وسط مختلف
العيش والنمو
ماذا تعني الدراسة في وسط ديني متشدد؟
إن النظر إلى مجتمع آخر وأنت تحمل ديانة آخرى؛ ممتع إلى حد ما، بإمكانك أن تسقط تشابه طرق التلقي من مجتمع إلى آخر، حتى تلحظ الفروقات وتصنع مقارنات تخرج منها بكم هائل من التشابه، كونك وسط قطيع لا تقاد فيه؛ وهذا لا يعني - سخطي إتجاه مجتمعي المتدين-، كل ما في الأمر أنني اشهد منافسة شطرنج أمامي، انظر إلى كل الإختيارات الأن وأرى تبعاتها لأتوقع ماتؤول إليه، استطيع فهم تحركات كلا الطرفين أكثر من قبل، واملك القدرة على تحليلها والفهم بشكل أعمق، كما لو أن سنين دراستي السابقة صنعت أساسًا قويا لا يمكن أن يهتز تأهيلًا لما يحدث الأن، لتخرجني بكل إطمئنان من دائرتها لأنطلق وارى العالم.
لا استطيع الجزم بصحة الطرق التي تلقيت بها علوم الدين؛ وهذا لحال سوء بعض ممثلين الدين الإسلامي، ممن تطال يداه أشراعه وأحكامه بلا أدنى تحري للدقة، ليخلق بصمة من السخط والتخبط لمن هم في سني حينها.
حتى أتى الوقت الذي نجوت فيه من تلك الأيادي، وما أوقن به الأن أنه لا توجد طريقة تزن وزن البحث الذاتي عن الأجوبة، لما يشمله من ترسيخ الإعتقاد والتسليم لها، فإن النفس تلقى مستقرها فيما تجده بذاتها، وأن الفطرة لا تعول على ماحولها.
ولازلت اشهد ان لا اله الا الله، وأن محمد عبده ورسوله، وأن الإسلام هو خاتم الديانات و اسلمها.
تعلُق الفاني بِالفاني يُفنيه ، وتعلُق الفاني بِالباقي يُبقيه
أول فصل دراسي
بعد أن أحصيت مختلف التخصصات، وقع الإختيار على ماجمع الفتيات الثلاث اللاتي قدمت معهن، لتبدأ أيامي الجامعية في وسط مختلف أشد الإختلاف عن ماعهدته، ماظهر منه وما بطن.
تناولت موادي الدراسية التاريخ الفلبيني والإقتصاد والسياسة،فنون الديانة المسيحية، الرياضة واللغة الفلبينية، وبالطبع الديانة المسيحية الكاثوليكية.
كنت الطالبة الوحيدة القادمة من خلفية مختلفة في صف يعج بأبناء الفلبين، كما تقول أمي “الأطرش في الزفة”؛ إنه لأمرٌ مقيت أن تقضي جل يومك وماكان يعادل 12 ساعة من يومي بين حشد بشري لا يمكنك الضحك على نكاته،كانت النكات ولا زالت أصعب مسألة أواجهها، كوني أرى أن الضحك من أسمى الطرق التي يتناولها الكيمياء البشري لخلق مزاج محسن،ومما رأيت ايضًا أن الضحك الجماعي قادر على هدم مراحل عديدة لتواصل إجتماعي جيد.
إن تصدير النكات نابع مما بنيت عليه حياتنا،التاريخ وثقافة المجتمع، وعليه فإن كل مجتمع يملك حس فكاهيا لا يشابه الأخر بل مغاير تمامًا، فما بالك بإختلاف حس فكاهة ابناء الصحراء والعروبة من وسط الجزيرة العربية ومايملكونه هنا في أقصى جنوب شرق الكرة الأرضية ؟
كنت انكمش كثيرا في هذا الوسط، يوم بعد يوم، أحدث نفسي حتى لا اعي لغيرها في الوجود، كما لو أن بقية الأصوات في الخارج موسيقى خلفية لما يخالج تفكيري.
حتى أن اسمع صوتا عربيا آخر غير صوتي، لتعلو اصوات القرقعة فيي، وأعود لأرض الحياة.
السيد ميكائيل
ينطق ويكتب “ميكائيل”، وهو القسيس المفوض لمحاضرة المسيحية الكاثوليكية، تدخل رائحة سيجاره الصف قبله في كل صباح من يوم الإثنين، حاملًا معه عبوة مشروب طاقة، وكتاب لا يفارقه ذو غلاف جلدي اسود.
