قراءات( 1 )


على المحك

(نقد أم حسد)

الويل للناقد في أمة لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء ، يطرحها المؤمنون على أقدام تلك الآلهة ثم حسبهم الرضا والشفاعة .

مارون عبود

وقعت ذات يوم على عنوان لكاتب عربي ، لم يدُرْ في خَلَدي أن هذا السّفْر سيكون رفيقاً لي،فما إن وقعت عيني على الجملة الأولى حتى تيقنت أني أمام كاتب عال البيان حاذق بصنعة الفكر والأدب .

وحسْبكَ يا صاح أن تتأمل في العبارة التي أوردتها أعلى المقال بكل أناة فستجد أن الكبار كلهم ومارون منهم كانوا نقاداً سامقين في نقدهم لا يركنون للسائد في مجتمعاتهم بل إنهم يهدمون كثير من هذا السائد ، لا أقصد بهذا الهدم أن ندمر كل معتقدات و أفكار ومسلمات المجتمع و لا النقد لذاته إنما أعني أن يكون لدى المرء حس نقدي يجعله قادرا على أن يتجاوز الأصنام الفكرية وههنا مسألة دقيقة جدا تحتاج لإسهاب فيها لذا حسْبنا أن نبين بعض ما نقصده من هذا الحس النقدي ثم نشرع بالحديث عن الكتاب .

هؤلاء السادة عبدة الأصنام الفكرية يغدون خطرا قاتلا على كل الاشياء عندما يعبدون

نيتشه

هناك خيط رفيع بين عملية النقد التي هي احد مميزات الفكر الفلسفي المختبِر لمسائل المعرفة و بين انتقاد شيء لأجل الانتقاد . فأنت عندما تنقم على الأفكار وتقصي الآراء حولها تعمي بصيرتك عن المعاني الكامنة وراء الحُجُب والتي قد يكون فيها الدر النفيس والمعنى اللطيف والفكرة العالية وهذا يتجلى بوضوح في الصراع بين التيارات المختلفة اليوم فتجد أنهم ينتقدون كل شيء لأجل الحط من التيار المخالف ثم بعد أن يهدموا صرح الآخر ينسلون بكل خلسة متخفين بشعارات رنانة لا تبني عش حمّرة .

أما الأداة الأولى فمساعِدة على التخلص من الأفكار ذات القيمة المنخفضة فتعْمُد إلى هدم تلك الأفكار والبناء عليها -ونعني بالأفكار (كل ما لم ينص عليه الوحي أما ماعداه فيلزم نقده وتمحيصه وبيان الخلل فيه) - بأدوات من جنسها.


فقلم أبي محمد (مارون عبود) قلم ذو حس نقدي فائق ومكنة في المادة التي ينتقدها على أنه ذا نفس ساخر ممتع ولا احصي عدد المرات التي ضحكت فيها أثناء قراءتي .

مقالات أم مقاتلات ؟

وا عجبًا! بل ألف وا عجبًا! كيف يفرقعون والمكاوي بالنار؟! يهولون علينا بأسماء أجنبية طويلة، كأننا نخاف من طول أسماء الأعلام وغرابتها. إن شيء الغريب حلو، كما يقولون، ولكن في عين غيرنا، أما نحن فنحترم هذه المخاخ الكبيرة ونجلُّها، إننا نزورها كغيرنا لنستنير لا لنأخذ، فقد نسايرها وقد نعارضها، فلها كلامها ولنا كلمتنا، والحكم للتاريخ

مارون عبود -على المحك 142

وجد مارون عبود أصحاب زمانه قد اجتث التغريب ذوقهم الأدبي العربي واستبدلوه بالمناهج النقدية الغربية التي استلت من الشعر الأجنبي وليس الشعر واحداً في ماهيته ولو اتفقنا على أن لكل الأمم شعرا فلكل أمة لغتها و أساليبها والشعر يولد فيها قبل النقد (فلا نقد إلا وقبله شعر يمكن أن ينتقد) وهذا يجعل لكل أمة شعراً ذا خصيصة يختص بها دون سائر الأمم .

و المعضلة الأخرى وصفها مارون بقوله عن أهل زمانه من المثقفين ( إذا كتب أحدهم مقالًا لم يَرُقْ لكَ، فالويل لكَ إذا جهرت بعقيدتك، فديوان تفتيشهم يؤدِّبك، وإذا أسمعوك قصيدة ولم تكبِّر — كما أشار مولاي محمد علي منذ سنوات — عند كل بيت، فأنت حسود، وإذا لم تصفِّق لكل شطر فأنت لئيم خبيث، أما إذا نقدت فأنت كافر بالعباقرة، تتهاون بنوابغ الأمة.

