الأبحاث متعددة التخصصات

في الصحة العامة:

السبب و الكيفية

النص الأصلي

نُشر في 8 أكتوبر 2019

تُرجم في 13 أغسطس 2021


تمثّل الصحة العامة مجالًا مفضلًا لتطوير الأبحاث متعددة التخصصات. يستوجب استهداف تحسين صحة السكان بشكل حتمي إدراج البحث والتدخل ضمن مجموعة متنوعة من الأساليب التخصصية التكاملية. فالطب (ومجالاته العلمية والمهنية)، وعلم النفس، وعلم الأوبئة، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية والسياسية، وبحوث الخدمات الصحية، والعلوم الإنسانية، والجغرافيا والعلوم القانونية، جميعها تشتمل على منظورات بحثية تساعد على ملاحظة وتحليل وفهم وتفسير الحقائق الصحية. عند تنفيذ وإدارة إجراءات صحية فعّالة وإيجابية للسكان والمجتمعات والأفراد، ففي الحقيقة أن العمل بين التخصصات -سواءً كانت الصحة هي محور تركيزهم البحثي الرئيسي وتحسين الصحة أم لا- يوفر بيانات غنية ومبتكرة وذات صلة للتدخل في مجال الصحة العامة.

يتوفر عدد من التعريفات لتعددية التخصصات في المنشورات الأدبية الأكاديمية. من هذه التعريفات، ندرك خاصيتين رئيسيتين: لقاء تخصصين علميين أو أكثر، والطبيعة التفاعلية لعملية البحث.

إن الحاجة إلى تعددية التخصصات في مجالي البحث والعمل اليوم تدعمها حجتان رئيسيتان. 


أولاً، إن أهمية أبحاث التدخل الصحي للسكان يستدعي معطيات مسندة بالأدلة حول فعالية وكفاءة التدخلات التي تفيد صانعي القرار وتفي باحتياجات وتوقعات السكان. هذا يتطلب تبنّي نهج بمنظورات متعددة للمشاكل الصحية، وعواملها متعددة الأبعاد، ومحسّنات التدخل الممكنة. بالإضافة إلى تبنّي الجانب المعقد للمشاكل الصحية؛ فقط العمل المشترك بين التخصصات يمكن أن يساعد في تحقيق مثل هذا الهدف.

يعتبر الحد من تعاطي التبغ مثالًا مفيدًا: فعوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أو متعلقة بسياسات صحية، من بين العديد من العوامل الأخرى، تحفّز سلوكيات التدخين. يجب أن تستند تدخلات مكافحة التبغ إلى حوار بين التخصصات الأكاديمية التي يمكن أن تساهم في النتاج المعرفي وتقدم حلولًا سليمة للمشكلة. على وجهٍ أعم، أي موضوع يتعلق بصحة السكان -كالتغذية، والقضايا البيئية، والإدمان وما إلى ذلك- يستلزم النظر إلى الأفراد في سياقاتهم المعيشية: المنشورات الأدبية الأكاديمية الحالية تصرخ طلبًا لأساليب النُظُم المعقدة.

ثانيًا، تدعو التحديات الصحية اليوم إلى أساليب عالمية متضافرة. على سبيل المثال، التصدي لمشكلة رئيسية كالتفاوت في الخدمات الصحية يتطلب تبنّي هذه الظاهرة بطريقة شمولية. فالبحث متعدد التخصصات يقدّم نظرة ثاقبة حول التفاوتات الصحية من خلال النظر في التدخلات التي لم تعد تعتمد بشكل حصري على الفرد وتركّز على ما يمكن للقطاع الصحي وحده القيام به ولكن تدمج وجهات النظر الاجتماعية والإقليمية والاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى الخبرات التجريبية من المجتمعات والمنظمات.

ويبقى السؤال: كيف نقوم بهذا؟ على الرَغم من القبول الجيّد للفكرة من حيث المبدأ، تستمر الممارسة متعددة التخصصات ببرهنة كونها تحديًا حقيقيًا. يتطلب العمل مع و بين التخصصات إيضاح مستمر، وتلاؤم وإعادة ضبط علمي من جميع الباحثين المعنيين. الدراسات التي تدرس ميكانيكيات تعددية التخصصات نادرة. تقصّت إحدى الدراسات الفرنسية الإجراءات متعددة التخصصات التي تم إتباعها في أبحاث الخدمات الصحية. حدد المؤلفون ثلاثة متطلبات أساسية للصياغة الناجحة للتخصصات المختلفة، وخاصةً العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وعلم الأوبئة: التساؤل المشترك عن المواقف العلمية وبيئات البحث؛ الوعي بمتطلبات الباحثين المرتبطة بمناصبهم المؤسسية وانتماءاتهم الأدبية؛ والإعداد المشترك للبحث، مما يعني بشكل ضمني التدفق المستمر بين أنواع مختلفة من المعرفة.

