ماذا بعد المسح الوطني
للصحة النفسية
في المملكة العربية السعودية؟
إعداد وكتابة نايف العيسى
نُشر في 10 أكتوبر 2021
السعودية أتت متراجعةً بشكل كبير عن الدول التي تتصف بدول الدخل المرتفع في تقارير منظمة الصحة العالمية للعام 2019-2018 من حيث متوسط عدد الأخصائيين النفسيين لكل مئة ألف فرد.
في هذا اليوم العاشر من شهر أكتوبر تحتفي منظمة الصحة العالمية بـ ”اليوم العالمي للصحة النفسية 2021“ حيث يترقب العالم أجمع هذا الحدث بعد أن أصبحت الصحة النفسية مَركز الاهتمام خلال الآونة الأخيرة في جميع البلدان حول العالم على حدٍ سواء. ولفَهم السياق الحالي فمن المهم توضيح أن هذا الاهتمام في حقيقة الأمر يأتي بعد تسليط الضوء -بشكل أكبر مما سبق- على الصحة النفسية بعد مطالبات الكثير من المهتمين بالصحة وجودة الحياة بشكل عام بضرورة التعامل الجاد مع تبعات الجائحة -وباء فايروس كورونا المستجد-. والملاحظ في الأوساط العلمية العالمية أن الجائحة قد تمادت بأثرها على الجانب النفسي، بالمقام الأول، وتسببت بنشوء اضطرابات نفسية لدى الكثير من أطياف المجتمع حتى أنها، على سبيل المثال، أضرّت بصغار السن بشكل كبير نتيجة انقطاع شبه كامل للتعليم الحضوري وصعوبة التواصل المهم الفعّال عن قرب مع أقرانهم ومع الآخرين. أمّا بين البالغين فلوحظ ظهور أعراض لاضطرابات جديدة مثل الاعياء النفسي والإجهاد الجسدي من العمل عن بعد أو العمل لمدة أطول من المعتاد، بالإضافة لزيادة سوء بعض الاضطرابات الموجودة مسبقًا. كل ذلك إلى جانب الآثار الأخرى التي في حقيقتها تساهم في تدهور الحالة الصحية بشكل عام أو الحالة الصحية النفسية حتى بشكل خاص بمثل نشوء أو تكرر بعض الاضطرابات النفسية. ومن الممكن ذكرها للتعداد فقط بدون الدخول في التفاصيل كالآثار المتعلقة بالأمراض المزمنة، والاعتلالات العقلية، والجسدية، وقلة الحيلة المادية، والاضطرابات السلوكية، والمصاعب الحركية إلى جانب آثار قوانين التباعد الاجتماعي وارتداء الكِمامات وقوانين العزل أو حظر التجول الجزئي أو الكلي. لذا يُفهم مما سبق أهمية الصحة النفسية في هذا الوقت.
وفي نفس هذا السياق، من المصادفات التي يجب ذكرها أن شهر أكتوبر قبل عامين كان قد ضم أهم حدث سعودي في مجال الصحة النفسية بعد أن نَشر مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة نتائج المسح الأكبر والأضخم على مستوى المملكة والمنطقة العربية والمتعلق بالصحة النفسية. وعلى الرَغم من الوصول لنتائج صادمة تحتوي أرقام غير سارة تتعلق بصحة السكان إلا أن جُلّ المهتمين بالصحة النفسية في السعودية استبشروا خيرًا بتوفر هذه القاعدة الحديثة من البيانات حيث أصبح المسح الوطني للصحة النفسية في السعودية واقعًا ومرجعًا يمكن الإعتماد عليه في المستقبل القريب والبعيد عند بناء الخطط الاستراتيجية للتعامل مع متغيرات مجال الصحة النفسية على المستوى الوطني على وجه التحديد.
