إلى ماذا يقودنا البحر

العنود



إلى ماذا يقودنا البحر ؟ 


كومة المياه تلك، التي طالما حملت للإنسان معنى ومغنى، صادق الإنسان المياه منذ عرف كنوزها، وقد وهبته سُبل العيش وكسب الرزق، وبالمقابل سلبت روحه في كثير من الأحيان، تلك المياه التي لم تلبث إلّا وتُثبت صفة الغدر، طعنة الظهر، الخيانة، لصديقها الإنسان، ولكن هل سبق لنا التفكير في الجانب المناقض؟ هل يا ترى الإنسان غافل عمّا يحدث حوله؟


إنّه البحر، ذاك الذي رافق بحّارة العالم عمومًا وبحّارة الخليج العربي خصوصًا، الذين تعوّدت أعيننا العربيّة على النظر إليهم عبر التلفاز وطرُبت آذنُنا بسماع أغانيهم بلون البحر وطعمه، هؤلاء الباحثين عن خيرات قلب البحر التي لا تنقضي، يُنشدون المطلع الشهير: "أوه يا مال" على حافّة السفينة ليل نهار، وهكذا وُلدت الأغاني البحريّة في ذاكرتنا، لتكون تلك الأهازيج سلوان البحّارة ومؤنس أرواحٍ تتوه تارةً وتهتدي في وسط غُربة البحر تارةً أخرى، تاركين العائلة والوطن، راكبين ظُلمة البحر، إلى الحظوة بالحياة الكريمة، ولم تقتصر الأغاني البحريّة على راكبي السُفن، بشهادة مقطعٍ من أغنيةٍ معروفة: "ما تخاف من الله يا بحر؟" التي تتغنّى بسطورها النسوة من عائلات البحّارة، قاصدين بذلك تخويف البحر وتهديده، وإغراقه بما في صدورهن من غضبٍ نحوه، البحر الذي تسبّب في فراق الأحباب إلى المجهول، وضياع الأصحاب إلى مكانٍ غير معمور، تفيض النسوة بعواطف حارقة وأشواق خارقة لحدود المعقول، كانت علاقتهن بالبحر تحمل من السخط ما لا يحتمله مخلوق، حيث خلال الغناء كانت النسوة يضربن البحر ويحرقنه بالنيران لكي يشعُر بلوعة الفراق التي في صدورهن، ويحذفن على سواحله الحجارة وسعف النخيل بُغية جرحه، ويختمون الأغنية بالترحيب بالبحّارة قائلين: "سالمين غانمين باللؤلؤ والخير مُحملين" ويُعلن بذلك ختام الثورة على البحر لتعود في رحلةٍ أخرى، ويعود البحر لتشديد أنّه لا يخاف شيئًا.ـ


تلك الكومة الغامضة الصامتة تحوي في جوفها ما لا يعقله الإنسان من حيوات، وتحمل على سطحها ما يزيد في حجمه وجبروته عن السُفن والبواخر التي نراها بالعين المجرّدة، ولطالما قال الأوّلون عن البحر أنّه صديق الإنسان وأكثر من يفهمه في الطبيعة، وربما في الحياة، وكثيرًا ما نرى مشهد الإنسان الذي يشكو إلى البحر كلّما واجهه بالمصادفة أو عبر من خلاله بالعمد، أو قد يستغرق في التفكير العميق بصمت برفقة أصوات الأمواج الذاهبة والغادية التي لا تسكن لحظة، يفضي خلال ذلك عن همومه، وعلّات روحه وأسقام بدنه، أمام البحر الذي لا يعرفه، ولن يفضح أمره، يرمي ما يعجزه نحوه بثقة صديق، وحُضن رفيق، ولا ينتظر التصديق على ما يقوله، بالرغم من صمته، وسكونه، والهدوء المشوب بالخوف الذي يُرسله للإنسان بتفاني، وغموضه الصافي الذي يدُس في قلبه حكايا وخبايا لا يعلمها سواه، تدوم علاقته مع الإنسان كاسرةً بذلك حدود العلاقات المعتادة، مُرغمةً الإنسان على مواصلة الرحلة بمصاحبته، على ظهر البحر، التي ربما تقود إلى فقدانه روحه


