أهلًا كوسكو
تسعة أيام قضيناها أنا وزوجتي غيداء في كوسكو، كانت أجمل أيامنا في رحلة شهر أكتوبر. مدينة طبيعتها ساحرة، وثقافتها وتاريخها مثيران للإهتمام، وناسها رائعون، وأكلها لا يُشبع منه.
سحرتني مدينة كوسكو من أول ساعة فيها، بعد ما عرض علينا سائق التاكسي شم سائل مستخلص من زهور جبلية لتساعدنا على التأقلم على الارتفاع العالي للمدينة. شعرت حينها أنني مقبل على تجربة مميزة لن تتكرر.
سأتحدث (وأفضفض) في هذه المدونة عن هذه المدينة وعن العوامل اللتي أوقعتني في حبها
المدينة، وناسها،وحِرَفهم
رغم أن عدد السياح الذين يزورون كوسكو سنويًا حوالي 3 مليون، إلا أنها مدينة صغيرة نسبيًا. يسكنها حوالي ٣٠٠ ألف شخص، أغلبهم من السكان الأصليين للمنطقة، ويعملون أعمال بسيطة حِرفية أو مرتبطة بخدمات سياحية.
تُعرف دولة البيرو بشكل عام والمنطقة بشكل خاص بثلاثة حرف شعبية:
١- المنسوجات الصوفية:
أشهر ما تنتجه كوسكو (بالنسبة للسياح على الأقل) هي المنسوجات الصوفية, من صوف حيوان الألبكة* بالذات، فلا يخلو شارع في كوسكو من باعة يعرضون ملابس صوفية ملونة بألوان جميلة وتصاميم مميزة. مع تفاوت جودتها بين منتج مصنوع ١٠٠٪ من صوف الألبكة إلى منتج من صوف اصطناعي بعُشر السعر.
*الألبكة حيوان صغير يشبه اللاما لكنه أصغر ومغطّى بصوف أكثر
٢- الرسم والتصوير
يفخر أهل كوسكو بفنّهم بشكل لم أراه من قبل، فوجود محلات متخصصة ببيع الرسومات في كل شارع يعتبر أمر طبيعي، وأضف إلى هذا الكثير من الباعة المتجولين الحاملين معهم مجلّد يحتوي رسومات للبيع. وبالإضافة إلى هذا كله، تجد في الكثير من المطاعم والمقاهي والفنادق لوحًا معلّقة لفنّانين محليّين معروضة للبيع
٣- صياغة المجوهرات
يعتمد اقتصاد البيرو بشكل كبير على التعدين، بحكم أنها بلد غني بالمعادن الثمينة مثل النحاس والفضة والذهب. ولهذا، عُرف السكان المحليون بصياغة مجوهرات بجودة ممتازة وبأسعار زهيدة نسبيًا
تاريخ المنطقة وثقافة أهلها
كغيرها من الدول المجاورة، استُعمرت البيرو من قبل الإسبان في القرن السادس عشر، واستقلت في عام ١٨٢١، ويُلحظ أثر هذه الحقبة في عمارة المدينة وطرازها الأوروبي.
لكن، جمال المدينة في كون أن الثقافة الأوروبية لا تطغى على المحلية، فمازال الناس محافظين على أسلوب حياتهم وعاداتهم الأصلية حتى بعد ~٣٠٠ سنة من الاستعمار. فترى لغة شعب الإنكا الأصلية (لغة البلد قبل الاستعمار) تدرّس في المدارس ويتحدث بها الناس في بيوتهم رغم أن اللغة الرسمية للبلد (ولمعظم قارة أمريكا الجنوبية) هي الإسبانية.
وحتى في العمارة مثلًا، تجد الكنيسة الكبرى في المدينة مبنية بأسلوب أوروبي واضح، ومقابلها تماثيل كبيرة لقادة معروفين لشعب الإنكا
تراث المنطقة العريق، والمناطق الطبيعية المجاورة
لن أنكر أن السبب الرئيسي لاختيارنا للبيرو كان زيارة الماتشو بيتشو والمناطق الطبيعية المميزة، وكان معظم تركيزنا في مرحلة البحث قبل الرحلة حول هذه الأماكن. لكن تفاجأنا بعد وصولنا أن هذه الأماكن المميزة التي زرناها (والتي سأفصّل عن زياراتنا لها بعد قليل) لا تشكّل إلا جزء بسيط من الوجهات اللتي تستحق الزيارة، وأن ٩ أيام في مدينة كوسكو لوحدها لا تكفي إلّا لاكتشاف جزء بسيط من جمال كوسكو.
٩ أيام في كوسكو سنحت لنا لزيارة ٣ وجهات رئيسية:
١- بحيرة هيومنتاي
في فجر اليوم الثاني لنا في كوسكو انطلقنا مع شركة سياحية متوجهين إلى بحيرة هيومينتاي (أول درس تعلمناه في كوسكو أن الذهاب الى وجهات سياحية بدون الاستعانة بشركة يعتبر صعب جدًا أو شبه مستحيل).