يجب أن تقول في الشعراء الكبار — وما أكثرهم عندنا، أتمَّ اللهُ نعمة الشهرة عليهم — ما قاله بيار لويس في فكتور هيغو:


“عندما تقرأ فكتور هيغو يجب أن تقول: هذا سامٍ، هذا فريد، هذا عجيب! وإذا كنتُ لم أفهم فأنا حمار. يجب أن نقول في فكتور هيغو مقال النصارى في يسوع: هذا «إنسان، هذا إله.» وأخيرًا ثلَّث لويس الأقانيم وقال: «الأب والأبن وفيكتور هيغو”) .

إننا نشتغل للدهر العتيد، ولخدمة الجيل الجديد، نشتد على الكبار لنهذِّب

الصغار، فقُلْ: ربِّ لا تجعلني عبرةً لغيري


ص141

لم يرهبه اسم العقاد وقبله طه حسين فهو يكتب ما ترتضيه نفسه ويمليه عليه ضميره فعندما رأى العقاد ركيك الشعر ساطه بسوط النقد بكل قوة لا لأجل شيء بنفسه بل لأنه صادق فالعقاد كاتب سلس اللفظ في تآليفه النثرية أما في الشعر فإن شعره قلما يخرج منه مقطع عال البيان ولو أنه انصرف للنثر فقط لما تجرأ عليه مارون لكن أبا محمد كان يرى النفاق بين الأدباء للعقاد وشعره لا يرقى فحبا به أراد أن يقسو عليه وإن لم يكن حبا فحمية على العربية يقول : (..حتى كان يوم ٢٧ أبريل؛ فإذا بحفلة تُقام للعقاد بمسرح الأزبكية من أجل «نشيد» نظَمَه، فينتصب طه حسين فيها خطيبًا، ويتكلم عن «العقاد الشاعر»، وتكلَّمَ وتكلَّمَ وتكلَّمَ «على لغته» حتى نُودِي بالعقاد أمير شعراء، فحلَّ اليوم — في شرع طه والعقاد — ما لم يَجُزْ البارحة، إنما لنكد طالعهما ويمن طالع الأدب والتاريخ لم يكن في الحفلة شاعر، فكانت الحفلة مفلسة «أدبيًّا» غير مكثور عليها «وطنيًّا»، فكانت إمارته كولاية ابن المعتز، فلم يُحْصَ بين الخلفاء) . و هذا أيضا ما أثار حفيظة مارون أن طه حسين والعقاد أقاما الدنيا وأقعداها على إمارة الشعر ثم لمّا مات شوقي أخمدا تلك الحرب الشعواء فنصّب الأولُ العقادَ أميراً للشعر و الباقعة أن شعر المذكور ضعيف لا يرقى لأن يكون مستحقا لأمارة الشعر به.

يقول : (قلْ معي إذن يا أخي: قاتل الله إمارة الشعر، البشعة أمس، الحلوة اليوم في عيني العقاد! إن هذه الإمارة فتنة عمياء كمنايا زهير؛ فهي في أدبنا بيت الداء، وطلَّابها متخمون حتى الأفواه، يمضغون ما يتجشؤون ويجترُّون، وعلى هذا الضعف في المعدة والأمعاء يحاولون أن يكونوا أمراء، ولما أتى نبأُ إمارة العقاد خليلَ مطران، ظل يردِّد حتى آخِر الليل بيته في علي يوسف:

بَنَاتُ الدَّهْرِ عُوجِي لَا تَهَابِي

خَلَا الْوَادِي مِنَ الْأُسْدِ الْغِضَابِ

هلا، هلا، يا خليل، ففي كل وادٍ أُسْد وأشبال لولا تقليم أظافرها..) ص24.





ثم اردف مقالاته الثلاث الأولى بمقال أحمد الصافي النجفي :

“عسى ألا أغضب الصافي كما أغضبت سواه من رفاق وأصدقاء وخلطاء صبا وشباب”.


استهل هذا المقال بحكاية وصول الديوان إليه بالبريد من الصافي وكيف أن الصافي كان نبيلا لطيفا عندما التقاه ببيروت و أنه أغدق عليه بعبارات الثناء و الإعجاب ثم صور المشاعر التي دارت في نفسه ما بين أن ينصف ويكتب الحقيقة أو أن يستجيب لعاطفته فيدبّج عبارات الثناء المنافقة وهنا انتصر مارون الناقد لتخرج هذه العبارة ( الصافي بائس حقًّا، وشعره بله المبالغة، ينم عن بؤسه) بدأ يحلل ديوان الصافي ويشرحه بمشرطٍ حاد .

