رحلة جنوب السعودية
ملاحظة
في العادة، عندما أقرر توثيق رحلة بوسيلة نصيّة، يكون هذا القرار قبل بداية
الرحلة، لأسجل المذكرات اليومية يوم حدوثها. لكن، في هذه الرحلة، لم أقرر
التوثيق النصي إلّا بعد نهاية الرحلة (فسامحوني يا رفاق الرحلة اذا نسيت بعض
التفاصيل). فها أنا ذا، في صالة انتظار مطار أبها، أبدأ في كتابة المسودة الأولى.
مقدمة
منذ فترة وأنا أرغب في السفر الى جنوب المملكة بسيارة، والتخييم في أماكن
مطلّاتها مذهلة، وحصل أن الصديق عبدالرحمن الرحمه كان مخططًا لرحلة مشابهة
لفترة، فقررت أن أرافقه. وحصل أيضًا أن الصديق عبدالله الخليفة وصاحبه نواف الهندي كانا ينويان الخوض في رحلة مشابهة.
فشكّلت هذه الصدفة فريق رباعي خطير يتحدّى الصعاب!
رفاق الرحلة
عبدالرحمن الرحمه،الملقّب ب"سموكي" منذ نعومة أظفاره تقريبًا و “أبو السمك” في هذه الرحلة، ذو شعرٍ مجعّد، طباخ ماهر، صديق للبيئة، بشوشٌ ودود لكن يخونه التعبير أحيانًا، شخصٌ السفر معه متعة.
عبدالله الخليفة (أبو خلّي) شاعر من الطراز العالي، ورجل المهمات الصعبة،
طيّب والحديث معه لا يملّ.
نواف الهندي، لديه مخزون معلومات عجيبة، يحب أن يتصوّر، ومعزز مغامرات من الدرجة الأولى.
الرحلة
خطة السير كانت كالتالي: أنا وسموكي بسيارته، ال Wrangler الأحمر الرائع، متعطل النوافذ، كثير الشكاوي، لكنه يبقى المنقذ في الأوقات الحرجة.
وعبدالله ونواف في سيارة عبدالله، Sierra سوداء مزوّدة بخزان ماء يفكّ الأزمات،و ب "جميحيّات" ملفتة للإنتباه، ومثيرة للريبة أحيانًا (خاصةً عند نقاط التفتيش).
اشترينا جهاز التواصل اللاسلكي (walkie talkie) لتسهيل توصيل الرسائل الضرورية السريعة بين السيارات، وفي حال انقطاع الشبكة في الجبال.
لكن آل به الحال أن يكون وسيلة توصيل عبارات عشوائية ونكت سامجة
وضحكات تسليكية.
الثلاثين من يوليو
انطلقنا من الرياض صباح الثلاثين من يوليو، متوجهين لبشية بنيّة المبيت، مررنا في الطريق على بعض الصخور عجيبة الشكل، وتوقّفنا عند بعضها لأخذ صور تذكارية.
اقتربنا من بيشة حوالي الرابعة مساءً، وبعد نقاش غير طويل مختصره: "بيشة حر، نبي براد"، قررنا تحويلها لمحطة استراحة قصيرة،وصعود جبال السروات في اليوم الأول. وصلنا بيشة ووجهتنا ماكدونالدز، جلسنا في طاولتنا للأكل،
ولاحظنا أن حارس المطعم واقف عند الباب ويمنع اي شخص بالدخول للمطعم
بحجة أن الحد ٤ أشخاص، رغم أن أربعتنا جالسون في طاولة في زاوية المطعم،
بعيدين اكثر من ٥ أمتار عن أي شخص يدخل المطعم ويطلب. لكن ما باليد حيلة،
فالبعض يبحث عن أي عذر لتطبيق سلطته.
قررنا التخييم في الليلة الأولى في منتزة شيبانة في محافظة سبت العلاية،
وصلنا قبل غروب الشمس بقليل مما ساعدنا على اختيار مكان جيّد للتخييم.
أشعلنا الحطب وأعددنا الشاي، ثم بدأنا بالاستعداد للنوم.
