عودة خجولة
غابة مطيرة
تحت وطأة مطر لا ينقطع ،ينبتن بداخلي كل صباح ،بشهية نهمة يبتلعن أجزاء مني ، لم تعد أرضي رحبة للمزيد،ولا حتى تتسعني.. أنا ..مكتظة بأغصان لا يراها أحد سواي.
قمت صبيحة اليوم وجميعهن نيام فوقي وحولي كقطط نزقة، أزحت أكبرهن عن ساقي لأنهض.. كانت غليظة ، وأكثرهن نهماً ، يتسم نومها بالثقل الشديد ، وأخاف من يقظتها ..ثرثارة ..تهذر في كل أمر يصادفها ، وتحث البقية على فعل المزيد من الجنون .
جررتها هي والأخريات معي بهدوء نحو الحمام لاغتسل ،وكم أريده صباحاً هادئاً كل مرة ،فأفشل.. حتى لو ظهرت بوادر الطمأنينة الخادعة فأني أصدق ذلك لوهلة..
انظر في المرآة بسكون مرتاب ، أحرك فرشاة أسناني بداخل فمي وأراقصني برقصات مُقبلة مع حركتها، كما وكأنني صديقة هذا الصباح واللحظة ، وماكنتُ لهما رفيقة.
تتعثر الفرشاة بين أصابعي المرتجفة فأصيب لثتي الحساسة ، فانزف دماً محتبساً ومتواطئاً معهن، لكنني مازلت أحاول لابتسم بفم مفتوح والدم يتدفق..
ينتفض فجأة جسدي وكأن صدمة كهربائية أصابته ..فأتجمّد أمام المرآة هلعة ،أشعر بها تعتلي كتفي ببطء …ها قد بدأ الصباح الذي أعرفه بتلك الأغصان الثرثارة.
دمٌ دمٌ يتدّفق مرحى … يسيل فوق شفاتك … أوه نحو رقبتك… دم حارق سيلتهمك حتماً
…..
ياللإهمال ، أكنتِ ترقصين ؟
أمضمض لأتخلص من الدم
أوه أترين قطع الدم التي تخرج ؟ سوف تسقط أسنانك مبكراً حتماً …
اتجاهلها ، أحيلها كخلفية موسيقية اعتدتها ، فأحببتها ، أو تكاسلتُ عن اطفائها ، تسبب لك انزعاجاً شديداً دون تدرك ، فتمضي يومك بحد أدنى من الطاقة التي استجمعتها.
كم هذا مجهد !
أقول لمعالجي.. الذي فقد قدرته على مساعدتي ولا يدرك كيف يتوقف عن مقابلتي مجدداً ، لقد اعتدته كما اعتدت أشجاري التي أحملها معي :
لنسمع هذه المرة ، كيف حالك؟
كويسة! تمضي الأيام بهدوء ، الأمور مستقرة ، أظن ذلك على الأقل
عظيم ، أخبار جميلة، وكيف هي الأمور مع الموسيقى التي لا تعرفين مصدرها
اصمت طويلاً انظر في عينيه .. ترمشان ببطء ، وجهه الدائري يميل نحو اليسار محاولاً الفهم، ونظارته المهترئة تنعكس عليها إضاءة السقف الصفراء وتحيطان بعينيه الكحيلتين ، وأفكر في أنه يفكر باقتناء نظارة رمادية اللون بتكلفة جلستي الباهظة ، لكن ياترى أي متجر يحب أن يتبضع منه؟
اتأمل في شعره الخفيف المهذّب بعناية، وشعرة محايدة بيضاء تتوسط ناصيته، ولسانه يسرق من كل دقيقة جزء من الثانية ليبلل شفتيه الجافتين ، وأصابع يده اليسرى تلعب معزوفة وهمية ببطء على مسند كرسيه ،لعله يحاول سبر أغواري المحاطة بسور عالٍ،عينيه تتحرك ببطء تتبع حركة عيني ، فيعدل من جلسته، ينظر للأرض يجذّر تماسكه المتداعي …
ما لأمر؟ هل تعلو الآن ؟
لا..لا
…..
كل أمورك على مايرام ، علينا فقط تقليل الجلسات لأراك بعد شهرين من الآن
هذا أفضل .
أدرك يقيناً أنه يعلم بأني كنتُ مشغولة في حوار جانبي مدهش أكثر من طريقة اكتشافه البائسة لموسيقاي ، رغم أن التي تجاهلتها صباحاً لئيمة غليظة ،ومزعجة ،لكنها تلحظ مالا يلحظه ،تلحظ جذوري القديمة ،طفلي الباكي العالق ،رجفة يداي الطفيفة ،حزني الدائم ،وحدتي المتأصلة ،وبكائى الصامت ،أفكاري المحرمة ،قدراتي الكامنة ،شكواي المملة ،دلالي الملح ،فكاهتي المخفية ،حقدي الدفين ،روحي المرحة ،حبي القديم ،لقبي المفضل صفاقتي المستمرة،غبائي المقصود،وفرادتي الغير مفهومة،ورغبتي الدائمة في أن أتلاشى.
أودعه بلطف ، أشكر حسن استماعه و محاولته المستمرة في مساعدتي ، أنظر في أغصاني وارمقهن بنظرة شزرة وإيماءة لتنهض قبلي فلا قدرة لدي لحملهن بعد هذه الجلسة، أحاول اغلاق الباب خلفي بلا فائدة ، وصوت معالجي يتهادى من الخلف:
عذراً ..هناك غصن متدلّي عليك أزاحته عن الباب لتغلقيه!
!!
عن العمل الفني :
Hannah Frank aka Al Aaraaf (Scottish, 1908-2008, b. Glasgow, Scotland, d. Ibid) - Night Forms, 1932, Drawing: Pen + Ink