(نبئنا الصافي أنه لا يُعنى بشعره، فهل هذا يعفيه؟ فللشعر لغة غير لغة النثر لا بد من امتثال طريقتها لمَن يقوله، وإن نسأل شعراءنا شيئًا فهو الخَلْقُ والإبداع، ليس في الأغراض وفي المعاني فقط، بل في التعابير التي تتغذى من حياتنا الحاضرة) شنع على الصافي أنه لم يجدد في شعره ولم يسبغ عليه لباسه الذي يفرقه عن غيره من الشعراء وأنه اعتمد على أغراض الشعر التي يشاركه غيره فيها من غير أن يضيف لفظا أو صورة ينفرد بها عمن سواه يقول : (إن الصافي توسَّع في أغراض قديمة — ومَن شاء فَلْيُسَمِّ هذا تجديدًا — فضعف تعبيره وتشوَّش عليه التركيب، وقد أدرك هذا قبلنا أحد النقاد الإفرنسيين — أظنه برونتيير — فقال: «إن التجديد يُتعِب الفنَّان ويعجزه.») ثم أردف قائلا :

(اقرأ قصيدة الصافي «الليل والنجوم» التي مهَّد لها الزهاوي فقال لنا: «إنه اكتشف نجمًا جديدًا.» ففي هذه القصيدة ترى ديباجة رصينة، بل عبارات ألفتها وتعوَّدتها، فمن أين هذا؟ إنه أتى من تقليد الصافي للمتقدمين في المعاني والصور، فتوفَّر على تعبيرهم، وأتاك «برواسمهم» التي يجترُّها كل شاعرٍ، فقال لك: بحر الغسق، ونبل الحدق، ورث الحبل وخلق، ونهر المجرة انبثق، وفحمة الليل، وقرن الشمس، وعمود الفجر، وقدح الزند، والفرقدان صاحبان، والأفق درع، وأحمر قان، وأبيض يقق … وهلم جرًّا من هذه البضاعة التي كبَّلت وتكبِّل الفكر العربي).

هنا لابد لي يا صاحبي أن أعود بك لمقطع من مقال الشعراء وهو سابق على مقال الصافي لنفهم مالذي يعنيه مارون بنقده هذا يقول ص24 : (إن معظم شعرنا العربي لا تزال في أنفه الخزامة، وفي حنجرته هدير الفحول، وفي رجله خلاخيل تُخشخِش، لقد صور الجاهليون والعباسيون أنفسهم ومحيطهم في شعرهم، أما نحن فنصوِّرهم هم في شعرنا، كما كان يفعل مصوِّرونا منذ نصف قرن؛ إذ يصوِّرون مار جرجس ومار شليطا ومَن إليهم — كأننا صِبْية مدارس ينسخون المثل ليأخذوا العلامة.

أَمَا كان أولى بالبحتري أن يسأل أبا تمام متى يأكل حين سأله متى ينظم؟ أتسأل الطير متى تغرد، أم الرياح متى تهب، أم النار متى تتَّقِد؟ إن الشاعر يقول متى جاش صدره. عفوًا، لا يفعل هذا إلا شاعر وجد نفسه، أما مَن يفتش عنها بين طلول الجاهليين وخمَّارات العباسيين وقصور الغربيين، فينظم كل ساعة.

يسألون لماذا أخرج المهلهل وعمرو بن كلثوم شعرًا رقيقًا جيَّاشًا، وهما قبل الفرزدق الخشن الذي ينحت من صخر كما قيل فيه؟ فقُلْ لهم إن الفرزدق قال قافية لا يعدلها شعر عربي هلهلةً ورِقَّةَ نسجٍ وهي: «هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ»، وكذلك فعل دعبل الشاعر في قصيدته: «مدارس آيات خلت من تلاوة …» التي احتذى مثالها حافظُ إبراهيم في رثاء الإمام محمد عبده، فكانت خير ما قاله.

ويسألون لماذا يخشن الشاعر الواحد الجاهلي ويرق؟ أليس هذا دليل النحل، كما يزعم نقَّاد اليوم؟ فقُلْ لهم: لا، فالشاعر المطبوع يلبس لكل حالة لبوسها، يخشن ويرق في قصيدة واحدة، فما الشعر إلا عودٌ أوتارُه ألفاظُه، يصفِّفها الشاعر ويُصلِحها لتُخرِج اللحنَ الذي يودُّ.