على صعيد غدر الماء للروح، أعود لاسترجاع شريط حوادث غدرٍ عديدة حدثت بين الصديقين النقيضين، البحر والإنسان، وأحسب أنّنا لن ننسى حادثة "التايتانيك" الشهيرة، وحوادث أخرى ليست أخف وطأة أو أقل إيلام، حادثة عبّارة السلام من تلك الحوادث قريبة العهد التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، في أم الدنيا، وسبب نكبة العبّارة هو حريق في غرفة محرّك السفينة، وتوالت بعد ذلك مصاعب أخرى لم تنجح السفينة بسببها إلى الوصول نحو خط النجاة، وخسرت بذلك الأرواح، ولكن أكان البحر هو الذي غدر بتلك الأنفُس؟ أم هل نكث القُبطان يمين مهنته؟ وهل ذلك دليلٌ ينفي تهمة الغدر عن البحر؟ مع أنّها حادثة من سلسلة حوادث يتيمة السبب الواضح، إلّا أنّها تُعنى بولادة إخفاق حصر الغدر على البحر وحده، ها نحن نرى علامة مشتركة بين البحر والإنسان، إنّهما متشابهان حتى في صفة الهروب من وضعٍ مُشكل، ربما تتعارض مقاصدهما، وتختلف نواياهما، ولكنّها تلتقي لتُثبت أنّهما على وفاقٍ غدري متبادل، الإنسان ليس في عصمةٍ من الخيانات، ولكنّه يميل عادةً إلى لعب دور الضحيّة في حياته، إذ أنّنا نرى البحر يغدر في غير جنسه، ولكن الإنسان يغدر في بني جنسه

 
البحر في صمته ذاك، بالرغم من تلاطم أمواجه وخفر سواحله المُنذرة بوجود الحياة الصاخبة التي لا تموت على سطحه وجوفه، يعكس لنا علاقة جوهريّة بينه وبين الإنسان، العلاقة بجوهر الإنسان الصامت، المخفي، الغامض، المدسوس عن أعين الآخرين، إذ كما يكتم البحر كنوزه وجواهره، يكتم كذلك خباياه ونكباته، ويكتم الإنسان ألمه بينه وبينه، يصمت عن رواية ما يُحدث في نفسه الضيق، ويُغرق روحه في بحر الكدر، حفاظًا على صورته العصماء أمام الآخر، وحتى أمام نفسه، يحمل مرآة روحه ويخشى على زواياها من الخدوش والانكسار، إنّه يدُس شعوره وأفكاره الآسية في جيوبه، ويدفن في قعرهما يديه المُدماة بالكرب، ليطمئن على عدم معرفة أحدهم بما تحويه من شجون، ويستعيض بذلك في الصمت وقول لا شيء، أو ترديد الكليشة المعتادة: "أنا بخير" بينما لا يكون شيء من حوله بخير، إنّه يدفن روحه في وسط تلك الآلام المكتومة والصارخة بلا صوت، ويعتبر ذلك الوضع الطبيعي لإنسانٍ يحارب في الدنيا ليحيا، ولكنّه لا يعلم أنّه لن يمضي مع صمته سوى إلى خط الهلاك الروحي، وسيمضي كذلك نحو سيلٍ من مُراكمة الشعور، شعورًا تلو الآخر، وألمًا فوق صدر الآخر، دون النطق ببنت شفة، أو التعبير بوسيلةٍ أخرى، وهكذا دواليك يضع ما يُعسر صدره ويخنق مساحاته ويحفر في جوفه ندوبًا لا تبلى: في صندوق، يحشر الذي يعرفه والذي لا يعرفه، الذي لا يملك وقتًا للتعامل معه والذي لا يخدمه مزاجه في تفكيكه: في صندوق، يحاكي بذلك صندوق السفينة الأسود الذي لا نعرف عنه شيء إلّا إذا نُكبت بالغرق أو الضياع، وصندوق الإنسان لن يعرفه إلّا إذا غرقت روحه وبلغت من صبره مبلغًا عظيمًا، وخطيرًا ربما.ـ


