رحلة ماتشو بيتشو
كجزء من رحلتنا إلى البيرو أنا وزوجتي غيداء، قررنا زيارة قرية ماتشو بيتشو الأثرية.
بشكل عام، هناك طريقتان لزيارة ماتشو بيتشو، أما في رحلة يوم واحد مختصرة، عن طريق القطار والباص، أو عن طريق أحد مسارات المشي الجبلي التي تتراوح ما بين ٤-١٠ ايام.
قررنا أن نخوض في مسار سهل نسبيًا على مدة ٤ أيام، كوننا مستجدين على هذا النوع من النشاطات ولا نملك الخبرة أو المهارات الكافية لشيء أكثر تعقيدًا وصعوبة.
اليوم الأول: مقبّلات
بداية المسار. المسافة إلى ماتشو بيتشو: ~٨٥ كم
بدأنا اليوم بآخر فطور لنا في فندقنا في كوسكو، ثم التقينا بمرشد الرحلة إدواردو، وانطلقنا بالسيارة إلى نقطة البداية، قمة جبل Abramalaga، على ارتفاع ٤٢٠٠ م عن سطح البحر.
لم نبدأ مسارنا بالمشي، بل بركوب دراجات والنزول إلى قرية سانتا ماريا على ارتفاع ١٢٠٠م. وفعلًا، لبسنا معدات الحماية وقطعنا مسافة ٤٨ كم تقريبًا أغلبها كان نزولًا سهلًا جميلًا بين الجبال والغابات، وفوق الأنهار، ومرورًا بخيول وأغنام ترعى. تغير الجو كان سريعًا ومثيرًا للدهشة، كان باردًا جدًا في الساعة الأولى ثم حارًا لا يحتمل في الساعة الثانية. التقينا بغيوم في الساعة الأولى، ثم وجدناها فوقنا في الساعة التالية.
وصلنا إلى قرية سانتا ماريا، قرية صغيرة يقطنها ~٢٥٠٠ شخص، تناولنا الغداء في مطعم محلي صغير، بدأنا بشوربة مانجو دافئة (أقيّمها ٣/١٠)، وشوربة جريش ممتازة (لها اسم ثاني لكني نسيته)، ورز وسمك وخضار يشبه البطاطس للوجبة الرئيسية، مع عصير "ذرة بنفسجية*" شكله يشبه عصير التوت وطعمه يشبه شاي الورد.
*يزرع أهل البيرو أكثر من ٤٥ نوع من الذرة، هذه أحداهم
بعد الغداء، رافقنا محترفين تجديف (رافتنج) لمغامرة في نهر أوروبامبا. كانت مغامرة رائعة، تشقلب محدّثكم من القارب مرة، لكنها عدّت سليمة والحمدلله. قضينا الليلة في نزل قديم صغير، بدون مكيف أو مراوح، والماء فعليًا لا يعمل، لكن تصرّفنا وتيسّرت والحمدلله.
اليوم الأول كان أسهل يوم، حيث لم يتخلله أي مشي تقريبًا، وكله نشاطات ممتعة وغير مجهدة. لكنه كان بمثابة المقبّلات، استعدادًا للوجبة الرئيسية في اليوم الثاني.
اليوم الثاني: صدمة
المسافة إلى ماتشو بيتشو: ~٤٠ كم
بدأنا اليوم بفطور خفيف، عجة بيض وخضار، وقهوة وعصير، وككثير من منازل السكان المحليين، لا تخلوا مائدة من أوراق الكوكا (المادة الخام للكوكايين، لكنها ليست مخدّرة في حالتها الأصلية) اللتي يمضغها السكان لتساعدهم على التأقلم مع الارتفاع العالي.
استعدّينا لبداية المسار الفعلي، اشترينا ما نحتاجه، وانطلقنا.
بدأنا المسار بمشي على ارتفاع حاد لمدة كيلو متر، شاهدنا فيه تنوع عجيب من الخضار والفاكهة. مررنا على أشجار موز ومانجو وافوكادو وليمون ويوسفي وبن وكاكاو و”فاكهة التنين” و طماطم وغيرها، ولا ننسى أوراق الكوكا طبعًا.
