اللغة داخل العيادة النفسية
هل تصف المعاناة وتنصف الإنسان؟
أحد أقدم المسميات التي أطلقت على العلاج النفسي هو العلاج بالكلام Talking therapy. المحادثات التي يروي فيها المراجع مشكلاته، ويتفاعل فيها المعالج مع ما يسمعه، هي الأرض الأساس التي توضع فيها بذور هذه العلاقة الإنسانية. بالكلمات -وما وراء الكلمات- تتجذر العلاقة، وتنمو، محملةً بكل الإمكانيات العلاجية. من المهم أن يكون الممارسين النفسيين على درايةٍ بنوع اللغة التي يستخدمونها، حدودها، وتأثيراتها المختلفة. فكما يمكن للغةِ أن تكون حبل وصلٍ متين، يمكن أيضاً أن تكون حاجزاً منيعاً، أو مستنقعاً لسوء الفهم. في هذه المقالة سأتطرق إلي وجهين من الأوجه اللغوية التي تصيغ شكل المحادثات العلاجية، وتسهم في تحديد مآلاتها:
الأول/ توصيف الصعوبات النفسية: اللغة التشخيصية مقابل الخبرة الذاتية (الاكتئاب نموذجاً)
الثاني/ توظيف السرد في العلاج النفسي:
السرد بوصفه طريقة لفهم الإنسان
صياغة الحالة، النموذج العلمي لسرد القصة
المنهج السردي: مدخل إلى ممارسة أكثر أخلاقيةً
توصيف الصعوبات النفسية: اللغة التشخيصية مقابل الخبرة الذاتية
كان لزاماً علي الباحثين في المجال النفسي توحيد الوصف اللغوي للظواهر النفسية، لبناء مرجعية ثابتة تساعد المختصين
النفسيين على إيجاد أرضية فهم مشتركة، وتنظيم عملية إنتاج المعرفة العلمية.
نتيجة للمماهاة بين الأمراض الجسدية والصعوبات النفسية، جُنِدت الجهود البحثية للكشف عن أي علامات بيولوجية قد تسبق الأعراض النفسية، أو تصاحبها،وتفسر وجودها. وبغض النظر عن نتائج هذه الجهود البحثية -إذ ليس هذا موضوع المقالة الحالية- فقد أصبغ هذه الفهم على اللغة طابعاً طبياً، يظهر هذا جليًا في اللغة التشخيصية المعتمدة على الأدلة التشخيصية، مثل: الدليل التشخيصي والاحصائي
للاضطرابات النفسية (DSM). وجود هذه اللغة -بحد ذاته- لا يمثل إشكالاً، بل أن وجودها مفيد في كثير من الأحيان. تكمن المشكلة في طريقة تداولها واستخدامها بشكلها الجامد والمقولب من قِبل الممارسين النفسين وكأنها الإطار الموحّد والوحيد لفهم الخبرة النفسية،والتعامل معها.
“لديك اكتئاب” من واقعٍ مُشاهَد، قد يكون هذا أبرز ما يسمعه أحدهم في جلسته العلاجية الأولى، تُقال كأنها تشرح كل شيء!
إضفاء مسمى معروف على أعراض غامضة قد يولد درجةً من الشعور بالارتياح أو الاطمئنان لدى البعض، كما أنه قد يكون ضرورياً ومنقذاً للبعض الأخر. فالتسمية لا بد منها. الحديث هنا حول كونها ليست كافية ودقيقة ومعبرة في وصفها للظواهر النفسية.
يستخدم الكثير من المراجعين الاستعارات Metaphors في محاولة لاستنطاق الألم النفسي. كل استعارة تحكي نوعاً خاصاً من الألم. في الاكتئاب على سبيل المثال: حتى وإن كانت الأعراض الظاهرة متشابهة، إلا أن لكل كآبةٍ خصوصيتها. استعرض بعض الاستعارات من أشخاص يصفون خبرة الاكتئاب:
أعيش في فضاء موحش، لا يُسمع صوتي، ولا يُرى مكاني.
كأني عالق في حلم مرعب، استنفدتُ كل محاولتي لأستيقظ منه، ولم أستيقظ.
كأنما أسقط إلى الأبد في هوةٍ بلا قاع.