ويتميز تقرير ”المسح الوطني السعودي للصحة النفسية“ عمّا سبقه من جهود فردية ومنظماتية من حيث اعتباره الأول من نوعه على مستوى المملكة العربية السعودية والذي احتوى على معلومات شاملة وأرقام جديدة نُشرت للمرة الأولى في تاريخ مجال الصحة النفسية السعودي. فعلى سبيل المثال، تضمّنت قائمة اضطرابات الصحة النفسية الأكثر شيوعًا في المملكة العربية السعودية -مرفقة بالنسبة المئوية-: اضطراب قلق الانفصال (11 بالمئة)، اضطراب نقص الانتباه/فرط الحركة (8 بالمئة)، الاضطراب الاكتئابي الرئيسي أو ما يسمى باضطراب الاكتئاب الشديد -Major Depressive Disorder MDD- (6 بالمئة)، الرهاب الاجتماعي (5.6 بالمئة)، واضطراب الوسراس القهري (4.1 بالمئة). بالإضافة أوضحت نتائج المسح أن ثُلث السعوديين على الأقل يعتبرون ممن ”تنطبق عليهم معايير تشخيص اضطرابات الصحة النفسية في بعض الأوقات“، وما يقارب ثلاثة وثمانون بالمئة ممن لديهم اضطرابات نفسية اوضحوا أنهم لا يسعون لتلقي العلاج، أما عشرة بالمئة من المشخّصين بإحدى اضطرابات الصحة النفسية قد بحثوا عن العلاج لدى غير المتخصصين كرجال الدين والمعالجين غير الطبيين. هذه الأرقام الصادمة تُستكمل مع أن إثنان من كل خمسة ”من الشباب السعودي تنطبق عليهم معايير تشخيص اضطرابات الصحة النفسية في بعض الأوقات،“ وخمسة بالمئة فقط من المشخّصين بإحدى اضطرابات الصحة النفسية قد سعوا لتلقي العلاج بالطرق السليمة (المسح الوطني السعودي للصحة النفسية، ص11).
وفي أولى الدراسات المتعلقة بالتقرير، وضّح الباحثون أهميته كونه داعمًا للتحول الفعلي في هذا المجال حيث أن الأرقام والنتائج سوف تستخدم كنقاط قياس وإنطلاق لصياغة السياسات العامة والسياسات الصحية، والحصر التقريبي لعدد الاضطرابات النفسية، وطرق العلاج المتوفرة التي تقدّم للمصابين بالاضطرابات النفسية. فالمساهمة الجديّة للتعامل مع الاضطرابات النفسية في المملكة العربية السعودية بشكلٍ علمي مبني على الأرقام والمسوح المتكررة والمتركزة حول الصحة النفسية سوف تبدأ من تحليل هذه البيانات الوطنية الشاملة. ومن المصادفات الغير متوقعة وقوع جائحة بحجم جائحة وباء فايروس كورونا المستجد والتي بدورها ساهمت في تعظيم الاهتمام وتعزيز التركيز على مجال الصحة النفسية في السعودية كبُعد رئيسي للصحة وجودة الحياة والذي لا يمكن التغافل عنه في سبيل تعزيز وحماية وحفظ صحة الأفراد والمجتمع وكجزء لا يتجزأ من السعي لبناء مجتمع حيوي.
وتوصّلت هذه الدراسة إلى أن متوسط عدد الأخصائيين النفسيين في السعودية هو 19.4 لكل مئة ألف فرد، أي أنه أفضل من المتوسط العالمي والذي لا زال يقبع عند 6.6 لكل مئة ألف فرد، وأسوأ بشكل واضح مقارنةً بـ64.3 لكل مئة ألف فرد في الدول ذات الدخل المرتفع. ومن الممكن الحديث هنا عن قلة الفرص الممكنة للتوسع في مجال الصحة النفسية ومما يؤول بكثير من الجهود إلى فقط التركيز على الجلسات العلاجية والاستشارات فضلًا عن أي أنشطة بحثية أو تطويرية. وقد تطرقت هذه الدراسة إلى حجم الميزانية المخصصة للصحة النفسية من ميزانية الرعاية الصحية الكلية في السعودية وهي عند نسبة 4 بالمئة مقارنةً بنسبة 2 بالمئة في المتوسط العالمي ونسبة 6 بالمئة في الدول ذات الدخل المرتفع. وهنا من المهم التنويه على أن المقدرة المالية للمملكة العربية السعودية عالية. فالسعودية تُعد ضمن القوى العشرون على مستوى العالم والأولى على مستوى العالم العربي -الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- وتستحوذ على ما يقارب ربع الناتج الإجمالي المحلي العربي كما وضحت الدراسة. وبشكل خاص، تشير هذه الأرقام إلى أن فرص الحصول على العلاج لدى المتخصصين أقل بكثير مما يجب إذا وضعنا في الحسبان مكانة المملكة ودورها الريادي في المنطقة وحجم الميزانيات المخصصة للقطاع الصحي بشكل عام والصحة النفسية بشكل خاص.
وفي دراسة حديثة نُشرت عن الصحة النفسية في السعودية، أشارت جمعية شارك للبحوث والدراسات في شهر فبراير من العام الحالي 2021 بأن بعض اضطرابات الصحة النفسية تضاعفت بشكل ملحوظ من حيث السوء، بطبيعة الحال، مقارنةً بما قبل الجائحة. على وجه التخصيص، الاضطراب الاكتئابي الرئيسي أو اضطراب الاكتئاب الشديد -Major Depressive Disorder MDD- واضطراب القلق العام -Generalized Anxiety Disorder GAD- واللذان زادا بنسبة 71.4 بالمئة في عام 2020 مقارنة بالعام 2018 بين المشاركين والبالغ عددهم أعلى من ستة عشر ألف وخمس مئة شخص والذين تم اختيارهم لتمثيل جميع مناطق المملكة العربية السعودية الإدارية الثلاثة عشر (16,513 شخص).
