العيش في نقطة
في كل مساء أموت وأولد من جديد في الصباح، ذاكرتي عمرها ٢٤ ساعة فقط لا يمكن أن تتسع للذكريات، خائفة ومتوجسة من بناء ذكريات جديدة لكي لا تتعلق بها أو تتألم بسببها، مصطدمة بجدران الفراغ بحثًا عن وليف لينتشلها من الوحدة!
لا أعلم كيف وصلت لهذه الحالة ولا أعتقد أنني كنت ضائعة في الاتجاه الخاطئ بل أشعر أن الحياة أساسًا بدون اتجاهات، لا أعرف مكانًا غير النقطة التي أقف عليها، نقطة مجردة لا أبعاد لها!
فالعلم حتى يحدد مكان جسمٍ ما ينظر لأبعاده الأربع: الطول والمساحة والارتفاع والزمكان، تخيفني فكرة أن هذه النقطة لم تمش لترسم خطًا طويلًا، ولم تتسع مساحتها لتحتويني حتى أنها لم ترتفع عني لتُظلّني وبقي زمانها ومكانها مجهول وبقيت هكذا واقفة على نقطة.
في اللاشيء
حتى وإن شكك العلم باللاشيء فإن واقعي أثبته، جربت العيش في هذا اللاشيء! حُبست في النقطة ونفسي أصبحت خاوية لم تصل لها أية مشاعر، أبوابها ونوافذها مؤصدة أمام كل شعور كالفرح والتفاؤل والعيش والتوقع، وفارغة للدرجة التي تجعلني أسمع صوت أعضائي وهي تعيش من أجل لاشيء، الآن وأنا أتذكر هذه الحالة أنطق كل لحظة بـ لاشيء حتى أني توقعت انتهاء الكتابة عند هذه اللحظة! ثم تنبهت أن عملية التذكر التي أقوم بها الآن كنت عاجزة تمامًا عن القيام بها في حالة اللاشيء.
فالتذكر هو أشبه بالسفر إلى الزمن الماضي ليرى الشخص نفسه ويعي حياته وتربيته وخبراته السابقة، فشله الذريع، أصدقائه المقربون، اهتماماته ومفضلاته، كل هذه الأحداث هي التي تكون الشيء ومنها يتكون الشخص وتتراكم لتتكون هويته .. ولكن في حالة اللاشيء وانعدام التذكر ننحبس في النقطة فلا ماضي نعود له فتضيع الهوية، ولا مستقبل نراه فلا نبني هوية.
"من السهل أن يموت الإنسان من اللاشيء أكثر من الألم، فالإنسان يمكنه أن يتمرد على الألم، ولكنه لايستطيع فعل هذا أمام اللاشيء"
الذي كان ينقصني هي نظرة خاطفة للخلف، تذكر سريع لمجريات الأيام، ابتسامة بسبب ذكرى مضحكة أو حتى حزن بسبب أيام صعبة، ولكن ذاكرتي لم تسعفني فهي أشبه بالأرض الجدباء التي لم يطأها أحد منذ زمن بعيد، حاولت استثارة ذاكرتي مثل الشعراء عندما تثار أشجانهم وأحاسيسهم برؤيتهم لشيء ما، كما استثارت الطبيعة الخلابة في مدينة الزهراء ابن زيدون وجعلته يناجي حبيبته فقال: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا .. والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا ، وفي عصرنا الحالي المكان الذي يفترض أنه ممتلئ بالمحفزات التي تثير الذاكرة هي الصور! ولكنها كانت مثل ذاكرتي لا تسمن ولا تغني من جوع، كنت أحاول الحفاظ على مساحة هاتفي وترتيبه فأحذف كل الصور وأبقي التي أحتاجها كأغلفة الكتب مثلًا، اقتلعت كل جذور الذكريات وجففتها حتى أصبحت مقفرة، كان هاتفي أداة للاستعمال لم يكن جزء مني ولم يكن ذاكرتي الاحتياطية.
التصالح مع الماضي
قد نخشى من الالتفات للماضي أو نخاف أن نعود للزمن فنحبس فيه، ولكن الإنسان لابد أن يحنّ للماضي بوصفه استقرار وأمان، أحداث الماضي انتزع منها عنصر الغموض والتوجس، وتتوقف إرادة الإنسان فيه فلا يستطيع تغييره والنتيجة أن الماضي يجعلنا نألف أنفسنا وتسكن أرواحنا ونسلّم لأقدارنا.
“الماضي أكثر حقيقية وأكثر رسوخًا واستقرارًا
وأكثر مرونة من الحاضر”
الآن لا أعتقد أني تصالحت تمامًا مع الماضي والذكريات، مازلت أشعر برغبة في المصارحة، ومازالت أسئلتي بدون إجابات:
- هل كانت حالة اللاشيء إنكار للماضي أم ألمٌ منه؟
- أخي الذي يشبهني في رفضه للذكريات كيف أخبره؟
- في انعدام التذكر هل كنت أبحث عن هويتي أم كنت أبنيها؟
- وماذا سأختار هويتي التي بنيتها أو التي وجدتها؟
- ما هي المسافة الآمنة بين الماضي والحاضر والمستقبل؟
- هل كنت أخاف من حالة التجمد في الزمن الماضي؟
- هل خرجت من النقطة أم أني فقط استوعبتها؟