نصبنا الخيام، كنا انا وسموكي في خيمته (الغير مجهزة للأجواء الممطرة) وعبدالله ونواف في خيامهم (الغير مجهزة للمطر كذلك)، وحاولنا
محاولة فاشلة بنصب غطاء مطر كبير ليحمي الخيام من المطر، ثم توقفنا عن
المحاولة بحجة أن تطبيق الجو لا يتوقع هطول أمطار الليلة. خلدنا للنوم، وبعد
عدة ساعات، أيقظنا صوت الرعد والمطر، وبدأت المياه تتسرب من سحّابات الخيمة،
واستوعبت لحظتها أننا أخطأنا خطأً كبيرًا.
درسُ اليومِ الأول: لا تثق تمامًا
بتوقّعات برامج الطقس،
وخذ احتياطاتك دائمًا
الأول والثلاثين من يوليو
استقيظنا من النوم بعد ليلة متعبة بنوم متقطّع وغير مريح، وكل أملنا أن تكون السماء صافية لنتمكن من تجفيف خيامنا. والحمدلله، لم تكن السماء مغيّمةً تمامًا، وجفّت معظم الأغراض الرطبة خلال وقت اعداد الفطور واستهلاكه بسرعة رهيبة.
انطلقنا جنوبًا، و توقّفنا في "قرية صدريد التاريخية" في النماص، اللتي -للأسف- تخلوا من أي تجهيزات تقريبًا، باستثناء منزل واحد، كل القرية في
حالة سيئة وأغلب المنازل والطرق متكسّرة. كنّا ننوي الوقوف في محطات أخرى
من متاحف وغيره، لكن كلها كانت مغلقة، بعضها لأنه يوم العيد، والبعض الآخر بسبب "كورونا". توجّهنا لأقرب مطل، وتفاجأنا بروعة المنظر، إطلالة رهيبة
على وادي وجبال، وعلى منظر السحاب وهو يتسلّق الجبال. أكملنا طريقنا جنوبًا،مرورًا بتنومة ووقوفًا عند شجرة الرقاعة المذكور أن عمرها أكثر من 150 سنة، أو أكثر من 500 سنة حسب مصادر أخرى. كان شكلها مذهلًا، فكانت تنمو بشكل أفقي بطريقة رهيبة، لتشكل دائرة من الظل لتسمح بأكثر من ١٠٠ شخص بالاستظلال بظلها
(بدون أخذ احترازات التباعد الأجتماعي بالاعتبار). توجّهنا بعدها لمطل في أعلى محافظة بللحمر، كان الطريق للمطل صعبًا، فغير عامل الارتفاع الحاد، كان الضباب
يحجب الرؤية بشكل كبير، فكان سموكي يقود السيارة بأعصاب مشدودة، مكررًا "ما أشوف زق" كل ٣٠ ثانية.
وصلنا وقررنا المبيت هنا، لأن النزول في هذا الضباب سيقتل الأعصاب تمامًا، انقشعالضباب جزئيًا بعد وصولنا للمطل بقليل، فرشنا الفرشة وأشعلنا الحطب وبدأنا
بإعداد الشاي، وفجأة، انشقّت السماء بمطر غزير، وخلال ثواني، أصبحت ملابسنا وكأننا سبحنا في بركة. أنقذنا ما أمكننا إنقاذه من الأغراض، لكن معظمها فات
عليه الأوان. صففنا الأغراض تحت مظلة، بنيّة المبيت تحتها. قرر سموكي وعبدالله المبيت في سياراتهم، وقررنا أنا ونواف المبيت في الخيام، انا في خيمتي المضادة للمطر، ونواف بتغطية خيمته بشراع لحمايتها من المطر. رغم العاصفة المطرية
الشديدة خلال الليل، كانت نومة جافّة تقريبًا داخل الخيام.
درسُ اليومِ الثاني: اجعل احتياطات ضد المطر بقربك دائمًا،
خاصةً لو كانت السماء مغيّمة
الأول من أغسطس
استقيضنا من النوم على منظر مذهل من المطل، كأن السحاب نهر والجبال مجرّد
أحجار صغيرة يجري النهر حولها. بعد فطور سريع وجدال مع القرود، نزلنا الجبل،
وكان نزول بوقت قياسي مقارنة بالصعود، بحكم عدم وجود الضباب.
توجّهنا إلى مزرعة فراولة، بنيّة تجربة قطف وأكل فراولة طازجة.
كانت المزرعة مغلقة للأسف، لكن كوفئنا بمنظر رهيب خلف المزرعة. طبقة كثيفة
من السحاب تحتنا وعلى مد البصر، كأنها بحر من القطن تدعونا أن نقفز داخلها.
