كان يامكان: اول متربص لي
لنكمل القصة هنا، كان يامكان، في قديم الزمان وتلك الإيام، تربص بي غريبُُ ما، لا وجود له الأن، إلا في بعض لطخات روحي.
كان ظله يتبعني في كل مكان، حتى لو لم يكن حاضرا في المحيط.
أثر الهلع الذي صاحبني منه خالجني؛ صوته وهيئته ووقع حذاءه حين يركض نحوي، متفرغه أنت؟ كيف حالك؟ لماذا ترتدين هذا الحجاب؟ اتكذبين علي؟ اجيبي !
خُتمت كل تلك الجمل بإيماءة رأسي، لتكون اقرب نقطة لي واخفها علي حركة لساني.
لم تكتفي انانيته من استحقاق ساعات حياتي في النهار ليخترقها عند غياب الشمس ونوم الحمام، ويقبل في المنام بصوت عالي يرن صداه، أتكذبين علي؟
لطالما تساءلت ماذا جنيت لأكون فريسة تلاحق ؟
ماذا جنيت لأكون أمةً لتسلية أحد ما؟
ماذا جنيت لأكون كغزال صغير لا حول له ولا قوة له امام نمس الغابة؟
ماذا جنت الفتاة، وماذا جنيت أنا؟
يسحق يومي بأسره ويمر، يمر كما لو أنه لم يحدث شيء، يخنق روحي بيده ويتغنى في معيشته بيده الأخرى، كما لو أنني لا شيء، لا مخلوق.
استمر الهرب والركض،الخوف والقلق طيلت الفصل الدراسي في صف اللغة الفلبينية ذاك، كنت كمن هو في وسط ساحة حرب بيني وبين عنصرية المحاضرة، والملاحق غريب الأطوار.
وهكذا، غدت كل افكاري لا تبحث الا عن الهرب، الهرب من الموقف والمكان ، الهرب من الحياة الوجود.
و ها أنا هُنا أحاولُ أن أعيش حياتي ، أو بالأحرى أُحاولُ أن أُعلِّم الموتَ الذي بداخلي كيف يَستطيعُ أن يعيش
جان كوكتو
في تلك الاثناء، عند حدوث ثغرة الملاحق في حياتي، وجدت تلك المحاضرة فرصة لها لإكمال عدم انصافي في ما استحق، كنت اقبل إلى الصف عند بدء الدرس، واعدو منه كمن يسابق في الأولمبياد في نهايته، فقدت تركيزي في التجاوب في الصف أو حل الإختبارات،امتص كل مابقي مني؛ لأصبح انا بلا انا.
في منتصف الفصل الدراسي، كان هناك حدث يقام في الجامعة يخص الطلبة الأجانب، حفلة مسائية تستمر إلى شروق شمس اليوم التالي، تلقيت الدعوة بالطبع ولكن لإسباب عديدة لم اظهر هناك.
وفي ليلة الحفل تلقيت رسالة نصية من الملاحق، يقول فيها : اين انت؟ لا اراك بين الجموع!
اخبرته انني لم استطع القدوم إلى الحفل، ليجيب قائلا: تكذبين…
خلدت إلى النوم باكرا تلك الليلة، أغمضت عيناي وتمنيت لو أن القمر يلتهم الشمس، ليختفي كل هذا السطوع، لتختفي ساعات النهار ونبقى نيام حتى الإنقلاب للنهاية!
رسوب، مواجهة واطلاق الرصاص
كان يوم صدور درجات اللغة الفلبينية،وأتت المحاضرة لتواجهني بكل ماملكته من فصاحة الإختصار واقفال الحوار، مغلفة بقدرات تبجحها، سابقة لها جوع ظلمها الذي علا صوته.
تقول : ان درجاتي بالكاد تعينني على النجاح، وأنه لا مفر من الرسوب.
خرجت باكية حينها من الصف، ليس من وقع الرسوب علي، ولكن من غصة الظلم التي لم استطع ابتلاعها.
وفي تلك الأثناء تبعني ظل ولحقه اخر، كرست حينها كل طاقة امتلكها لقدماي لتركض اسرع، اركض واركض، الهث في منتصف الطريق، اختنق واسعل ولكن قدماي لاتعينني على الوقوف، لا تعرفان شيء سوا الكرض إلى الأمام، ودت لو انني اركض حتى تنطلق روحي من المكان، اطير ربما.
كان من يتبعني كلا من المتربص وصديقه، حتى وصولي لأخر محطة، تقاطع الإختيار بين طريق مسدود او مبنى مهجور، وكلاهما ليسا بالجيد، ولكن المبنى المهجور مليئ بالسلالم كفيلة للإختباء اسفلها ومتاحٌ اكثر من الوقوف والإستسلام.
وهنا، وقع الغير متوقع
اختبأت في إحدا الشرف في المبنى المهجور، ليصب تركيز عيناي للإسفل، اترقب خروج الرجلان من المبنى وانتهاء هذا الخوف.
وبعد عشر دقائق ربما غادرا خائبين؛ لم يجدا اثري، لتعود انفاسي إلي من جديد، شهيقٌ وزفيرٌ وصراخ.
كان الهواء منعش في تلك الشرفة، اشعة الشمس خفيفة، وصوت ارتطام أوراق الشجر واغصانه يخلق ضوضاء بيضاء، تحفز شعوري بالبكاء.
في منتصف الغرق في دموعي، لمحت عيناي شخص بعيدا يمتطي دبابا، ليهبط منه حاملًا معه سلاحًا.
لم يكن حدث الرسوب والملاحقة كافيا لهذا اليوم، انا وحيدة في مبنى مهجور هاربة من رجلين، وبعد إقراري بالنجاة وأني وفي بر الأمان، يأتي هذا حاملًا سلاح!
فاصل
الأن، وانا اكتب هذه التدوينة، تذكرت صيف عام 2014 في شهر رمضان، حين كنا نتسامر انا واخواتي بجلسات مليئة بالضحك واوراق الأونو، وبعد قضائنا من صلاة الفجر في احد تلك الأيام، استلقيت متأملة حياتي وقلت: حياتي رتيبة جدا، مثل أي شخص اخر اعرفه، هل تحدث قصص الأفلام في الواقع؟ اتمنى ذلك، ادعو لذلك، اريد العديد من المغامرات بحياتي !
وعلى رهن الأحداث الحاصلة الأن، يبدو أن أمنيتي تلك الليلة وقعت في ليلة القدر.
كان في العاصفة. مقتلَعاً مخلَّعاً مشلَّعاً. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه في مكان، وعبثاً حاول جمع أعضائه.
وديع سعادة