الجنون سمة الواقع
رولا عبدالرحمن
لست طبيبة ولا عرافة ، لست ادري ما التفسير العلمي لما سأكتبه الآن ، و لا أود أن أدلو بدلو الحقائق فقط ، لا اود ان اكتب نصا جامدا لا يتحرك بل اود ان يكسب نصيّ سمة أكثر من كونه نصّ اعتيادي ! ، نصٌ كتب لا ليجعل الشفتان القارئة تتحرك فحسب ، أو لتقرأ فحسب ، اود ان اجمع الحقيقة بالواقع ، و الفن بالوقائع السعيدة والتعيسة .
لذلك كتب هذا النص لا ليعزز سمة الجنون كصفة مرضية ، ولا بكونه نصا علميا بحتا مليء بالحقائق المثبتة فحسب ، إلا أنه بطبيعة الحال نصٌ كتب ليداعب الفكر بالفلسفة ، الفن بالسينما ، المفردة بالمعنى ، والهيام الكفيل بزيادة قريحة الشعراء حول العالم ، وعلى الجانب الآخر تماما تلك اللوحات التي رُسمت لتكون طريقة فعالة للتعبير عنا ! فقد كُتب هذا النص .
" إذا أردت أن ترى مجنونًا، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة "
حيث لا يوجد مطلق حتمي ولا مطلق مطلق بهذا الوجود
فقد وجد الجنون بمستوياته المختلفة ليعبر عنا ، وهذا ما آلت به طرق تفكير الفلاسفة والفنانين ليجعلون الجنون هو ما نحن عليه ، فإن كنت عاشقا فأنت ملقبا بالهوى حد الجنون ، وان كنت تقرأ لجحا فقد تعرف اي جنون أو حمقٌ كان يتصف به ، وهنالك الأخرق ، والمخبول ، المجنون ، والمعتوه كلمات تتردد لكثير النسيان ، للمشتت ، او للشتيمة أحيانا بل وأكثر ، لتدع موضوع الجنون صفة ممتدة تتعدى المصحات النفسية و لتكون طريقة لنا في حالاتنا المختلفة
مقاربات ما بين الجنون والفن…و أدبيات الحمقى
حول لوحة سفينة الحمقى وزيارة افتراضية لمتحف اللوفر
خارج أطر اللوحة ومتحف اللوفر نرى أن سفينة الحمقى بريشة ( بوش ) كانت تجسيدا للقرن الخامس عشر في أوروبا ، زمان مختلف ، ثقافات مختلفة ، شخوص وتعبيرات مختلفة كليا عما نحن عليه الآن إلا أن الرمزية المختزلة باللوحة مازالت هي نحن
... معشر البشرية !
حيث لو تأملت اللوحة لثواني لشعرت بضبابية المشهد بجانب ذلك الشعور المصاحب لتأمل اللوحة وتركيبتها .
سفينة الحمقى هي سفينة بلا وجهة ولا مركب ، مجدافها ملعقة طعام ، و يرتادها قرابة العشر شخوص ما بين الراهب والراهبة ، المرأة والرجل ، الصحيح و المتوعك ، و طاولة طعام تتوسطها ! ، و شجرة قد جذرت جذورها مابين مركب السفينة والبحر ! ، و رجلٌ يصرخ وامرأة تحاول النجاة ، سفينة صغيرة لا تكفي لعدد ركابها سائرة لوجهة مجهولة وفي أي لحظة غير متوقعة قد تهوي بهم جميعا ، يتحدثون، يأكلون ، يشربون بشكل عشوائي مشابه لخطيئة الجشع ، كعامل ملازم جنوني مصاحب للبشرية .
هكذا رسمت اللوحة بهذا القدر العالي من السريالية لتمثل خطايا البشرية العديدة و كنوع من جنون البشرية اتخذت هذه اللوحة كتعبير مجازي مغاير عنا نحن معشر البشرية نحن و رذاؤلنا العديدة والتي لا تنتهي مابين ( العصبية ، والفجور ، والشراهة ، والغرور ، الغش والاحتيال والشرور المختلفة القائدة للجنون بمعانيها المجازية ! )
"من أجل الحديث عن الجنون، ينبغي امتلاك موهبة شاعر"
الفيلسوف ميشال فوكو
اللوحة كانت هنالك معلقة ألمانية تحمل نفس الأسم فمهما تعددت الأقوال حول العملين ما بين من استلهم الفكرة من من ؟! هل هو الشاعر صاحب المعلقة أو الرسام صاحب اللوحة .. إلا أنهم بطبيعة الحال تجتمعان في رمزية واضحة وضفت الفن ورمزية الجنون للتعبير عن هفوات البشرية الا منتهية .