يحضرني أيضاً استعارة “Darkness Visible الظلام المرئي” التي أختارها الكاتب ويليام ستيرون William Styron عنواناً لكتابه الأخير الذي كتبه بعد أن زادت أعراض اكتئابه في مقتبل الستينات من عمره. في محاولته للتعبير عن الصراع الداخلي النابع من غموض أعراض الاكتئاب، وصعوبة إعلانها بالكلمات
الاكتئاب اضطراب في المزاج، مؤلم بشكل غامض، ومراوغ في الطريقة التي يصبح بها معروفا للذات، إنه يقترب من كونه فوق الوصف. و على الرغم من أن الكآبة سائدة و تتردد على أمزجة البعض، مما يمنحهم تلميحاً للاضطراب في شكله الكارثي. إلا أن الاكتئاب غير مفهوم -تقريبًا- لأولئك الذين لم يختبروه في وضعه المتطرف.
ويليام ستيرون
يمثل الكتاب احتجاجاً لغوياً على محدودية كلمة الاكتئاب Depression يجادل ستيرون بأن كلمة ميلانخوليا Melancholia هي أكثر دقة في وصف قتامة هذا الاضطراب.
ربما لأنها لم تستهلك كثيراً في غير سياقاتها كما حدث مع كلمة الاكتئاب!
لقد انزلقت دلالة هذه الكلمة انزلاقاً خطراً من البؤرة المركزية لمعناها الأصلي، حيث أصبحت دارجة ومخففة ومضللة،إلى حد أنها لم تعد كافيةً لتشير إلى ما يفترض بها الإشارة إليه. ويشمل ذلك العديد من المسميات التشخيصية التي تعرضت إلى التضخم الدلالي من خلال الإفراط في استخدامها، والترويج لها بوصفها رزمة محددة من الأعراض.
الاستعارات: منفذ لغوي
تمثل الاستعارات أحد منافذ اللغة المهمة لتجسيد المجرد بشكل محسوس، وقد تناولتها العديد من النظريات العلاجية والأبحاث
التي تهتم بعلاقة اللغة بالنفس. منها منهج العلاج بالقبول والالتزام آكت ACT. يقوم آكت على فكرة أن اللغة ساهمت في
تكوين المشكلة ابتداءً، ويمكن أيضاً باستخدامها أن نخلق الفرق، ونتبنى نظرة جديدة أكثر مرونة لواقعنا.
تنقل الاستعارات -بثراءها اللغوي والتخيلي- بعض ما يعنيه الاكتئاب لأشخاص مختلفين، ربما يتشابهون في غياب أفق المستقبل، والشعور بالعجز أمام وضع لا يمكن التحرر منه. لكنهم مختلفون، تتخذ كل معاناة شكلاً ومعنىً خاصاً بها. وتفاصيل هذه الخصوصية هي ما ينبغي أن تكون حاضرةً في المحادثات العلاجية.
اللغة التشخيصية لغة مفصِلة ومصنِفة للاضطرابات النفسية، لكنها منفصلة عن المجال النفسي للفرد الذي تحدث فيه وتؤثر عليه. حين نستخدمها بوصفها مرادفاً للخبرة الذاتية، ونتبعها بطريقة آلية، ونبني عليها التدخلات العلاجية، نغفل عن أهم جانب علينا الالتفات له: فرادة الخبرات، المعاني الشخصية، والسياقات الثقافية والاجتماعية التي ساهمت في تكوينها. إن الاعتماد الكلي على هذه اللغة يضعف من إمكانية الوصول إلى دهاليز قصص الأشخاص وفهمها. هناك، حيث نشأت الصعوبات، ووطأت بثقلها على الهوية، وتأصّل معناها في النفس.
إنّ النضال الاكلينكي الموجّه بالكامل -بلغته وأدواته- إلى الاضطراب، لا يمسّ عمق معاناة الشخص الفعلية، ولا يتمكن من
تخفيفها.
