رمضان بين الذكريات والايمانيات
أفنان
تحتفي أرواحنا احتفاءً بالغ الشدة بقدوم الشهر الفضيل، حتى وإن كنّا أحيانًا غير قادرين على إظهاره وترجمته بأقوال أو أفعال، سنظلُّ نعيشه بداخلنا، وللطقوس الرمضانيّة عذوبة ممتدة منذ طفولتنا وحتّى الآن، وبذكر الطفولة سنجد أن جزءًا كبيرًا من ذاكرتنا تستحوذ عليه الذكريات الرمضانيّة ذات الطابع الإيماني، فالبهجة التي تغلّف قلوبنا بقدومه كانت ترافقنا منذ سنوات بعيدة، مثلما نراها الآن تتشكّل للمرة الأولى في قلوب إخوتنا الصغار، أكاد أجزم بأننا نمتلك ذكريات مشتركة، وأكاد أقسم أننّا نورّثها للأطفال، فما عشناه قبل سنوات من الآن، نبصره اليوم يُعاش بواسطة أرواحٍ غير أرواحنا، كأن الحياة تعيد نفسها أمام ناظرنا.ـ
إحدى تلك الذكريّات التي لا زالت حاضرةً اليوم، هي حماسنا الشديد نحو إتقان الصيام كما يفعله الكبار، أذكر أني كنتُ أتنافس أنا وإخوتي على إتمام الصيام حتى أذان المغرب، لا نقبل إهداءات والدتنا التي تجيؤنا على هيئة كوب ماء ونحن بمنتصف خوضنا للعبة الغميضة "واحد طش" في فناء المنزل، بحدود الساعة الرابعة والنصف عصرًا، بينما نلهث والعرق ينزلق من جبيننا، هذا المشهد المتكرر كان موضع اختبارنا الحقيقيّ، أيُّنا يستطيع حقًا الصمود كما البالغين ويغض طرفه عن عطشه الشديد، بل يوجّه بصره نحو الشمس مباشرةً، كما لو أنه يُخبرها بقدرته على تصدّي نفحاتها الحارقة، في تلك الأثناء التي يرفض بها معظمنا الانصياع لإشباع رغبتنا، يتسرّب أحدنا ببطء حتى لا تتم ملاحظته، ويختبئ في مكانٍ بعيد عن متناول عقولنا المنشغلة بإكمال اللعبة، ويروي ريقه بالماء البارد، ثم يعود لإكمال اللعبة، وكأنه لم يرتوِ. أذكر عندما كنتُ أنا إحدى المتسربين، لا أستطيع نسيان اللحظة التي تدفق بها الماء إلى حلقي الجاف، وبينما تمرّني هذه الذكرى أبصرها اليوم في أطفال عائلتنا، فابنة أختي لميس البالغة من العمر ستُّ سنوات، في رمضان الماضي وبينما نحنُ على سُفرة الإفطار، كانت تخبرنا بأنها صائمة، وبأنها تنتظر المؤذن أن يصيح بأذانه، بينما أبي من خلفها يقول "صوم الديك والدجاجة" فأضحك لأنني لا أرى في المشهد سوى إعادة إحياء طفولتي.ـ
جميعنا يعرف رمضان كشهرٍ مميّزٍ وفريدٍ عن بقيّة الشهور، ويعود تميّزه وفرادته إلى أسباب عديدة من ضمنها استشعارنا بتماسكنا الشديد، بدءًا من اللّمة العائلية وزيارة الأقارب، وانتهاءً بترابط الأمة الإسلاميّة ككلّ، إذ تغمرك مشاعر الانتماء بمجرد رؤيتك لمختلف طقوس الشعوب الإسلاميّة في استقبالهم لرمضان وحماستهم لعيشه، ولكلّ شعبٍ طريقته الخاصة في استقباله، فالشعب المصري يشرع بتزيين الشوارع بالفوانيس والأوراق والأعلام الملوّنة، ليتحول الشارع المصري إلى مهرجان ضخم يبهج الكبار والصغار، فيبدأ ضجيج السكان، منهم من يسعى خلف شراء المستلزمات الرمضانيّة، ومنهم من يخرج ليشارك الآخرين بحفاوة الاستقبال والترحيب، أمّا أطفال مصر فيتجوّلون بالشوارع حاملين الفوانيس مغنين أهزوجةً شعبيّة:ـ
"حالّو يا حالّو، رمضان كريم يا حالّو"
ومثل ذلك يفعل الشعب السعودي، والخليجي، واليمني، وشعوب بلدان الشام، وبقيّة الشعوب الأخرى باختلافات بسيطة، فالكل يحفلُ بطريقته الفائضة بالروحانية، مما يجعلك تشعر بأنك تُمسك بأياديهم، أنت لا تعرفهم، ولا تحصي عددهم، لكنك تحسُّ بتلك الرابطة التي تصلك بكلّ مسلمٍ على هذه الأرض، فتغشاك النشوة ويحلُّ عليك السرور.ـ
