معسكر الحج ١٤٤٠ هـ
الفصل الرابع
أين وصلنا؟
دعوني قبل المواصلة في قصص الإرشاد أرجعُ قليلاً لقصص من المعسكر الإعدادي، معسكر هيئة الرياضة.
كان من أهدافي الشخصية في المعسكر أن أتعرف على فئات المجتمع واهتماماتهم. وكانت تجربة مثرية بلا شك، رغم أنني لم أتعمق في التعاطي مع من حولي، ورغم أنني لم أتوسع في العينة لأجعلها تشمل شباب المناطق الأخرى للمملكة. وقد لفت نظري ما أسلفت في الكتابات الماضية من ظواهر وسلوكيات، ولفت نظري موقف آخر تعجبت له:
من برامج المعسكر الزيارة الصباحية. وكانت تبدأ بعد انتهاء فترة المسح الصباحي لمشعر منى بساعة ونصف/ساعتين تقريباً، يزور فيها القادة مقرات الفرق، ويقيّمون نظافتها، والإبداع والتجديد الذي فيها، ويقيّمون لباس الفرقة الموحد، وصيحاتهم، وما قارب وشابه.
ولا داعيَ للإسهاب فيما قدمته فرقتنا من براعة في التسليك، وألوان من الخداع والبهرجة. إذ كنا نحتال كل يوم بتقديم ما يظهر أنه جديد، ولو جمعت كل ذلك ووزنته لما قامت له قائمة، الغثاء الأحوى في أبلغ صوره. :)
فمن حيلنا أننا قدمنا يوماً ما أسميناه "السينما الكشفية"! حيث ربطنا وعلقنا شاشة على أحد الأسرة، وشغلنا فلماً عن اللورد بادن باول، مؤسس الحركة الكشفية. وبعد انتهاء الزيارة الصباحية، قضى الشباب سويعةً في لعب البلايستيشن، ثم قرروا أن يشغلوا اليوتيوب ويشاهدوا شيئاً، فاقترح أحدهم اقتراحاً، فتبسمت ظنًّا أنه قاله على سبيل السخرية، لكن تبع اقتراحه تأييد جديّ بشكل عجيب، اقترح مشاهدة "جامبول"! :)
وفعلاً شغلوا حلقة، وعمّ فجأة السكون، والتفت الكلّ بانتباه للبرنامج الكرتوني الأثير، الذي يمثّل جزءاً أصيلاً من الترفيه الذي نشؤوا معه -حسب وصفهم-. فنظرت وتعجبت، لم أظن أنني سأرى الفوارق بين الأجيال بهذه السرعة. شبت يا صاحبي! :)
ومن الحوادث الجديرة بالذكر هي أن معسكر هيئة الرياضة -كما أسلفت- يغلب عليه الجانب الكشفي، فكان من وبال تغليب هذا الجانب والإفراط في الحزم فيه ما وقع لفرقتنا ذات صباح:
كان على كلّ فرقة أن تحييّ علم المملكة العربية السعودية فور انتهائها من عملية المسح ومع دخولها لبوابة المعسكر، وفق تقاليد تحيّة العلم المعروفة كشفياً.
وقفت فرقتنا الميمونة عند بوابة المعسكر من الخارج، وكانت فرقة جازان الشقيقة تؤدي تحية العلم، وفي ساحة المعسكر، في زاوية منها، يقبع شرّ مستطير، متمثلاً بأبي سيف، القائد الكشفي القديم والمعروف.
فراقبت عن كثب كيفية أداء فرقة جازان لتحية العلم، وكانت فرقتنا قد خططت أن يؤدي تحية العلم ثلاثة من الشباب، يقودهم عريف طليعتنا عبدالعزيز، وهو متمكن كشفياً، فلم يكن يحتاج إلى توصية.
أدت فرقة جازان تحية العلم بسلام، وأقرهم عليها أبو سيف والآخرون الجالسون، وحان دورنا.