السرد بوصفه طريقة لفهم الإنسان
إحياء الخبرات الشخصية
عن طريق سردها هو شكل أساسي من أشكال الحياة
فيتغنشتاين
يحمل كل إنسان دراما داخلية مستمرة تعطيه احساساً شبه مستقر بهويته. يمثل سرد القصص موقفاً رافضاً للامعنى، العبث،الاغتراب، الفراغ، والفناء. كما تشتد الحاجة إلى ترسيخ بنية السرد الذاتي في أوقات الأزمات، حين تواجه الهوية خطر التشظي أمام الظروف القاسية. يحدث للسجناء والمحاربين والمرضى أن تراودهم رغبة ملحة بالكتابة في أزماتهم. إنهم يسردون القصص ليرسخوا بها معانيهم، قيمهم، وكل ما يمكن أن يقويهم في وجه اليأس. وكأنهم يودعون في قصصهم ما يخشون فقدانه. أو ربما يحيون من خلال سردها كما وصف فيتغنشتاين
في العقدين الماضية تسرب مفهوم السرد Narrative بسلاسة إلي المجال النفسي الأكاديمي والعيادي، في هذا الاقتباس
يصرح ثيودور سابرين Theodore Sarbin بمركزية السرد في حياته العلمية والعملية، بصفته أستاذ أكاديمي في علم
النفس المرضي وممارس نفسي عيادي :"في تدريسي لعلم النفس المرضي، وجدت أنه من المفيد كتابة تقارير تاريخ الحالات
وتحليلها بوصفها قصصاً لأشخاص محددين، بدلاً من استعراضها بوصفها تجارب منتهية لأشخاص مجهولي الهوية. وفي
دوري كممارس نفسي، لم أتمكن من القيام بعملي، إلا بوضع العملاء والآخرين المهمين لهم، في حبكة سردية". 5
يلعب السرد دوراً محورياً في العلاج النفسي، يأتي الناس إلى العيادة النفسية بقصص مبتورة، وغير منطقية، وربما ما يدفعهم
إلي طلب العلاج هو أن هذه القصص أصبحت مؤلمة بشكل لا يُحتمل. يكاد يكون السرد الذاتي مستهدفاً في أي منهج علاج
نفسي. أشارت نظريات العلاج النفسي -بشكل أو بآخر- إلى ذلك. مع اختلاف المسميات. جزء من المعاناة النفسية يكمن في
طبيعة السرد الذاتي الذي يحمله الفرد كتعريف لذاته. وجزء مهم من العلاج النفسي يتمثل بفهم هذا السرد وإعادة بناءه بطريقة
فعالة.
صياغة الحالة: النموذج العلمي لسرد القصة
في السعي إلى الموازنة بين صلابة الموضوعية وميوعة النسبية؛ بين اللغة العلمية الموجودة في الكتب والأدلة، واللغة السردية التي يحكي بها الناس قصصهم، حاملةً بين ثنايا أحرفها، المعاني، المشاعر، والأفكار الخاصة بهم، تتبادر إلى الذهن صياغة الحالة Case Formulation. إنها بمثابة جسر يوائم بين المنظور العلمي الموضوعي، والمنظور الذاتي للصعوبات النفسية. فهي عملية تعاونية يتشارك فيها المعالج والمراجع، لتكوين تصور للصعوبات النفسية بأكثر الأشكال
شمولية. هناك أنواع لصياغات الحالة تستند جميعها على أساس علمي متين، مستمد من النظريات والمبادئ والنفسية، ونتائج
الأبحاث العلمية. وهي -على تعدد توجهاتها وطرائقها- تهدف إلي إيجاد فهم مشترك. يتضمن تحديد جوانب المشكلة الحالية،
حصر العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية والشخصية التي ساهمت في تشكلها واستمراريتها. وأيضاً الاستراتيجيات التي
استخدمها الشخص لمواجهة هذه المشكلة، ونقاط القوة التي كانت -ولا تزال- موجودة في بناءه الشخصي. ثم تحدد بناء على ذلك الأهداف والخطة العلاجية. إنها مقاومة للاجتزاء والاختزال، وهذا ما يضفي عليها قيمتها. فهي تعمل على إعادة تركيب الزوايا الحادة والمتبعثرة للقصة في شكل هندسي واحد، يتمحور حول الشخص ككل، وليس مشكلته فقط، مما يجسّد القصة بطريقة أكثر واقعيةً ووضوحاً وإنصافاً. حين يلتقط الشخص هذه الأبعاد البانورامية لمشكلته، يمكنه أن يفهم موقعه من كل ذلك، ويصبح قادراً على النظر إلى مشكلته بتخفف، والتفكير فيها بفاعلية.