أما الشاعر المتلمس بين خرائب المتقدمين وقبور المتأخرين، فاكسعه وقُلْ له: ارجع إلى بيتك وفتِّشْ عن نفسك في: حنايا ضلوعك، وثنايا لحافك، وبين جدران مخدعك، وإنْ لم تجدها هناك أولًا فلن تلتقي بها أبدًا.

لا تفتش عليها في شكسبير وشلر وغوت وهيغو وموسه وبودلير؛ فهؤلاء قد عتقوا وإن أبدعوا، ولم يروا ما ترى من العجائب، قُلْ له: انظر يا أعمى القلب، فكلُّ ما حولك يدعوك، فلماذا تزجُّ نفسك في الأعماق كالخلد؟ طالِعْ كتاب الطبيعة فكل كلمة منه جبل، إلا أنها لا تضطرك إلى نظارتين! اسمع يا أطرش، إن أحاديث الدنيا كلها في بيتك، تسمع روزفلت إنْ سعل، والميكادو إن تنحنح … انظر يا أعمى! فالسينما تُرِيك غرائب الكون متحركة ناطقة!

كان أبو تمام فَطِنًا فأخرج معاني جديدة، فلماذا لا تأتي أنت بمثلها؟ إنك عيي ما دمت تسأل: ما ترك الأولُ للآخِرِ؟ الجواب عندي: ترك له الراديو والراديوم والسينماء والطائرات والغازات التي تخنقك …) .

وليس نقده على هذه المسألة فقط بل انتقد التصوير لدى الصافي وجعله أشباه صور وأكثر تشريح أبيات الصافي بأسلوبه الساخر القاسي .

قاتَلَ الله النقد، إنه يسوِّد الوجه

مارون عبود

ثلاث شعراء في مقالة!

ظن بعضهم أننا نتشفَّى بهذه الكلمات التي تذيعها «صوت الأحرار»، وخالوا أننا نحاول الحط من قدر النوابغ والعبقريين، حتى استجهلونا وعدوا ما نكتبه تحامُلًا على أمراء الأدب، وتهجُّمًا على الشعراء العظام. الله! الله! كيف يفوت هؤلاء الأذكياء النبهاء أن الأدب لا يصلح إلا بنقد لا هوادة فيه؟ فعلى المريض أن يقبل العلاج المرَّ، وأن يصبر على مبضع يشرط جلده ليستأصل الدملة قبل أن تستشري، وتمسي آكلة تسرح وترعى . (ص54)

تفكير الزهاوي يستحق الدرس، وهو شاعر — على قلة حظه من النظم — سار إلى غاية، وشمَّر لغرض.
بشارة الخوري (الأخطل الصغير ) :

أخذ مارون يشرّح قصيدة بشارة التي نظمها رثاءً للقائد الكبير إبراهيم هنانو - أحد قادة الثورة السورية على الاستعمار الفرنسي- فما أبقى منها إلا أبيات قليلة و ما سلم بشارة بعد فراغ مارون من نقد قصيدته إلا وسياط النقد تلسعه من كل حدب وصوب في المقالات التالية لهذا المقال .

هل هذا حسد؟

لا بل إنصاف وصدق لأن كاتبنا يريد من هذا أن ينبه بشارة أن شعره الجيد في الغزل يقول :(إن بشارة يجيد الغزل فقط، وعلى النمط العتيق، وبخاصة إذا حُرِم، فعندما تغزَّل في صدر «الحلبية» أجاد التحرق…)

وفي مقال محصول الشهر يقول : (ليتك تنشر يا أخي قصيدة واحدة — ولو عتيقة — من شعرك المطبوع لأقول فيك كلمة طيبة، فقد كدتَ تسيء ظن الناس بي، كما ساء ظننا أجمعين بشاعريتك. فهلا تعود إلى أيامك!)


“يطمع بشارة بخلود هذا الشعر الذي يقوله، ولا يدري أنه كجبن الزكرة لا يسلم طويلًا، فليته يتداركه بملح الشخصية الذي يضاد الفساد والتعفن، ولكن من أين له هذا الملح وهو شاعر تفكير لا شاعر إلهام؟ ترعرع بشارة وفيه كثير من ملامح البهاء زهير، فقال في عنفوان شبابه شعرًا لا أدري كم يعيش، فبعضه شعر حي إنْ فاته التجديد لا يفوته حسن التقليد، فيه شعور حار والحرارة تضمن الحياة إلى أجل ما”.

Join