اصطففنا على شكل نصف دائرة أمام العلم، أخذنا إيعاز الاستعداد والاستراحة، أخذ حراس العلم إيعازهم: "حراس العلم .. خطوة للخلللف خذ" .. "للأمااام سر" .. ويراوح كل منهم مكانه، على أن يتحرك آخر الحراس فقط من مكانه، فإذا وصل للثاني تحركا معاً، فإذا وصلا للثالث تحرك الثلاثة جميعاً حتى يدخلوا إلى حرم العلم، ليحيوا قائد الفرقة، ويستأذنه قائد الحرس قائلاً: "أستأذنك بتحية العلم"، فيرد عليه "تفضل" أو ما يقوم مقامها. كل ذلك -إن لم تخني الذاكرة- جرى وفق الأعراف بحذافيرها. إلا أن عبدالعزيز بعد ذلك أمس بسارية العلم بكلتا يديه، وأعطى إيعازاً للفرقة بالاستعداد والاستراحة، فأخذ التحية، ثم حيّا المملكة العربية السعودية -ثلاثاً- وخادم الحرمين الشريفين -ثلاثاً-.
ولست أذكر الآن إن كنا أكملنا التحية أم قاطعتنا الزجرة التي هبّ علينا بها أبو سيف ووثب، حتى دفع عبدالعزيز بظهر يده، وقد استشاط غضباً، قائلاً كلاماً من قبيل: "هذه تحية علم! أنتم تهينون علم المملكة! أيش هذا يا قايد -يقصد ماهر-! علمهم!!". ومن الأخطاء المزعومة أنّ عبدالعزيز لم يؤدِ التحية الكشفية، بل أمسك بالسارية بيديه -رغم أنني رأيت فرقة جازان أدوها تماماً مثل ذلك، لكن عجيب إقرار أبو سيف لهم وإنكاره علينا، ما لكم كيف تحكمون! :)
رجع أبو سيف أدراجه واختفى عن المشهد، أو ربّما عمينا عنه لفرط تركيزنا على التحية العطرة! التي أعدناها صاغرين، وكأنّي أسمع في صوت عبدالعزيز اضطراباً، فالتحية هذي المرة ممزوجة بالتعب والدهشة والرهبة، أو ربما خيّل لي ذلك الاضطراب، أو اضطرب سمعي -ولست على ذلك ألام- لا أدري!
عدنا لمقرّنا، بين مربّت على كتف عبدالعزيز ومواسٍ له، ومعظم الفرقة ساخر من الموقف، ومن رد الفعل المبالغ فيه من أبي سيف، مع اتهامات بالشيب والهرم.
بعدها بيومين، وقع عليّ الدور في تحية العلم، فكنت أنا قائد الحرس، ولا أخفيكم أنني كنت مرتبكاً نوعاً ما، وإن حاولت إخفاء ذلك. الظروف نفسها تكررت، وأبرزها رقابة أبو سيف، بعينيه اللتين ترميان بالشرر.
بدأت التحية على ما يرام، المراوحة، ثم المشي، ودخول الحرم، .. الخ. حييت القائد واستأذنته بالتحية، ثم .. ثم نسيت!
أأعطي الإيعاز للفرقة، أم أمسك العلم، أم أأؤدي التحية .. أيكون وجهي للفرقة أم للعلم؟
وقفت وأخذت وضع التحية، ثم تذكرت أني عليّ أن أعطي إيعازاً للفرقة، فاستدرت ويدي لا تزال مرفوعة مؤدياً التحية، كأنها تصلّبت مكانها، وأعطيت الفرقة الإيعاز، ثم رأيت حاجبي مجيد يرتفعان وينخفضان، وعيناه قد جحظتا على اتساعهما، لو كان لعينين أن تحركا شيئاً لحركته تلكم العينان!