توقفنا بعدها للراحة عند بيت/مطعم/نُزل/متحف لسيدة عجوز من السكان الأصليين، أحد الأشياء العجيبة عن هذه السيدة أنها تتقن لغة الكيشوا (لغة شعب الإنكا الأصلية) أفضل من اللغة الإسبانية.
تذوقنا شوكولاته خالصة ١٠٠٪ (مُرّة جدًا بالمناسبة) وعصيرات فواكة طازجة مقطوفة حديثًا. وعرضوا علينا شراب عجيب داخله ثعبان مخلل :|، رفضنا بكل احترام طبعًا.
سمحوا لنا بتجربة ملابس شعبية، ثم أكملنا المسير.
قطعنا حوالي ٧ كم طلوعًا ونزولًا؛ مررنا فيها على كهف صغير في الجبل يضع فيه المارّون أكلًا كقربان لآلهة الأرض لتحميهم في سفرهم.
مررنا كذلك على ساحة صغيرة في أعلى الجبل كان يستعملها شعب الإنكا للمناسبات الدينية، وبجانبها عرش صخري يطل على منظر آخذ للأنفاس.
وصلنا إلى نقطة الاستراحة والغداء، وتناولنا وجبة شهية وممتازة (ومليئة بالبطاطس).
مرحلة ما بعد الغداء كانت هي الأصعب، مسافة ٨ كم من طلوع حاد ونزول متدرّج. وصلنا بعدها إلى أحد نقاط "التلفريك اليدوي".
هذه التجربة كانت من أرعب التجارب في حياتي، بالنسبة لي كانت مخيفة أكثر من القفز المظلي أو قفز البنجي.
أقرب وصف للتلفريك هو سلة حديدة سياجها منخفض جدًا وأرضيتها ألواح خشبية غير مثبّته بأي طريقة. السلة معلّقة على سلك معدني وتتحرك عن طريق شد حبل مربوط ببكرة في الطرف الآخر. استخدمنا "التلفريك" للانتقال بين جبلين والوصول إلى محطتنا الأخيرة لهذا اليوم. بعد الوصول إلى الطرف الآخر بسلام، مشينا بضعة كيلومترات إضافية ووصلنا الى نهاية مسار اليوم وإلى جائزة رائعة. ينابيع مياة كبريتية حارّة لنسترخي فيها بعد جهد اليوم. شعور الانغماس في البركة كان لا يوصف. أنهينا اليوم بوجبة شهية وحمام دافئ، استعدادًا لليوم الثالث.
اليوم الثالث: ترقّب
المسافة إلى ماتشو بيتشو: ~٢٥ كم
في بداية اليوم الثالث، أعطانا المرشد ٣ خيارات.
الخيار الأول: ركوب الzipline لقطع المسافة بين جبلين، ثم أكمال السير لمدة ~١٢ كم تقريبًا إلى المحطة الأخيرة.
الخيار الثاني: مشي مسافة ~٢٢ كم في الوادي تحت أشعة الشمس الحارقة وأمام عوادم السيارات الكاتمة مباشرة إلى المحطة الأخيرة.
الخيار الثالث: ننزل جبل ونصعد آخر ثم نكمل السير لمدة ١٢ كم إلى المحطة الأخيرة.
وبحكم اجهادنا المستمر من اليوم السابق، ورغبتنا في توفير جزء من طاقتنا اليوم الأخير (والأهم)، قررنا ركوب الzipline لاختصار الطريق وتوفير الطاقة.
وفعلًا، بعد ركوب عدّة خطوط zipline في وضعيات مختلفة، انسداحًا وانبطاحًا ورأسًا على عقب، نُقلنا بالسيارة مسافة قصيرة إلى بداية المسار.
بدأنا المشي بمحاذاة سكّة القطار إلى بلدة ماتشو بيتشو ونحن نرى الجبل من بعيد (اسمها الأصلي Aguas Calientes، بمعنى المياة الحارة، سمّيت بهذا الاسم نسبة إلى ينابيع المياة الحارة المشهورة الموجودة داخل المدينة)، كان المشي سهلًا نسبيًا كون أغلب الطريق مستويًا بدون صعود أو نزول حاد، لكن حمل أغراض وملابس ٤ أيام في حقيبة ظهر جعل المسار السهل متعبًا.
