ابن مسعود: «أنه أخذ بأرض الحبشة في شيء فرشا دينارين» ؟
• والذي عندي أنه لعن الراشي للسلطان على أن يعطيه على باطل، ويزيل حقا عليه ليذهب به، أو يأخذ له بما لا يلزمه، فهذا الراشي والمرتشي اللذان لعنهما رسول الله.
فأما من وقع في أمر اتهم به، أو قرف بشيء، ولم يكن منه، فأعنته السلطان، ففدى نفسه بماله، فلا جناح عليه. وإنما الجناح على السلطان الذي ظلمه.
- سأل رجل فقال : من أين قلت إن الوضوء من مس الذكر هو غسل اليد؟
• فقلت: لحديث طلق أن النبي - ﷺ - قال: «إنما هو بضعة منك» فقال : وأي حجة لك في ذلك؟ فقلت: إن الحجة فيه في قوله: «من مس فرجه فليتوضأ» وهذا تناقض.
قال: فإن حديث طلق يطعن فيه أصحاب الحديث، قلت من أي وجه؟ قال: لأن طلقا أعرابي، قلت: فما بال الأعراب؟ أليس هم النقلة لكثير من سنن النبي - ﷺ - إلينا؟ أوليس منهم الذين قال الله ﷿ فيهم: ﴿ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله﴾ الآية؟ وبسرة أولى بأن يضعف الحديث بها؛ لأنها امرأة، وقد جعل الله شهادة امرأتين شهادة رجل، قال: فإن حديث طلق قد طعن فيه، وليس بصحيح، قلت: كيف يكون غير صحيح، وجلة أصحاب النبي - ﷺ -، وكبراؤهم، والتابعون عليه ؟ وحديث بسرة ليس عليه إلا ابن عباس، وعدد يسير. فإن كان قوم قد طعنوا في الحديث فقد طعن آخرون في حديث بسرة، وضعفوه باختلاف الألفاظ فيه ، فمرة مروان يقول : حدثتني بسرة، ومرة بعث إليها شرطيا يسألها، فأرسلت إليه معه بالجواب، ومروان ليس كغيره.
يقول لنا إسحاق: حديث بسرة أثبت الأحاديث في الوضوء من مس الذكر، وإذا كان مع هذا الاضطراب أثبت الأحاديث، فما ظنك بغيره؟ قال: فنعمل على أن الحديثين قد تكافأ، أو أحدهما ناسخ للآخر. قلت: أيهما عندك الناسخ، وأيهما المنسوخ؟ قال: حديث بسرة ناسخ لحديث طلق، قلت: لا يجوز هذا، ولا يقوله من يعلم؛ لأن الله ﷿ إنما ينسخ الثقيل بالخفيف، والعسير باليسير، قال ﷿: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ أي نأت بخير منها في الخفة والسهولة.
وكذلك حديث النبي - ﷺ - في «نهيه عن زيارة القبور» فلما ثقل ذلك على الناس أذن لهم [في الزيارة] .
وكذلك نهيه عن ادخار لحوم الأضاحي ثم أذن لهم في ادخارها .
وكذلك قوله في الهلال «إذا غم عليكم فاقدروا له» فلما خفي ذلك على أكثرهم، وشق على من وضح عنده قال. «إن غم عليكم فأكملوا العدة» وحديث بسرة فيه الضيق والمشقة، فلأن ينسخ بحديث طلق أولى، وأحرى، قال: فإن الناس على قديم الأيام وحديثها لم يختلفوا في أن الوضوء الذي أوجبه النبي - ﷺ - من مس الذكر إنما هو وضوء الصلاة، ولم يقل أحد إنه غسل اليد قلت: أما من علم معنى الوضوء من المتقدمين فقد عرف أنه غسل اليد ، فلم عبد الله بن أبي المجالد ، عن أبي الحكم الدمشقي ، أن عبادة بن نسي حدث عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، عن معاذ بن جبل أنه قال: (ليس الوضوء من الرعاف، والقيء، ومس الذكر، وما مسته النار بواجب. فقيل له: إن ناسا يقولون إن رسول الله - ﷺ - قال: «توضؤوا مما مست النار». فقال إن قوما سمعوا، ولم يعوا. كنا نسمي غسل الفم واليدين وضوءا، وليس بواجب.
وأما المتأخرون من أصحاب الحديث فلا علم لهم بمعنى الوضوء في اللغة، وإنما يعرفون وضوء الصلاة، فإذا ورد عليهم معنى الوضوء في حديث ظنوا أنه ذلك، وقد قال قتادة: غسل اليد وضوء، يريد من مس الذكر، والإبط، ولا يجوز أن يكون أراد غسل اليد وضوء قبل الطعام وبعده، لأنه لا يكون في الكلام فائدة لو أراد ذلك. وقال عبد الله بن عمرو مثل قوله، وكيع: وضوء الجنب قبل مناف، غسله يده .
عامة
- سألت عن قول عمر بن الخطاب: «مكسبة فيها بعض الريبة خير من مسألة الناس» ؟
• الريبة والريب: الشك . تقول: كسب يشك فيه، ولا يدرى أحلال هو أم حرام؟ خير من سؤال الناس لمن لم يقدر على الكسب، ونحو هذا: «بين الحلال والحرام مشتبهات فمن اتقاهن كان أعلى لدينه وعرضه» يريد هذه المشتبهات خير من المسألة. فمن المشتبهات العينة
- سألت عن قول رسول الله: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» قلت: وقد قال عمر: «احتجزوا عن الناس بسوء الظن» ؟
• وظننت هذا خلاف ذلك. ولهذا موضع خلاف موضع الآخر، وإنما أراد النبي بقوله: «الظن أكذب الحديث» إذا ظننتم فلا تحققوا كما قال في حديث آخر: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد؛ الطيرة والحسد والظن، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق» .
وأما قول عمر: «احتجزوا من الناس بسوء الظن». فإنه يريد لا تنبسطوا إلى كل الناس، ولا تأنسوا بهم، ولا تفضوا إليهم بأسراركم، فإن ذلك أسلم لكم.
قال المغيرة بن شعبة : للحديث من في العاقل أشهى إلي من الشهد بماء رصفة بمحض الأُرفي .
لأرفي: اللبن المحض الطيب. والرصفة: حجارة ترصف يجتمع فيها ماء المطر.