يحاول أن يقول لي شيئاً لم أفهمه حينها، فهمت لاحقاً أنه: "أنزل يدك المتصلبة يا مغفل!". أمضيت الإيعاز ولم أسدل يدي، ثم التفت وصحت بتحية المملكة وخادم الحرمين، ثم نداء من الخلف، بصوت أهدى هذه المرة، لكن بالمرارة والإهانة نفسها: "عيدوا التحية يا قايد، وعطهم أنت الإيعاز". فأعدناها خاضعين، ولا تسألوا عمّا ألمّ بي من خجل :)
ولمّا عدنا لخيمتنا، لاحظت من بعض الصبية الهمز واللمز، وآخرون واجهوني بتعليقات، وأسئلة غير ذات معنى:
-ليش يدك صلبت؟
-حسان حسيت أنّ ضربتك للأرض ميتة، اسمح لي أقول كيف تسويها، وأنا متأكد أنك أديت تحية العلم في أماكن أكبر من كذا ولا لا.. صح؟ ولا لا؟"منتظراً جواباً ..
كان: "ما هو وقتك يا محمد" .. وابتسمت ابتسامة خفيفة واستلقيت على سريري.
وأثقل ما في المسألة، أنّ ماهر قدمني منذ أول ساعة للفرقة على أنني القائد الكشفي الفذّ. وأنني نائبه بالاسم، لكنني قائد الفرقة بالفعل، وأنّ على الشباب الرجوع إلي في الاستفسار والاستشارة والاستئذان، ورسم حولي هالةً أنني خبرة معسكرات دولية، وكان يقولها بنبرة المازح الجاد. لم أُعر كبير اهتمام ابتداءً لتدقيق الصورة، وليتني فعلت. تعلمت بعد هذه أن ألبس لبسي، وأن أعطي نفسي حجمها، وألا أرضى بأن يرفعني أحد لمكانة لم أستحقها، وهذا عين تقديرك لنفسك، وخير ما يسلمك من الإخلال بتوقعات الناس، وهو مقام رفيع من الصدق، أن تكون صادقاً بالقول والفعل.
وما دمنا في وضع الذاكرة العشوائية، دعوني أذكر لكم قصة حدثت لي في زمن بعيد، حدثت لي في منى، ليس في الحج الماضي، ولا الذي قبله، ولا الذي قبله، الذي قبله .. وين وصلنا؟ :] .. نعم، حج عام ١٤٣٧ هـ.
كنت في تلك السنة حاجاً، ومعي أختي. وصلنا إلى مخيم الحملة في منى، في اليوم الثامن، وقد حملنا إليه باص من جدة. لم أكن أعلم الكثير عن مكان حملتنا، قالوا أنّه في مجرّ الكبش، وأنه قريب من الدور الثالث من الجمرات، لكن كل ذلك لم يكن ليهمّني؛ فصحيح أنني لم أكن كشافاً بعد -وإن كنت قد انضممت في نهاية الفصل الماضي إلى الجوالة-، وصحيح أنني لا أعلم شيئاً عن معالم المشاعر، لكن معي إسورة تساعدني لا قدّر الله في العودة، والله يخلّي جوجل! ومع ذلك فسألتصق بالحملة، وأمشي مع فوجها.
تنقّلنا مع الحملة بسلام في اليوم التالي إلى عرفات، ثم إلى مزدلفة وبتنا فيها، حتى كان صباح اليوم العاشر، يوم العيد -بكل معانيه!- :). كنّا حريصين -كما أسلفت- على متابعة الحملة خطوة بخطوة، وساعدنا في ذلك أننا أصحّاء بفضل الله، لكن قدّر الله فأغلق القطار في وجهنا أبوابه، ونظرت نظرة ثاكلٍ إلى الوفد الذي استطاع أن يعبر ويركب القطار، لكن طمأننا المسؤول المرشد من الحملة ووعدنا أنه سينتظرنا في منى. وصلنا إلى منى .. فلم يكن ثمة أحد من الحملة.