وصلنا إلى بلدة ماتشو بيتشو بعد قطع ~١٠ كم ، والجبل (خط النهاية) قريب جدًا. خلدنا إلى النوم بعد آخر عشاء في الرحلة ونحن متحمسين جدًا للانطلاق فجر اليوم التالي.
اليوم الرابع: الوصول
المسافة إلى ماتشو بيتشو: ~٣ كم
انطلقنا بعد الفجر إلى بداية مسار الصعود، وبدأنا صعود درج طويل مكون من حوالي ١٨٠٠ درجة (أو ارتفاع ٥٠٠ م).
بدأنا صعود الدرج، كلٌّ على سرعته، وصلت إلى نهاية الدرج خلال ~٣٣ دقيقة، وغيداء بعدي بحوالي ٢٠ دقيقة، وشهدنا شروق الشمس من خلف الجبال العالية.
بعد ما التقطنا انفاسنا، دخلنا ماتشو بيتشو، كان الشعور لذيذًا جدًا، بسبب الجهد الذي بذلناه حتى نصل إلى هذه النقطة، وأجزم أننا لم نكن نراها بنفس الجمال والسحر لو أننا زرناها عن طريق القطارات والباصات وبدون جهد يذكر.
عن ماتشو بيتشو، هي قرية صغيرة بنيت في القرن الخامس عشر على ارتفاع ٣٠٠٠م تقريبًا سكنها ~١٠٠٠ شخص من ذوي المكانة العالية من شعب الإنكا. كانت القرية مقدّسة عند الإنكا لدرجة أنه لا يدخلها أي شخص حتى بعد دعوة الملك إلا بعد أن يغتسل بماء نقي من الجبال مخلوط بأعشاب وزهور.
تتكون القرية بشكل أساسي من ٣ أقسام، القسم السكني، والمعابد، ومنطقة التجمع والإحتفالات. القسم السكني هو الأكبر، وكان يسع لأكثر من سكان القرية حيث كان هناك عدة منازل مخصصة للضيوف. بعض ما يميز المنازل (وأغلب المباني هناك) هو الانتباه لتفاصيل هندسية في البناء لتعزز ثبات المبنى ضد الزلازل والعواصف، وطبعًا المطل على جبال ساحرة.
أما عن المعابد، فكان الإنكا يقدّسون الأرض والشمس والقمر والنجوم وغيرهم. وكانوا كذلك يقدّسون ثلاث حيوانات، النسر، الذي يمثّل التواصل مع الآلهة السماوية، والبوما (أسد الجبال) الذي يمثل عالم الأحياء، والأفعى، التي تمثل التواصل مع العالم السفلي، وكان لكل من هؤلاء جزء من المعابد.
بنى الإنكا المعابد بطريقة مختلفة عن المنازل. فبنيت المنازل باستخدام الحجارة والطين لتعزيز الثبات، أما المعابد فبنيت من حجر فقط، وكانوا ينحتون أطراف الحجارة بشكل محدد حتى يكون شكلها متناسق وثباتها أعلى.
تقع منطقة التجمّع في مركز القرية، وكانت مصممة بحيث يكون الحاضرون في قاع وادي صغير والمتحدث في أعلاه، لكي يُستغل الصدى في وصول الصوت بشكل واضح.
أحد القصص العجيبة التي سمعناها عن هذا المكان، أنه كان في وسط منطقة التجمع صخرة كبيرة ومرتفعة، ثم في عام ١٩٧٨، في زيارة لملك وملكة اسبانيا، أُمر بإزالة الصخرة للسماح للطائرة المروحية بالهبوط، ثم تمت إعادتها لمكانها وإصلاحها بعد الزيارة. ثم بعدها بحوالي عشر سنوات في عام ١٩٨٩ أزيلت الصخرة مرة أخرى للسماح بالطائرات المروحية لقادة الدول اللاتينية بالهبوط، لكن لم يستطيعوا إصلاحها ودُفنت في مكانها.
استكشفنا ماتشو بيتشو مع مرشدنا الذي شرح لنا المباني المختلفة واستخداماتها واعتقادات شعب الإنكا وتقاليدهم. مررنا على لامات ترعى، وأطللنا على جبال شاهقة، وصوّرنا وتصوّرنا. وعند المخرج، ودّعنا مرشدنا للأيام الأربع السابقة، وعدنا أدراجنا حاملين تذاكر قطار العودة إلى كوسكو.