يُعلن عالم النفس سيغموند فرويد علامة خطر عن آفة الصمت في وجه آلامنا ويقول:ـ
 

المشاعر المكبوتة لا تموت، بل تُدفن حيّة، لتظهر مرّة أخرى
في صور أكثر سوء 

نحن إذا كتمنا ذلك الشعور لن يبقى كما هو في صورته الأصيلة، بل سيتراكم ويتضاخم، وينمو بسرعة نحو صورة تشوّه حقيقته، وبذلك يحتل زاوية عظيمة من زوايا روحنا، ويتحوّل إلى صورة بشعة، ترمي بالإنسان إلى غير ذاته، صورة تختنق بما في جوفها من كلام، وتحترق من فتيل النيران المُضرمة من بقايا شعورنا المكبوت، وبذلك يُولد العجز عن مواجهة كارثة الصمت، ويحمل الإنسان حبل آلامه الطويل بينما يُبحر في رحلة حياته، عبر قاربه الذي لا يزال يحاول التوازن بين أمواج الحياة وثقوب الماضي وقلق الحاضر وغموض المستقبل، ذلك الحبل يمتد إلى قاع البحر، مرتبط بثقلٍ صلب، لا يتحرّك، وذلك الثقل يزداد حجمه بزيادة إنكارنا لمتاعبنا، ومع ذلك نُنكر حاجتنا لمن يستمع لشكوانا، عن رغبتنا الحارقة في فتح أفواهنا، عن توقنا إلى طريق البوح الذي أضعنا بوصلته، وعلى أثر تلك المُكابرات التي ستقودنا إلى أمواجٍ صارخة، لن تستطيع سفينتنا المضي إلى الأمام بينما تكون في الأصل مربوطة بحبلٍ كثير العُقد شديد العمد في أسفل القاع، بل سنمكث في مكاننا غير مراوحين، وربما نعود إلى الوراء في خطواتٍ غير صحيّة تزيدنا ألم، أو تُكسر عجلة القيادة، وتغرق السفينة.ـ

 
إنّنا كبشر نُبحر في الحياة، بسفينةٍ هزيلة، ربما صنديدة، قد تمرض وتتعافى، وقد تُزمن وتُحب المرض، نواجه مصاعب ومتاعب، تجيءُ رياح القلق، ثم تغزونا أمواج الفزع والخوف، تضطرب حركة الملاحة، تهتز السفينة، نخسر التواصل مع أبراج المراقبة، نضيع في مواجهاتٍ حامية مع أوضاعٍ مجهولة، ونمضي وحيدين بين تلك الأمواج والرياح وأخرى لا نعلم خطرها على روحنا وهويّتنا وذاتنا، ربما تُثقب السفينة وتُغمر بالمياه، وتواجه مصيرها بالغرق لا محالة، سكوتنا وإنكارنا للفيضان لن يزيدنا سوى المزيد من الغرق وبلل الزوايا، ثم الهبوط إلى قاع البحر، حيث ننسى وجودنا، بينما لو مضينا مُتصالحين مع وصف الذي يجري، بالراوية عن وجود اضطراباتٍ في حركتنا، وأنّه لا يجب علينا أن نكون دائمًا بخير، ونحشد بذلك أكبر قدرٍ ممكنٍ من الحروف المرصوصة بجانب بعضها، وغير المترابطة حتى، لنصف حالنا، ونبكي، مُفرغين بذلك عن الحمولة الزائدة في مراكبنا، نتحدّث بوفرة الحروف عمّا يجري، نبحث عن بوصلة تهدينا نحو الطريق الصحيح، نطلب المساعدة، نرتمي نحو أُذن الآخر الذي يصغي نحونا بحنانٍ وأمان، ربما كان صديق، أو نفساني، أو آخر غريب، أو ربما بحر، من خلال ذلك نطمئن، ونسكن، وبذلك تتوازن السفينة، وتصمد، وتعود إلى التوازن، مُبحرة بوزنٍ مناسب، لا حمولة تخنقه وتُرسل تهديداتٍ نحوه بالهلاك، تلمح الضوء الأصفر من بعيد، وتمضي نحو المنارة بسلام.ـ


والآن بعد وصول السفينة، ماذا يدور في ذهنكم يا أصدقاء من صلاتٍ بين البحر والإنسان؟ حتى إذا كنتم تعانون من خوفٍ نحو البحر، أو علاقةٍ غير طيّبة، حاولوا البحث عن تلك الروابط، ربما تقودكم إلى معرفة طبيعة رحلتكم في الحياة، وتعلمون من خلالها عمّا إذا كانت سفينتكم تسير نحو الطريق القويم؟ أم ضلّت الوجهة نحوه؟ وإذا كانت الخيار الآخر ستعلمون كيف يمكنكم تدوير عجلة السفينة في الوقت المناسب للوصول إلى المنارة.ـ

Join