وبالنظر لما سبق، فإن طرح سؤال: ”ماذا بعد المسح الوطني للصحة النفسية في المملكة العربية السعودية؟“ يقودنا للتفكير في عملية التصحيح الممكنة بناءً على المعطيات الحالية. ولعل أول بذرة للاهتمام بمجال الصحة النفسية قد زُرعت قبل عشر سنوات باستحداث المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية في الربع الأول من العام 2009 والذي بدوره أشرف على قيادة وإدارة الجهود الكبيرة لتخطيط وتنفيذ تقرير المسح الوطني السعودي للصحة النفسية في عام 2019. إضافة إلى برنامج الرعاية الصحية المنبثق من الرؤية الطموحة للسعودية ”رؤية 2030“ والذي يتضمن الاهتمام بمجال الصحة النفسية، وبذلك تعمل السعودية على ردم الفجوات المتعددة المتعلقة بمجال الصحة ومن ضمنها ما يتعلق بالصحة النفسية، خصوصًا تلك التي تضع الكثير من العبء على المتخصصين والمهتمين بالمجال.
وبمزيد من التحليل الدقيق يُلاحظ أن مجال الصحة النفسية يعاب عليه سابقًا قلة المجهودات التي كانت عادةً تتسم بالبطء والمركزية في القرارات بَيدَ أن التحولات أصبحت متسارعة بدايةً بتنفيذ مبادرات التحول الوطني تلك التي وضعت الصحة النفسية ضمن أولوياتها. والمشاهد أن السعودية ممثلة بوزارة الصحة والمركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية وأكثر من عشر جهات وزارية وهيئات ومراكز أبحاث عقدت العزم على صناعة التغيير في هذا المجال.
والمُتتبع لمبادرات وزارة الصحة السعودية في الآونة الأخيرة سوف يرى التفاعل الإلكتروني من خلال طرح الاضطرابات النفسية للمجتمع بطرق مبتكرة تسهّل على المتلقي فهمها واستيعابها. ومن الأمثلة القريبة هو وسم #الآن_عرفته والذي عكفت وزارة الصحة على نشره وتسويقه عبر منصاتها التفاعلية على وسائل التواصل الإجتماعي والذي تناول إلى الآن اضطرابات نفسية منتشرة -على سبيل المثال لا الحصر- كاضطراب الهلع واضطراب ثنائي القطب والاكتئاب. وهناك أمثلة من أرض الواقع لجهود وزارة الصحة و المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية وشركائهم تتمثل في مبادرات مثل: مركز الإتصال الموحد 937، ومنصة ”قريبون“، ومَركز أجواد، ومَركز الاستشارات النفسية. واليوم أطلق المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية حزمة مبادرات تحت وسم #ضرورة_حياة، على سبيل المثال، تقديم الاستشارات النفسية المجانية على منصة فامكير وبعض المبادرات التوعوية. إلى جانب فتح المجال للقطاع الخاص الربحي والغير الربحي للمساهمة عن طريق مراكز متخصصة أو منصات إلكترونية مثل لبّيه وفامكير حيث تزخر هذه المنصات بتواجد العديد من المتخصصين في الصحة النفسية.
وختامًا فإن المهتمين بالصحة النفسية يوصون بالتعامل الجاد مع تبعات الجائحة -وباء فايروس كورونا المستجد- والتي قد تفاقم الأوضاع الحالية وتزيد الأمور سوءً. ولعل الكثير من المترقبين لليوم العالمي للصحة النفسية 2021 ينتظرون أن تتضح أكثر الاستراتيجيات التي ستشكّل المجال المحلي السعودي للصحة النفسية فيما بعد انجلاء الوباء حيث أن الكثير من البيانات والدراسات تشير إلى أهمية بناء استراتيجيات مستدامة على رأس أولوياتها التدخل السريع المبني على الأدلة بأيدي متخصصين في الصحة النفسية. وهذا بشكل واقعي ينطبق على السعودية التي تعيش تحولًا داخليًا يضع الإنسان أولًا ومن المنتظر أيضًا منها دورها الريادي كونها ضمن الدول التي تقود التحول على مستوى العالم أجمع وعلى مستوى العالم العربي -الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- بشكل خاص. ليبقى التساؤل: ماذا بعد المسح الوطني للصحة النفسية في المملكة العربية السعودية؟
أهمية بناء استراتيجيات مستدامة على رأس أولوياتها التدخل السريع المبني على الأدلة بأيدي متخصصين في الصحة النفسية