تشترك الشعوب الإسلاميّة بامتلاكها لشخصيّة عتيقة النشأة، لا تظهر إلا في رمضان وهي التي تعرف بالمسحّراتي، تنتشر هذه الشخصيّة معلنةً قدوم الأجواء الرمضانيّة، إذ يكون لكلّ حي تقريبًا مسحّراتي خاصًا به، يشق طريقه حين السحور أي قُبيل أذان الفجر، يلفُّ شوارع الحي قارعًا طبلته ومناديًا بشتى النداءات ليوقظ النائمين حتى يأكلوا ما تسنّى لهم قبل أن يبدأ وقت الإمساك. أشار الكثير بأن بلالًا رضي الله عنه وأرضاه كان أول مُسحّراتي ولكن بصورةٍ مختلفة، فقد كان يجوب الطرقات مؤذنًا بصوته العذب ليوقظ الناس، فاختلط الأمر عليهم بين أذانه وأذان الفجر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ـ
إن بلالًا ينادي بالليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم مسؤولًا عن أداء آذان الفجر
ثم عُرف المسحّراتي بصورة بارزة في العراق في عهد الخليفة الناصر لدين الله العباسي، إذ أوكل لأحدهم وكان يُدعى "ابن نقطة" مهمة إيقاظه وقت السحور، وتميّز ابن نقطة في تنفيذ مهمّته، فقد كان يتغنّى بشعر "القوما" وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان، فيوقظ ابن نقطة الخليفة قائلًا:ـ
"يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما"
وهكذا شاعت شخصيّة المسحّراتي في أنحاء الوطن العربي، حتى غدت جزءًا من تراثنا العربي والإسلاميّ، كلٌ يؤديها بطريقته وأسلوبه الخاص، كما وتنوّعت العبارات التي يصدح بها المسحّراتي، منها:ـ
"اصحى يا نايم، وحّد الدايم"
"يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة"
”يا نايم الليل قوم إتسحّر، قوم يا نايم قوم، قومك أحسن من نومك”
لكن وللأسف الشديد، شيئًا فشيئًا أخذت تتلاشى هذه الشخصيّة في زمننا الحاضر، فأصبحت لا تتواجد إلا في مناطق بسيطة، وصارت تظهر رغبةً بجني المال أو كـ نستولوجيا تذكّر الناس بأيامٍ ولّت وانتهت
بعيدًا عن المظاهر والطقوس الخارجيّة، وقريبًا لما يحدث داخل الروح الإنسانيّة، تلحظ أرواحنا الأثر الهائل الذي يُحدثه رمضان فينا من طمأنينةٍ وسكون، إذ تحفّنا الأجواء الروحانية بصورةٍ خلّابة، ترافقنا طوال يومنا الذي نحياه، نلمس في شهر رمضان معنى العيش، أرواحنا التي اعتادت الركض والصخب والانغماس في الملذّات، تهدأ وتتوقف عن ركضها في رمضان، وتشق طريقها إلى وجهةٍ أسمى وأبقى، تدرك أنها كلما سعت ومضت في ذلك الطريق، ستعانق معنى وجودها، فتسكن وترضى.ـ
للصوم فضائل عظمى ومنافع كبرى، غير الأجر الوفير والعافية الجسديّة، يساعد الصيام في تهذيب النفس البشرية التي تسعى بصورة فطريّة خلف كلّ ما هو ماتع، تكاد أن تكون غريزة اللذة هي الدافع خلف معظم ما نفعله ونسعى إليه، وبينما يجيء الصيام حائلًا بيننا وبين شهوتنا المتأججة تجاه الطعام، تتحلّى ذواتنا تدريجيًا بالصدود عن الاستجابة الفوريّة للملذات والشهوات الأخرى، نكتسب القدرة على الترويّ في إِشباع الرغبات، ونهي النفس عن اتباع كل ما تشتهيه وتطلبه وتهواه، وعِوضًا عن إشباع البطون يساعدنا رمضان على إشباع أرواحنا الجائعة، يكون جسر عودتنا إلى الله وإعادة تنظيم علاقتنا به، مما ينتهي إلى اتصالنا بأنفسنا المطمئنة والتي كانت بعيدة عنّا طوال العام، فيتملّكنا الإحساس بالامتلاء الحقيقي، ونشعر بأننا أقربُ إلى صورتنا الحقّة وطبيعتنا البشريّة الخيِّرة. في عصرٍ كثُرت فيه الملهيات وتفرّعت فيه الملّذات، نجد أن ما يسكن أرواحنا وينقذها من الذوبان في كلّ ما هو زائل، هو الامتلاء بالإيمانيّات والتمسك بكلّ ما لا يزول.ـ
ختامًا، أصدقاءنا، أصدقاء النشرة الأعزاء، يتوجّه جميع أعضاء فريق النشرة بتهنئتكم بحلول الشهر المبارك، سائلين الله عزّ وجل أن يوفقنا وإيّاكم لصيامه وقيامه كما يليق بجلاله.ـ
ومتمنين لكم إختبارات يسيرة سهـلة