ألم في ملأ

هل حدث يومًا وأن أصبت بشعور وطفقت تبحث عن معناه في كل زاوية؟ تحاول أن تفتش عنه في تقاسيم البشر لكي لا تضطر أن تتحدث إليهم؟ تتابع مسلسلك وأنت تتساءل داخليًا عن معناه فيجيبك بطل المسلسل ضمن سيناريو مكتوب قبل أن ينشأ هذا البحث؟ أن تتواصل مع الطبيعة بحثًا عن المعنى في صفاء الماء في عروق أوراق الأشجار في تصدعات التربة؟ أن تسأل هاتفك هل يعرف هذا الشعور؟ - لا يفوتني أن أذكر أنك لو سألت فـ siri جاهز للجواب- وفي خِضم غرقك في هذا البحث تحاول أن تبحث عن نفسك أيضًا فـ “كل إنسان هو موضع تساؤل من قبل الحياة، إنه لا يستطيع الإجابة على الحياة إلا عن طريق الإجابة على حياته”.


في ذات ليلة ظلماء سألت أمي وش يعني الألم؟ كنت أنتظر منها رد حاني - كعادتها - من نوع "توك صغيرة على الألم" أو على الأقل "بسم الله عليك منه" لكنها فاجأتني بإجابة علمية بحتة تشير إلى خلفيتها الكيميائية: الألم هو عبارة عن ألياف C تقدح في الدماغ ووو ... في هذه اللحظة أدركت أن أمي أخذت دور المدّرسة لا الأم الحانية فأعطيتها ابتسامة عريضة وأكملنا الدرس على خير.


نعود للألم ما الذي حصل؟

اعتدنا دائمًا إذا أُصبنا بجرح أو خبطنا بالباب أن نصدر صوتًا لا إراديًا يشير إلى الألم كصوت التأوه والتأوش – مصدر أوتش الذي اخترعته - ذلك الصوت المغرق بالتألم والمخنوق من شدة قدح ألياف C في أدمغتنا، هذا الصوت الذي يخرج كأنه صوت المنطقة المصابة الذي أتوقع أن له دور كبير في تخفيف الألم.

ولكن الذي دفعني للكتابة ليس ألم جسمي مررت به، بل ألم داخلي جراء محادثة وموقف مزعج، تمنيت أن أقول أوتش وأن أصرخ لمدة لا تقل عن ساعة لأتخفف من الألم ولكن أن أصرخ وأنا لم أخبط بالباب ولم أتذى جسديًا فهذا شيء مريب للغاية مع أنه بالنهاية ألم، فالدماغ لن يفرق بين نوعي الألم البيولوجي والداخلي أو النفسي.

وفي تجربة لعلماء حاولوا قياس أثر الصراخ نتيجة الألم، طلبوا من مجموعتين وضع أياديهم في إناء ماء به قطع ثلج، سمح للمجموعة الأولى الصراخ والمجموعة الثانية لم يسمح لهم ذلك، في هذه التجربة كانت قدرة التحمل للمجموعة الأولى أكثر بطبيعة الحال من المجموعة الثانية، وهذا يفسر سبب سرعتنا في التأوه والصراخ عندما نصاب بالألم لذلك اصرخوا قدر الإمكان وتخففوا منه!


الألم ظاهرة فسيولوجية وأنثروبيولوجية

مسألة الألم ظلت لفترة طويلة من الزمن تُدرس من الناحية الفسيولوجية والطبية وأغفلت الجانب الأنثروبولوجي في الألم الذي يفسر الألم باعتبار أن للعوامل الثقافية والاجتماعية تأثير على هذه الظاهرة، موريس تحدث عن هذا الجانب في كتابه ثقافة الألم ١٩٩١م فهو ينظر للألم بوصفه نتيجة للتفاعل مابين العقل والجسد والثقافة فهو يتشكل وفق العناصر الثقافية التي ينشأ فيها، ولا ينظر له كظاهرة فسيولوجية وتشريحية فقط.

الفرق بين دراسة ظاهرة الألم من الناحية الفسيولوجية والأنثروبولوجية أن الأولى تدرس الألم بوصفه إحساس ينتقل عبر ناقلات تصل للدماغ تحدث هذا الألم وهنا يظهر لي أن أمي من أنصار دارسي الألم كظاهرة فسيولوجية، أما الأنثروبولوجية فينظرون للألم على أنه “ظاهرة وثيقة الصلة بالبيئة الاجتماعية والثقافية، فإن مفاهيم الألم والضعف والعجز تتضمن عوامل اجتماعية لا تقل في أهميتها عن العوامل العضوية”.

فالعمر والجنس والحالة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من المعايير تؤثر في تحمل الألم وتقبله والتعامل معه، بيكر عالم تخدير أمريكي أجرى تجربة يختبر فيها مدى تأثير العوامل الأخرى في تحمل الألم، فملاحظته كانت على مجموعتين الأولى كانت لجنود جرحى والثانية لمرضى مدنيين، ثلث المجموعة الأولى طلبوا أن يتم تخديرهم لتخفيف الألم، أما المدنيين فـ ٨٠٪ منهم طلبوا التخدير رغم أنهم أقل معاناة من المجموعة الأولى الذي يعتبرون أكثر تحملًا للألم مقارنة بالآلام التي يشهدونها في ميدان القتال، بعكس المدنيين الذين يعيشون في حالة من الرخاء والرفاهية.

الألم ليس واقعًا بيولوجيًا محضًا، بقدر ما هو رهين الدلالة التي يضفيها الإنسان عليه

لوبروتون

الألم والمعاناة

كثيرًا ما نسمع آلام يرويها لنا أصدقائنا في حياتهم وقد تتشابه مع آلامنا ولكنها أكثر وقعًا على أصدقائنا، فقد يكون الحدث مؤلم جدًا ولكنه لا يسبب معاناة وقد يكون مؤلم ويسبب معاناة فظيعة لصاحبها، فإذا اشتكى لك أحد من ألم مر به ومررت أنت به أيضًا فلا تعتقد أن تجربتك تنطبق عليه ولا تطرح عليه جملة (كلنا زيك بس أنت لا تتدلع) فـ “الألم تجربة ذاتية أكثر من أنها تجربة موضوعية” - محمد الحاجي.

والمحزن أن هذه الحالة ترتبط بـ “الشعور بالوحدة، لأن المتألم ينطوي على نفسه ويبتعد عن الآخرين، ويتضخم هذا الإحساس عندما يرى المتألم ألا أحد قادر على فهم معاناته” فالألم أشبه بالمنفى للشخص يذهب به بعيدًا ويدخل في عوالم متعمقة لا نهاية لها.

“أيها الوجع الممتد فينا!

أما آن لك أن تستكن؟

ألا ترى أن مآقينا تكدست وجعًا؟

رجاءً أغفو عنّا برهةَ وقتٍ حتى ينساب

الدمع بمجاري الجرح النازف فينا

فيغرقنا أو قد يحينا”

Join