لكن لا داعي للقلق، فلنرمِ الجمرات، وتتيسر إن شاء الله. فرمينا مطمئنين، ثم بعد الجمرات وجدت نفسي أمام مفترقات طرق: منها الملتوي الصاعد، ومنها المنحدر النازل، ومنها المغلق .. كيف أصعد للدور الثالث؟ وأين حملة دار الإيمان؟ طيب ممكن مجرّ الكبش؟ لا دليل ولا أثر :).
طفنا في منى أيّ تَطواف، وتعذّبنا من إغلاقات الطرق، ومعها انقطاعات الأمل. وقد بدأت الشمس تستعرّ فوق الرؤوس، وتلقي بسياطها اللاهبة علينا. ثم رأيت في وسط أحد الطرق، حلاقين من الأخوة الباكستانيين، برؤوس لامعة، وملامح خشنة، وأمواسٍ أُخذت باليمين، كانوا -ولا عجب- أقرب للجزارين :). لكني رأيت محلات الحلاقة النظامية بعيدة المرام، فقلت نحلق مستعينين بالله، وهو موسى، ما يحتاج كبير اختصاص. ولعلي أخطأت في هذا، فقد كانت أمواسا نزّاعة للشوى، لكن سعدت بإتمام هذا النسك، وكانت أول مرة أحلق فيها رأسي.
استمرّ التيه لعدة ساعات، حاولت عبثاً الاتصال بمن أخذت أرقامهم عندي من مسؤولي الحملة، بحثت في جوجل التعيس، سألت من قابلت من العسكر، لا جدوى. وكان أسوأ ما قابلت من بعض العسكر -هداهم الله- أنهم يفتونك بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير! وقد قلت لأحدهم -وقد وجهني لطريق معاكس لكل وصف سابق-: "متأكد؟". فأغلظ لي في القول، وقال لي -على ما أذكر- شيئاً نحو: "طبعاً متأكد، تشوفني ما أفهم؟! وإذا ما تبغى تأخذ بكلامي ليش تسألني؟!" .. سبحان الله! شين وقوي عين! .. لم أردّ عليه بالقول خشيةً على سلامي حجّي، لكن لعل الملامح والنظرات كانت أبلغ :)
Spoiler alert:
كانت وجهته خطأ ومعاكسة فعلاً!
كنت أتراءى الكشافة، لكن لم أرَ منهم أحداً. لكن رأيت كشافاً صغيراً، ودلني على طريق معترضٍ بعيد، دونه طرق وجسور!
لا أذكر والله كيف اهتدينا في نهاية المطاف، لكن عدنا بفضل الله بطريقة ما. دخلت الخيمة بُعيد الساعة ١٢ ظهراً، وقد تطاير منّي الدخان، كنت متعباً، غاضباً، ومثيراً للرثاء والشفقة. فاستقبلني جيراني في الأسرّة، ولم نكن تكلمنا من قبل، فقالوا: "ها قد أتى، أين كنت يا رجل، قلقنا عليك .." ، "فاتتك احتفالات العيد" -> ليت صاحب هذا التعليق وفّره.
كنت ثائراً، لكني كنت أغالب الكلام، خوفاً من الرفث والفسوق والجدال، وأغالب أدنى عبرة، كتمتها، فظهرت سكتات.
انتعشت بحمام بارد، ولبست ثيابي، ثم زال عنّي كل تعب، وما أسرع زواله!
فيا عجباً لمن يرشد اليوم التائهين، وقد كان واحداً منهم بالأمس!
ولعلّ هذه التجربة المريرة ساعدتني في تفهمهم والتعاطف معهم.
ومن الجدير بالذكر أنني مررت أثناء مسح منى في هذه السنة بمجر الكبش، ووقفت على مخيمنا وقفة إجلال، وقفة عاشق على أطلال. كان المكان نفسه، لكن اختلف الزمان، واختلفت أنا .. فالحمدلله.