توجّهنا بعدها لقرية رجال ألمع، وهي قرية تاريخية مبنيّة على سفح الجبل، كانت
القرية مليئة بالسياح العرب والأجانب، لكن ليس لدرجة مزعجة.
نزلنا من السيارة إلى مدخل القرية، لكن نواف لم يكن معنا، وصل بعد عدة دقائق لابسًا ثوبًا أبيضًا ونعالًا زبيرية، ومستعدًا لجلسة تصوير.
تجوّلنا في القرية، وتصوّر نواف في كل المناطق ومن كل الزوايا وبجميع الوقفات.وخلال مطالعتنا للقرية من أعلاها، شاهدنا منظرًا مريبًا بعض الشيء.
شاهدنا رجلًا يحمل دجاجة من رقبتها ثم يجلس على عتبة الباب، والسكين في يده، مستعدًا لنحر رقبة الدجاجة في مكان مفتوح أمام الناس.
لاحظ أننا نراقبه من بعيد فبدأ يحدّق فينا وسكّينه على رقبة الدجاجة، بعد عدة ثواني، أنزل نظره إلى الدجاجة ونحر رقبتها، أخرج نواف جواله ووجّهه على
المنظر، فصرخ الرجل من بعيد "لا تصوّر!" تعرّتنا موجة خوف فنزلنا إلى السيارات مباشرة، خوفًا من أن يكون مصيرنا مصير الدجاجة.
خرجنا من قرية رجال ألمع و صعدنا الجبل متوجهين إلى أبها، كانت زحمة الناس
فيها منفّرة، فتقضي نصف ساعة لتمشي مسافة كيلو متر واحد بالسيارة،
و -للأسف- زحمة البشر في المنتزهات تنتج كميات قمامة مقرفة.
قررنا عدم البقاء في أبها والمرور بها فقط. قابلنا الصديق عبدالرحمن حميّد الذي استضافنا على طبق "حنيذ" من أفضل مطابخ أبها.
بعد العشاء، توجهنا للنوم في حديقة قريبة استعدادًا ليوم الغد.
درسُ اليومِ الثالث: ابتعد عن الأماكن
المشتهرة في وسائل التواصل
الاجتماعي قدر الإمكان
الثاني من أغسطس
بدأنا اليوم بحماس، فكانت الخطة التوجّه لبحيرة فيها شلال صغير كان شكل الناس وهم يسبحون فيها في الصور مشوّقًا، كأنها صور في جنوب شرق آسيا.
وصلنا لموقف السيارات وبدأنا "الهايك" الى البحيرة، كانت جولة لطيفة في منطقة صخرية، بسماء صافية وشمس ساطعة.
وصلنا للبحيرة وشاهدنا المنظر الذي كنا نتوقعه في باطن عقولنا.
قمامة مرميّة في كل مكان، وماء راكد وغير نظيف، واكتشفت أني خدعت بما رأيت في "انستجرام".
مررنا بعدها بقرية المفتاحة و سوق الثلاثاء في أبها، ولزّم علينا أحد بائعي
العسل أن نذوق من العسل الذي"يشحن الكهرباء" (غمزة).
توجّهنا إلى منتزه الحبلة، وبعد إيجاد مكان ممتاز للجلسة، وإشعال الحطب،
وبدء غليان الماء، بدأت عاصفة مطرية شديدة جدًا فجأة،تطايرت المعدات من شدة
الرياح، وكنّا متمسّكين بشدّة بالشراع لكي لا يطير مع الهواء (مع ضحك هستيري
لسبب ما!).
خرجنا من الحبلة على عجالة، وتوجّهنا الى محافظة سراة عبيدة، وهنئنا بنومة
هادئة في مكان نظيف، لأول مرة منذ مدة.
درسُ اليومِ الرابع: لا مانع من الضحك على حالك في الأوقات العصيبة
الثالث من أغسطس
بعد فطور عظيم من الشيف سموكي، أكملنا طريقنا جنوبًا، خارجين من منطقة
عسير الى منطقة جازان. وجهتنا الأولى في جازان منطقة الداير المعروفة
بزراعة البن. وبعد مسار صعب جدًا في الجبال وصلنا الى أحد المزارع، ألقينا السلام على رجل كبير بالسن (العم يحيى) يعمل في المزرعة المجاورة لمطل رهيب. يعمل العم يحيى في مزرعته مع ابنه عبدالله، يزرعون بن القهوة، والمانجا أحيانًا، ويرعون المواشي. كان العم يحيى نشيطًا بشكل مذهل (ماشاء الله تبارك الله)،
كان يطلع وينزل في الجبل بدون أن تظهر عليه أثار التعب (عكسنا نحن الشباب).