لتكون المعلقة والقصيدة الألمانية والتي كُتبت من قبل ( برانت سيباستيان ) حول مركب يحمل طبقات مختلفة من البشرية من مختلف الطبقات والمهن ، متوجهين إلى عالم الغباء كما يشير المصدر ! ليثير في مُعلقته ، إلى الشره والبحث عن المصلحة الذاتية العمياء ، فقد أصبحت معلقة برانت موضع اقتباس وطريقا لتشكيل أدب جديد ، كانت بدايته من ألمانيا وامتدت لأرجاء أوروبا حاملةً مسمى " أدب الحمقى "
فتقول المعلقة في أحد أجزائها :
أنتم أيها العلماء الذين تتمتعون بصيت كبير .. التفتوا وراءكم لتتأملوا ميراث الأقدمين وقانونهم .. كتب للفكر لا تتغذى من ضيق الذهن .. بل من القلب، الذي هو مركز النبل
الدراما والسينما ورمزيات الجنون
رؤية المخرج والسيناريست هي بوصلة العمل المقدم للجمهور .. ما بين الدراما والسينما المحلية والعالمية كانت شخصية المجنون هي الإشارة للرغبة بالمطالبة الشعبية أو حتى الإجتماعية ، ليكون الشخص المجنون هو الضوء الساطع على القضية والمطالبة بالحقوق ! ، ولأن الواقع جنون .. والجنون هو عمل قادر أن يحرك مشاعرك الدفينة قبل عينيك و يقودك لأن تتخيل انك مؤديا لدور بطولي أو كمبارساً عابر .
فالجنون حتما هو الوسيلة الفعالة ما بين إضحاكك أو تأثرك كمشاهد ، فهكذا كتب طارق عثمان مسلسه " على الدنيا السلام " ما بين محظوظة ومبروكة اليتيمتين اللتين استولى عمهم تعسفاً على ممتلكاتهم وحقوقهم ليتهمهم بنهاية المطاف زورًا بالجنون ! لتعيشان داخل المصحة برفقة المجانين وما بين محاولات الفرار للعالم الخارجي والمصحة ، فكانت الرمزيات في موضع الضرورة المتلازمة مع الشعب
كـ :
حقوق النساء ، ونظرة المجتمع ، والوضع الاقتصادي الكويتي ، و الزواج ، و التربية ، وأخيرا السياسة فلا نستغرب أبدا لو أُرتديت شعارات المسلسل كحقيبة قماشية ، أو عنوان لافتة في ساحة الإرادة بالكويت ، والتي تقول :
يسقط عمي وتسقط مرته !! كرمزية للمطالبة الشعبية
” هل أصابني الجنون؟! ربما، أو ربما هذه طبيعة الحياة..الجنون ليس أن تكون محطما أو أن يبتلعك الظلام. بل إنه أنا و أنت عندما يقوم عقلنا بتضخيم الأمور… عندما تخترع كذبة وتستمتع بها… عندما تتمني أن تكون طفلاً للأبد… لم يكونوا في المصحة مثاليين، ولكنهم كانوا أصدقائي”
سوزانا كايسن ، مذكرات فتاة قوطعت
هل تخيلت نفسك مصاب باضطراب الشخصية الحدية يوما ، أي أن تكون بين اضطراب نفسي طفيف ، وحالة مرضية عصية الفهم ، بأن تكون في حالة من دوامة العلاقات المضطربة ، حالة من التشتت في تعبيرك الخالص عن ذاتك
" اضطراب الشخصية الحدية " هو اضطراب قاد سوزانا كايسن لكتابة مذكراتها التي استلهمت لاحقا لإنتاج عمل سينمائي يحمل نفس الأسم ( فتاة قوطعت ) لتحكي عن مذكراتها مع المرض ومكوثها بالمصحة النفسية ومقابلتها عدد من المجانين
فأضطراب الشخصية الحدية هو :
" نمط شامل من عدم الاستقرار في منظومة المشاعر الخاصة من الإنسان، ويأتي ذلك في سياق العلاقات مع الآخرين، والمزاج، وفي صورة الشخص عن ذاته، ويحاول الشخص أن يتحكّم في هذا النوع المتفرد من التوتّر في حدة مشاعره "
فبعد مضي العشر سنوات لسوزانا كايسن ما بين محاولات الإعتراف بالمرض كأضطراب ومحاولات التعافي منه تقول ؛
” لقد أضعت سنة من حياتي هنا.ربما كل من في الخارج كاذب، وربما العالم كله غبي وجاهل، ولكني أفضل أن أكون فيه على أن أظل هنا في الأسفل”
سوزانا كايسن
ما بين النص والعمل التلفزيوني المقدم اللوحة والقصيدة ، الرمزية والوقائع
ف إلى أين سيكون مآلنا نحن معشر البشرية !؟
في ظل تلك الهفوات العديدة ، والشرور المختلفة ، والقضايا المعلقة ، والتنازلات التي لا تنفك عن الإنتهاء ، فهل نحن منقادون لطريقة فوهة الجنون ، هل الجنون هو الواقع المخفي لنا ، وهل على الدنيا السلام بمحظوظة ومبروكة ومجانين المصحة جميعا أم علينا نحن السلام ؟….
تمت ….