عند دخولك الصف، ترحب بك العديد من الصلبان الخشبية، وتلاوات من الأسفار موزعة بالجدر، لتعلو عينك الصبورة وترى تمثال السيدة مريم التي تتربع المكان، من ثم تقف في مكانك من قشعريرة المكان،كل ما في الأمر أن أفلام هوليوود قضت على فرص حصاد أي روحانية تذكر؛ جال في عقلي فيلم The Conjuring وغيره.
في حين أن بقية الطلاب يتهافتون للإنحناء وأخذ يد السيد ميكائيل لوضعها على رؤوسهم؛ حتى تحل عليهم البركة في يومهم وعملهم؛ وهي من اساليب إظهار الإحترام والتقدير بالفلبين - لا أعلم حقيقة هذه العادة؛ ما إذا كانت ذو أصل ديني أو ثقافي.
كل محاضرة تبدأ بصلاة وتنتهي بأخرى، كان “سير” ميكائيل كما كنا نلقبه، يتولى إلقاء الصلاة الأولى، أما عن صلاة الإنتهاء فهو يسلم زمامها لطالب مختلف كل مرة.
اتساءل دائمًا، هل يجب علي الوقوف مع الجميع عند الصلاة؟ حتى يداهمني الوقت قبل صنع قرار، لترفعني قدماي لتقديم الإحترام لشخصهم لا لما يقدمونه.
استطيع القول أنني كنت استمتع كثيرا في محاضرات السير ميكائيل، بالطبع من المفترض أن اقول أني ارفض الإستماع أو امقت وقتي هناك، ولكن الحقيقة هي أنني كنت منصته جيدة، وكانت ساعات مليئة بالترفيه؛ هذا ومما أراه أن الإيمان يفوق الإثباتات المحسوسة والمعلومة وما يمكن فهمه بالعلوم، اعني “ أنا مؤمنة بالله عز وجل وحده وما أنزله إلينا، مؤمنة بالإسراء والمعراج والملائكة والجن والحياة ما بعد الموت” وكل تلك الأمور الغير الملموسة، لذلك وعند الحديث عن المسيحية وسرد قصص الإسرائليات وماتحتويه الأسفار وخلوي من الإيمان بها، فجل ما تبقى في جوفي لتصنيفه أنها قصص اساطير! خوارق وخيال!
يروي لنا السير ميكائيل عن الحدث “المعجزة” الذي خاضه، وتجربة عالم الخوارق كما يقول؛ وهي عندما كان متوجهًا للجهة المقابلة من الشارع، إذا بمركبة تتجه نحوه بسرعة خاطفة، وفي تلك اللحظة تحديدًا دفعه هواء قوي ملائكي مرسل من المسيح ليعود بإدراجه إلى بر الأمان، يقول أنه شكر الله بعدها، وأن الله يرسل ملائكته لحماية عباده المخلصين.
-حاشى ان يهبط جبريل لمن اشرك الله في وجوده وعبادته-
تذكرت حينها موروث الخيال الممتزج بتفاسير مغالطة مما تداولته أجيال من المربيين، عن من رأى وردًا ينمو في قبر صاحبه ليقول نعيم قبره طل علينا، إلى قصص الرعب التي غزت المساجد ولاحقت كوابيسي، عنوانها “اطفال يتحولون لقردة ومسوخ”.
طرح المحاضر عديدًا من المواضيع في المقرر؛ الوصايا العشرة، التضحيات في طائفة الكاثوليك التي تتمثل في الصفع والحرق، وساعات طويلة يستعرض فيها أفلامًا تصور سيرة المسيح حتى يوم صلبه، لنعود إلى المنزل محملين بواجبات تتطلب تحليل الفلم.
“في حين أن السيد ميكائيل يتساءل، ماذا لو رأيتك بلا حجاب؟ هل سوف أقتل؟
يلقنني أن الصفع والحرق تضحية للحصول على مغفرة الرب.”
توسطت المواضيع الثقيلة حوارات جماعية عن معنى الوجود،ووجود الله في حياتنا، وعلاقتنا معه، حتى أتى يوم زعم فيه “السير” ميكائيل أن أصل الأسماء كلها يعود إلى المسيحية وطلب أن نحضر تاريخ اسماءنا ومعانيها.