دعانا لجولة في مزرعته والمناطق المجاورة، كانت جولة مثرية، مصحوبة بمعلومات تاريخية وزراعية، ومناظر خلّابة من أعلى الجبل.
انطلقنا لجبال فيفاء الخضراء، مباشرة إلى منتزه للتخييم والنوم فيه.
درسُ اليومِ الخامس: المغامرات الغير مخطط لها تكون ممتعة في الغالب
الرابع من أغسطس
منظر الجبال في فيفاء مبهر، قد أعتبرها اكثر المناطق خَضارًا في المنطقة (اكتشفنافي وقت لاحق أن كثيرًا من هذا الخَضار مزارع "قات")،نزلنا من فيفاء إلى مدينة
جيزان، اللتي غرقت بشكل شبه كامل مع الأمطار الغزيرة. الأمر المثير للسخرية أن أكثر المناطق غرقًا كانت محطّة تصريف مياه الأمطار.
أجبرنا الحال على استئجار غرفة لتفادي الحر والرطوبة والمطر، والبقاء في أماكن
مغلقة أغلب اليوم.قابلنا بعض الأصدقاء من أهل المنطقة و تعشّينا عشاءً بحريًا لذيذًا، وخلدنا في غيبوبة طويلة. شعور سرير مريح في غرفة مغلقة وهادئة كان شيء لا يوصف :).
درسُ اليومِ السادس: أشياء عديدة
جميلة في الظاهر وخبيثة من الداخل
الخامس من أغسطس
بعد نومة طويلة وهنيئة، خرجنا في جولة مع صديق من أهل جيزان، إلى حديقة على بحيرة سد جيزان محتوية على عيون ماء حار، ثم إلى جبل العارضة القريب جدًا من الحدود السعودية اليمنية.
واختتمنا زيارتنا لجيزان بوجبة جيزانية لذيذة. جرّبت فيها 3 أطباق جديدة, المرسى، والمغش، والحيسية. المرسى طبق مشابة للمعصوب إلى درجة كبيرة، من حيث أنه يحتوي على خبز مفتت وموز وعسل، وسمن في بعض الأحيان. أما المغش فهو ببساطة مرقة لحم مبهّرة يضاف عليها مكعبات بطاطس مسلوقة. أغرب الأطباق بالنسبة لي كان الحيسية، للأمانة لم أفهم بالضبط ممّا يتكوّن، أظنه يتكون من نبتة شبيهة بالقمح تنمو في المنطقة، كان قريبًا من كثافة “السيريلاك” لكن بدون حلاوته.
أحد الأمور اللتي استغربت منها عند مخالطتي لبعض أهل المنطقة، هي نظرتهم للقات وكأنه شيء عادي جدًا بحكم انتشاره كثيرًا بين الناس، واستغربت أكثر من شدّة تلزيم أحدهم علينا أن نجرّب “نخزّن” معه!
خرجنا من جيزان باتجاه الشمال على الخط الساحلي، متجهين إلى محافظة القنفذة لوقفة استراحة نتوجّه بعدها إلى الباحة.
درسُ اليومِ السابع: بعض الناس تكذب الكذبة وتصدقها
السادس من أغسطس
استقيظنا بحماس بنيّة السباحة في شواطئ القنفذة، لكن للأسف، اكتشفنا أن
السباحة في منطقة مكة المكرمة ممنوعة (عكس منطقة المدينة المنورة و جازان)، فانطلقنا مباشرة إلى الباحة. كان الطريق الى الباحة متعوّجًا وغير مريح،
لكنه جميل مع بداية الصعود لجبال تهامة. توقفّنا لجولة قصيرة في قرية ذي عين
التراثية، مع الحرص على أخذ بعض الصور التذكارية. اشترينا غداءنا الأخير، وأخذناه إلىحديقة قريبة، وبعدعبارات الوداع، ذهبنا إلى محل إيجار السيارات، أنزلت أغراضي
من السيارة ونقلتها إلى سيارة الأجار لبدئ رحلتي الصغيرة لتعلّم تسلّق الصخور في تنومة، وانطلق بقية الشباب عائدين إلى الرياض.