مجموعة من الباحثين في المركز الأمريكي مكافحة الأمراض والوقاية منها.

في دراسة بحثية حديثة حول تدخل يتعلق بصحة السكان، قمنا بتجربة العمل بين تخصصات مختلفة، وهي علم الأوبئة وعلم الاجتماع وعلم النفس. أثبتت المتطلبات السابقة المذكورة أعلاه أنها مفيدة، على وجه التحديد، التبادل المعرفي بين التخصصات خلال عملية البحث كاملةً.

أيضًا نلفت الانتباه إلى نقطتين إضافية. 

أولاً، أهمية إدارة الإختلافات المؤقتة. على عكس المراحل التحضيرية (صياغة المشروع وإعداد العمل الميداني)، والتي يتم قبولها عمومًا على أنها تتطلب جداول زمنية طويلة، مراحل جمع البيانات وتحليلها نادرًا ما يتم إعدادها بنفس الطريقة. على سبيل المثال، في دراستنا، قمنا بتجربة جداول زمنية مختلفة خلال العملية التحليلية: الأساليب الاجتماعية والنفسية تضم جمع البيانات وتدوينها وترميزها وتفسيرها باعتبارها أجزاءً من نفس العملية، وبالتالي استنفار الباحثين طوال تلك الفترة وعلى مدى عدة أشهر. في علم الأوبئة، على سبيل المثال، تم تفويض بعض الأجزاء كجمع البيانات عن طريق الاستبيانات وإدخال البيانات. كانت البيانات الوبائية متاحة قبل البيانات الاجتماعية والنفسية، مما أدى إلى تأخير العمل المطلوب المتعلق بتفسير تلك البيانات في التخصصات المتعددة. علاوة على ذلك، وقت البحث، أيضًا، يخضع لتعديلات مستمرة يتم إجراؤها بناءً على الأطر النظرية. غالبًا ما تكون هذه خاصة بتخصص علمي واحد وبالتالي فهي غير مألوفة للآخرين. ومع ذلك، فإن فهم طبيعة المؤشرات الصحية الموثوقة والمنظورات التفسيرية يعتمد على هذه الخلفيات النظرية. بالتالي يتطلب العمل متعدد التخصصات حركةً دائمة: من الضروري القيام بمراجعة مستمرة للأفكار التي سبق نشرها ومناقشتها.

ثانيًا، يجب على المشاريع متعددة التخصصات تنظيم مساحات تبادل معرفي متعددة التخصصات واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من عملية البحث، مشجعًا لكلا العملين التخصصي ومتعدد التخصصات. يعتمد البحث متعدد التخصصات على أوقات العمل التخصصي كما يعتمد على أوقات العمل متعددة التخصصات. إن الحفاظ على سمات التخصص (من حيث المفاهيم، والمنهجيات، والمنشورات الأدبية الأكاديمية، وما إلى ذلك) أمر قيّم للغاية ومحور مركزي لنجاح العمل متعدد التخصصات. من الممكن أن يضمن إنشاء تلك المساحات متعددة التخصصات شعور جميع الباحثين بالمشاركة بشكل متساو في كل جانب تخصصي من جوانب البحث، وبالتالي تجنب الإحساس بوجود تخصص مهيمن. عادةً في مجال الصحة العامة، تتفوق التخصصات التي تطور أساليب كَمية بشكل أكبر من التخصصات التي تعتمد على أساليب نوعية بوجهٍ عام، لأنها تتوافق في المعتاد مع دراسات ذات مستويات أدلة أعلى. إن فَهم المواقف النظرية والمنهجية للتخصصات الأخرى تلقائيًا يكسّر الحدود التخصصية.

من أجل الاستجابة بشكل أفضل للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للصحة والرعاية الصحية، هيئات التمويل العامة والخاصة تشجّع المشاريع البحثية متعددة التخصصات. حتى الآن، استجاب الباحثون لهذا الطلب بأفضل ما يمكنهم؛ ولقد حان الوقت الآن لاستكشاف الدهاليز وجعل آليات أبحاث الصحة العامة متعددة التخصصات أكثر وضوحًا.


العمل بين التخصصات

-سواءً كانت الصحة هي محور تركيزهم البحثي الرئيسي وتحسين الصحة أم لا- يوفر بيانات غنية ومبتكرة وذات صلة للتدخل في مجال الصحة العامة.


Join