وقتها تذكرت مقولة صديقتي “ويلي”، عندما قالت “ هل والداك مسيحيان؟”
الصديقة ويلي
ويلي، قدمت من أرض النيجر إلى الفلبين، تملك حلمًا؛ أن تغدو مغنية ويصدو اسمها في كل مكان، وهي تدرس الإعلام الأن، ولازالت تتبع حلمها بما تمتلكه؛ قناة على منصة اليوتيوب مليئة بإغاني تكتب كلماتها وتشدو بها. لطالما كانت ويلي مثالا يحتذى به في الكفاح والمثابرة، فمنذ أن قدمت للفلبين وهي تجمع نقود معيشتها ودراستها عن طريق العمل كمدرسة للغة الإنجليزية، ودوام جزئي في محطة الإذاعة، حتى انها خاضت تجارب عمل عديدة كنادلة.
تعرفت على ويلي عن طريق إحدى الصديقات التي تأخذ دروس اللغة الإنجليزية معها، حتى توالت الإيام وتوطدت علاقتي بويلي كثيرًا، هي من إحدى الشخصيات التي تمتلك حقل جذبًا خاصٍ بها؛ فإن روحها محملة بقوة جيش مسلح بالحديد؛ لتلمع، وما زاد قبولها حس دعابتها المميز، لتستحوذ الساحة في حال حضورها، كأنها المحاضر والبقية طلاب.
نتجاذب أطراف الحديث عن ثقافتنا المختلفة وختلاف المعيشة بين السعودية ونيجيريا وصولًا للفلبين، تحدثني ويلي كذلك عن تجاربها في العمل هنا، وتحذرني كثيرا؛ حيث كانت تعمل نادلة لصالح مالك مطعم عربي، وبعد إنقضاء شهر من عملها أخبرها أنه سيقوم بزيادة راتبها في حال قدمت خدمات خاصة وغير لائقة لمرتادين المكان، لترفض بالطبع وتترك العمل.
إن ويلي تذهلني في كل مرة تنطق فيها بفكرة جديدة، أو تسرد خطة حياتها و مبادئها، كأنها إحدى الفيديوهات التحفيزية التي تزرع في داخلك حماس الدقيقة، ثم يخبو، ولكن ويلي لا تخبو؛ ترفعك معها دائما.
عن الأسماء
تخبرني ويلي أن كل مولود في وطنها يحمل اسمين، اسم معطى من قبل الأم والأب، واخر مخول من قبل الكنيسة في نيجريا، وبذلك ويلي تمتلك اسمين.
ومن ثم تسألني، هل والداك مسيحيان؟
بالطبع ملأتني الدهشة والإستغراب من سؤالها، وبعد إصراري الشديد لتخبرني عن السبب، قالت : هل تعرفين معنى اسمك ؟
أجبت بنعم، كون اسمي بالعربية يصف السعة، لتقول أنه علي البحث اكثر عنه، وغدا نكمل حديثنا.
بعد القليل من البحث إتضح لي أن أول من دعي بإسم رحاب كانت زانية تسكن في ساحة واسعه، ذكرت قصتها في العهد القديم، وكما تتلى قصص المسيحية واليهودية في القران الكريم، فإن قصص اليهودية مرتبطة ارتباط شديد بالمسيحية، تقول القصة : أن يوشع بن نون أراد هو وقومه أن يأخذوا حقهم في الأرض التي كتبها الله لهم خلف الأردن، ليرسل يشوع رجلان للتجسس على خبايا المدينة، وعندما كشف امرهما، اختبأ الرجلين في منزل (راحاب) كما تنطق بالعبرية، ليعودا أدراجهما بسلام، ويأمرا راحاب بأن تضع غطاء أحمر على مدخل بابها؛ لكي لا تهجم عليها الجيوش وقت الإحتلال، وعند دخول يشوع بن نون المدينه وكسر أسوارها من خلال صدى صوت صراخهم، بقيت راحاب في سلام ودعيت برمز الرحمة والرأفة.
وفي اليوم التالي أعلمت ويلي عن ما وجدته، لتأكد صحته، ثم تقول : ماذا عن اسماء اخوتك؟
وبعد أن أخبرتها، علا صوت ضحكها المنزل، لتقول : ما بال أهلك مسلمون يلقبونكم بإسماء المسيحية واليهودية ؟
لكن، ما لا تعلمه ويلي أن كل الديانات السماوية كانت تحمل نفس الرسالة، جميعها تحمل نفس الشخصيات؛ وهذا يعني نفس الأسماء، كل ما في الأمر أن ترتيبها مختلف في النزول، إن أزمان كل كتاب تتبع تفكير قوم مختلف ومحرمات ومبيحات مختلفة، وأن اليهودية والمسيحية نالت ما نالته من تحريف وتلطيخ.
