مطرقة نيتشه

عبّر فريدرك فيلهلم نيتشه عن جوهر النفس المتمردة بشكل فلسفي بديع. فقد حمل بروفيسور الفيلولوجيا الإغريقية مطرقةً وبدأ رحلة هدم القيم الفاسدة متأثراً بمجال تخصصه الأكاديمي الذي يسعى لتحليل جذور اللغات من منظور تاريخي، فحمل على عاتقه المهمة الجريئة لتحليل جذور النفس من منظور تاريخي كذلك. بحث نيتشه في الجذور التاريخية المشكلة لهوية الفرد الأوربي في فترة زمنية محورية بدأت تتشكل فيها معالم هوية إنسانية فريدة تعتمد في مرجعيتها على ذات الإنسان مولية كامل الثقة فيه والإخلاص له.


نظر نيتشه في النفس بعدسة التاريخ متفحصاً المفاهيم الأخلاقية التاريخية التي تشكل جذور النفس وعمق الذات البشرية، ليس بمنهج علمي صارم بل بنظرة الشاعر المتفكر، فلم يترك من بعده منهجاً فلسفياً ولم تكن فلسفته قائمة على الاستدلال أو الاستنتاج، بل ترك آثار روحٍ متمردة وعقل متحرر سبر أغوار النفس المتأرجحة في فضاء القيم والحاملة لهم واقع تمرد على التاريخ بأسره. لذلك كان نيتشه نبي الحداثة، جاء من أقصى المدينة لينبه قومه ويحذرهم من عواقب ما يفعلون، فالمجتمع الذي تمرد على التاريخ بعث نبياً متمرداً على المجتمع والتاريخ. وقد لا يكون حديث نيتشه موجهاً للفكر العربي/الإسلامي بشكل مباشر، حيث لا يمكن للفرد منا أن يجري حوار مع نيتشه من منطلقات فضاءنا الفكري. ولكن التفاعلات الحاصلة في مجتمع أوربا في زمن نيتشه تلقي بضلالها على الأرض قاطبة في زمن العولمة الحالي، وفي مجتمعنا بشكل خاص في هذه الحقبة.


فكم نحن بحاجة لمطرقة نيتشه لنهدم بها الترسبات التراثية الفاسدة المتأصلة في أعماق العقل الباطن للفرد فتمنعه من التفاعل بشكل إيجابي مع نفسه ومع العالم، وتتركه حائراً ما بين تراث تجاوزه الواقع٫ وواقع يشكله (الآخر) ويفرضه عليه.


أن أستميل الكثير إلى الخروج عن القطيع٫ ذلك هو العمل الذي جئت من أجله. وسيبغضني الراعي والقطيع٫ لصاً سيسمي الرعاة زرادشت.


 هكذا تكلم زرادشت

جرأة نيتشه على نقد ماضي أوربا ساهم فيها تحرر الفرد الأوربي من التراث الكاثوليكي وترسباته، لكن النتيجة لم تكن مرضية لنيتشه فقد أودى ذلك إلى (قتل الإله)، ولكن المجتمع الذي قتل الإله سيعيد إحياءه إن كان صادقا مع نفسه مدركاً لنواقصه ممتلكاً لأدوات للبحث والمناخ المشجع له.  ولكن الطامة الكبرى هي قتل الإله في مجتمع يرفض مراجعة تصوراته ونقد ذاته وإعادة فهم واقعه وهي مهمة جريئة لا يمكن للمجتمع أن يتصدى لها بشكل جمعي بل هي مهمة تخص الفرد وحده ولا أحد غير الفرد ذاته.


لا تقرأ لنيتشه إن كنت تعتقد بأنه سيقدم لك منهجاً أخلاقيا أو إجابات جاهزة، ولا تقرأ نيتشه مسلماً بكل ما يطرح من استنتاجات، فنيتشه بذاته يجب ألّا يسلم من مطرقته الهادمة، ولكن اقرأ لنيتشه إن كانت لديك الجرأة لحمل المطرقة وهدم قواعد الذات بهدف إعادة بناءها، فكل صعود يسبقه هبوط، وكل شروق يسبقه غروب كما يعلمنا “زرادشت” نيتشه.

أحب أولئك الذين لا يعرفون كيف يعيشون دون أن ينحدروا للأسفل، لأنهم هم من سيعبرون للأعلى.


هكذا تكلم زرادشت
Join