كنا ١٢ سائح في السيارة، انا وغيداء، زوجٌ من بورتوريكو، و ٨ أمريكان طلاب/حديثي التخرج. بعد التوقف في قرية صغيرة للفطور، وصلنا إلى نقطة البداية. بعد بضع دقائق من المشي عرض علينا بعض السكان المحليين النقل الى البحيرة واختصار الطريق مقابل ~٥٠ ريال. وافق شخصان، وبقي ١٠. بعد حوالي نصف ساعة من المشي وصلنا الى بداية ارتفاع حاد، وبعد بضع دقائق صعبة، قرر أحدهم أن يستسلم ويدفع ليكمل باقي الطريق على ظهر حصان. أصررنا انا وغيداء وال٧ المتبقين أن نكمل الطريق إلى النهاية على أقدامنا.
وصلنا إلى منتصف الطريق، وكان في استقبالنا عدة أحصنة قوية جاهزة لحملنا الى البحيرة بدون بذل جهد إضافي، كان الاستسلام للكسل مغريًا جدًا،وفعلًا، أحد السبعة المتقين استسلم وأكمل الطريق على ظهر الحصان، وبقي ٦.
شددنا أنا وغيداء أربطة أحذيتنا وأنطلقنا، وبعد عناء طويل، وصلنا الى البحيرة. كان لونها رائعًا، خليط بين السماوي والازرق والاخضر الفاتح، نتيجة المعادن الكثيرة في التربة والمياه. عدنا أدراجنا بعد الاستمتاع بمنظر البحيرة والاستماع إلى قصتها وأهميتها للسكان الأصليين.
٢- ماتشو بيتشو
أهم معلم أثري وسياحي في البيرو، وأكثر رحلة كنا متحمسين لها.
بشكل عام، هناك طريقتان لزيارة ماتشو بيتشو، أما في رحلة يوم واحد مختصرة، عن طريق القطار والباص، أو عن طريق أحد مسارات المشي الجبلي التي تتراوح ما بين ٤-١٠ ايام.
قررنا أن نخوض في مسار ٤ أيام، وكوننا مستجدين على هذا النوع من النشاطات ولا نملك الخبرة أو المهارات الكافية، اخترنا مسارًا سهلًا نسبيًا.
كتبت مدوّنة تفصّل رحلة ماتشو بيتشو هنا.
٣- جبل الألوان
آخر معلم رئيسي زرناه في كوسكو هو جبل قوس المطر أو جبل الألوان. على اسمه، هو جبل ملوّن بطريقة عجيبة كأنها بقلم أو ريشة. هذا الجبل لم يُكتشف كوجهة سياحية إلا قبل ٦ سنوات تقريبًا، لأنه كان قبلها مغطّى بالثلوج، لكن مع الاحتباس الحراري ذاب الثلج في تلك الجبال. أمر محزن فعلًا.
استيقظنا فجر أول يوم لنا بعد العودة من رحلة ماتشو بيتشو وأجسادنا مرهقة وركبنا الباص متوجهين للجبل. وصلنا إلى بداية المسار على ارتفاع 4200م بعد حوالي ٣ ساعات في الباص كان أغلبها نومًا. بعد حوالي ربع ساعة من المشي أحسسنا بالإرهاق الشديد، جزء منه متراكم من الأيام السابقة، وجزء منه بسبب نقص الاكسجين في الارتفاع العالي. فقمنا باستإجار خيول مع قوّادها لينقلونا معظم ما تبقّى من الطريق.
وما لم يستوعبه عقلي عندما رأيت السكان المحليين يعرضون خدمات النقل إلى أعلى الجبال سابقًا لكن استوعبته عند ركوبي معهم هو أن هؤلاء الناس هم من يقود التسلّق بسرعة، وليس الخيول!
قطعنا المسافة العظمى في حوالي ٢٠ دقيقة، وقائد الخيل لم يتوقف لاستراحة أو لشرب ماء، وهو لا يملك أحذية مشي تساعد، ولا عصيان يستند عليها، ولا طريق مهيء للمشي، عكس السياح الذين تعديناهم الذين يملكون كل هذا ويستغرقون أكثر من ساعة لقطع هذه المسافة. والأعظم من هذا أنهم يكررون رحلة الطلوع والنزول هذه أكثر من ١٠ مرات يوميًا! تأقلمهم وتعودهم على هذه الظروف جعلهم أناس خارقين للطبيعة في نظري.
نزلنا من الخيول وأكملنا الصعود لحوالي ٢٠ دقيقة إلى قمة الجبل على ارتفاع ٥٠٠٠ م تقريبًا. وصلنا إلى القمة وكان منظر الجبل مدهشًا، حتى بعد رؤية صور له قبلها.
سبب تلوّن الجبال بهذه الألوان هو التربة الغنية بالمعادن (الكوارتز والحديد والماغنيسيوم وغيرهم)، مما جعله وجهة لشركات التعدين منذ اكتشافه، لكن بعد مظاهرات عامة في عام ٢٠١٨ لمنع شركات التعدين من العمل في هذه المنطقة والحفاظ عليها كمنطقة سياحية قررت الدولة القيام بهذا بالضبط وتم الإعلان أن هذه الجبال منطقة محمية