وعند تقديمي لمعنى اسمي في الجلسة الحوارية لمادة الكاثوليك، أجبت بكل ثقة وفخر به، بذكري المعنى العربي أولًا، تلاه ما قيل في المسيحية واليهودية - وكان شعور المحاضر بقرب ديانته من معنى اسمي وأننا نحمل تشابهًا كفيلُُ بإعطائي تقييمًا مرتفعًا في المقرر -.
ماذا عني ؟
قضيت أيامي تارة في الحضور الإجباري لماسات الكنيسة في الجامعة، وإتمام ساعات طويلة في دراسة اللغة الفلبينية، و الكثير من الرسم والتخطيط لمادة الفنون،ودراسة المسيحية التي تلتها اليهودية وديانات الشرق من البوذية والهندوسية، حتى الوصول إلى الفلسفة الطاويية و الكونفوشيوسية، وقد نلت شرف تقديم عرض للديانة الإسلامية.
كان المحاضر يحضر شخصًا من كل ديانة نتناولها، ليسهب في شرحها بإيجاز، وعندما وقع الإختيار علي، وقعت أنا في حيرتي، ماذا أقدم؟
إن أول ما نستفتح به في مدارسنا عند دراسة الدين الإسلامي هي أركان الإسلام الخمسة، مشبعة ببساطتها بمعنى الإسلام؛ خمس فقرات متتالية بترتيب متتالي كفيلة أن تعطي صورة واضحه لغير المسلمين عن ديننا الشريف.
طيلة سنة دراسية الأولى كنت دائما ما ابتسم وأحيي الجميع من حولي، حتى أتى يومُُ كنت أخوض فيه إختبارًا للغة الفلبينية، وحين شهدت طالبًا أجنبيًا بقربي سردت له بعض من أجوبتي، وهذا ليس من شيمي؛ إن كتمان الغيظ قد فاق حد تحمل قلبي، وهذا ما طاله غضبي.
كل الطلبة الفلبيينين والأجانب يتناولون نفس مقرر اللغة الفلبينية، وهذا وضعُُ صعبُ التأقلم فيه؛ كوني لا أملك اللغة الفلبينية، كنت أحاول بإستمرار مواصلة إجتهادي في المادة، وفي كل مرة ارى تقدمًا واضحًا في في مستواي عن بقية الطلبة، لا تنصفني المحاضرة؛ وتقول : كيف تريدين الحصول على درجة مرتفعة تفوق الطلبة الفلبيينين وهم ابناء اللغة ؟
بعد إتمامي الإختبار وخروجي من الصف، خرجت مسرعة للإستعداد لعرضي القادم في صف الديانات عن الإسلام،ومن خلفي تبعني الطالب الأجنبي الذي ساعدته حتى وصلت إلى صف خال، وبدأ بالحديث معي بعد أن ألقى تحيته، ليسألني عن اسمي ومن أين أتيت، وبعدها أحضر كرسي لي وله وأجلسني،لم استطع الرفض وقتها، لم أكن أملك مهارات تواصل إجتماعية جيدة كفيلة بإنقاذي من هذا الموقف، كنت بشوشة بشكل مبالغ فيه.
كان شخصًا غريبًا جدًا هيئةً - ذوقه - وتفكيرًا، جسده مغطى بالوشوم ويحب إطالة أظافره، يربي في سكن الجامعة ثعبان وعنكبوت ضخم، أخبرني أنه سر وعلي ألا أخبر أحد من الجامعة، كون تربية ثعبان كبير في السكن الجامعي ممنوع، وبعدها أخرج هاتفه ليريني ثعبانه المزعوم وهو يطعمه فأرًا يشتريه كل أسبوعين من متجر الحيوانات الأليفة، ليكمل حديثه عن حيواناته العجيبة التي تركها في موطنه عند قدومه هنا، وكانت تلك أول محادثة لي مع شخص غريب تمامًا، عن فيديو “ثعبان يتناول فأرًا”.
بعد إتمام حديثه، أراد أن يحصل على حسابي في تطبيق ال messenger، أخبرته أنني لا املك شبكة انترنت، ولا يمكنني إرسال طلب صداقة له الأن، وكانت تلك الحقيقة والحمد لله؛ حتى جذب هاتفي من يداي ووصل شبكته عليه ليرسل رسالة من حسابي إليه، قال : الأن أصبحنا اصدقاء!
كان هذا أول ملاحق حصلت عليه في حياتي، ربما كانت “كارما” المساعدة على الغش في الإختبار، وللقصة بقية..