معسكر الحج ١٤٤٠ هـ
الفصل الثالث
وبعد أسبوع كامل قضيناه في التعرف على معالم منى، وبعد أن لاحت بشائر يوم التروية، الثامن من شهر ذي الحجة، آن أوان وضع معرفتنا وتدريبنا على المحك، والبدء بأول إرشاد للحجاج.
كان هناك مركز إرشاد واحد فقط تابع لمعسكر هيئة الرياضة، مقابل عدة مراكز إرشاد متوزعة في أنحاء منى تابعة للجمعية الكشفية. لم يكن مركز الإرشاد التابع لنا بعيداً عن مقر المعسكر، يبعد قرابة ٢٥٠ متراً، وتتعاقب فرق المعسكر الثمانية على أداء وردياتٍ مختلفة فيه، بحيث يعمل المركز على الدوام ليلاً ونهاراً من فجر يوم ٨ حتى ظهر يوم ١٣ (باستثناء نهار يوم عرفة، إذ الحجاج في عرفات). وقد مايز قادة المعسكر في أوقات الورديات بين الفرق. فمن الفرق من كان سيسافر مغادراً مبكراً (يوم ١٢)، وهؤلاء قُدّمت أوقات وردياتهم. ومنهم من لهم أحكام المقيمين (وهاتان هما فرقتا مكة وجدة) فكان بدء وردياتهم متأخراً، وكان من نصيبهم آخر ورديات اليوم الأخير. :)
كان لثلاثتنا -أنا ومجيد وعبدالعزيز- خطتان عظيمتان، نضاعف بهما أرباح وجودنا في المعسكر.
أولها: مشاركة شباب جوالة البترول في عرفات الإرشادَ في اليوم التاسع؛ إذ كان ذلك اليوم يوماً مفتوحاً في معسكرنا.
وثانيها: أداء شعيرة الحجّ؛ إذ سنذهب لعرفة، ونرجع بعدها للبقاء في منى والمبيت فيها لبقية أيام الحج، ولم يكن عملنا مما يحول بيننا وبين إتمام مناسك الحج، ولا وجودنا مما يضايق الحجاج، فـ"حجّ وحاجة" كما يقال، ونعم الحاجةُ خدمة الحجاجِ! :)
أعلنت لجنة المسح جدول ورديات الفرق ونشرته، ويا لسوء الحظ! كان توقيت ورديتنا الأولى غير مناسبٍ أبداً!
لم تكن لنا حسب الجدول أي وردية في يوم ٨ من ذي الحجة، فما كان علينا في ذلك اليوم إلا أن نستريح.
وكانت أول وردية لنا من الساعة ١٠ م يوم عرفة حتى فجر يوم العيد.
وتوقيت هذه الوردية يصعّب علينا جداً إتمام الحجّ -إن لم يحكم باستحالته-. حاولنا عبثاً أن نغيّر أوقات ورديتنا مع الفرق الأخرى، فحاولنا مع الرياض ومع عسير ومع الأحساء، وأغريناهم بأن فتراتهم متعبة أكثر من فترتنا، لكن الجميع أبى، وكانوا يريدونا التمتّع بقضاء نهار اليوم المفتوح وليله كله في الراحة والسمر، فما كان لنا رغم حرصنا نصيب، والحمدلله على كلّ حال. تنازلنا عن فكرة الحج، ولم نتنازل عن فكرة مشاركة الشباب في الخدمة يوم عرفة، وإن صعّب توقيت ورديتنا البئيس هذه المهمة كذلك.
ولم أطق صبراً عن خدمة الحجاج، وأنّى لي أن أستريح يوم الثامن، يوم وفود الحجاج، وأنا أعرف كثرة التائهين في هذا اليوم والحاجة الماسّة لإرشادهم؟!
فسألتُ الشباب عن المعززّ فيهم. آثر عبدالعزيز أن يرتاح نهار الثامن إعداداً لعمل شاقّ يوم عرفة، وكنا قد عزمنا على الخروج مساء الثامن إلى عرفات لنبيت فيها عند الشباب، ونبدأ الخدمة معهم من فجر يوم عرفة. فتفهّمت قراره ولعله كان خيراً له -لما سيأتي إن شاء الله-. أما محمد مجيد فكان كالكبش في قراع الخطوبِ، معزز كبير!
فأعلَمْنا قائدنا ماهر برغبتنا في التطوّع، وكان يتجرّع خططنا وطلباتنا هذه ولا يكاد يسيغها، فمرةً ننوي الخروج لعرفة، ونزيد عليها التطوع في اليوم الثامن. وافق على مضض، وأكّد كثيراً على أن نرتاح ولا نجهد أنفسنا (انظروا إلى الروح الأبوية يا ناس! هههههه). صراحةً رابني أمره، ولم أدرِ ابتداءً إن كان تردده هذا فعلاً خشية علينا من الإجهاد أم لأسباب أخر. وإن كان قد ترجّح هذا عندي؛ إذ طلبت منه أن أتطوّع لاحقاً في وردية فرقة أخرى في اليوم الحادي عشر فرفض، فقلت له أنني أريد الخروج من المعسكر لزيارة أخي، فوافق! بشرط ألّا أرشد، وطلب منّي أن أعطيه المنديل الكشفي! رفضت وتعللت أن المنديل يسهّل عليّ العبور واختراق الحواجز الأمنية. أكّد بعدها عليّ ألا أجهد نفسي، وأنّ الفرقة تحتاجني في الأوقات المقررة.
فخرجت أنا ومحمد مجيد، كانت الساعة ٩ أو ١٠ صباحاً تقريباً، وصلنا مركز الإرشاد، وإذ بنا نفاجأ بسوء التنظيم -ومعاييرنا ومرجعنا هو ما شهدناه وأشهدناه في مركز إرشاد عرفات الرئيسي العام الماضي- فالحجاج واقفون في الخارج بلا تنظيم إطلاقاً، وبعضهم جالس في الداخل بلا تنظيم يذكر، والقادة مضطربون وكل منهم في شأن، دخلنا إلى غرفة استراحة الكشافة (ينتظر فيها الأفراد أن يُنادى عليهم ليخرجوا للتوصيل) وإذ بشباب جوالة عسير أجساداً هامدة، تعبوا جداً في مهمتهم، وتحسبوا على قيادة المعسكر أن لم يمدوهم بإسناد، بل وعاتبونا "بدري!"، ولم يدروا أننا أتينا طوعاً بملء إرادتنا ودون توجيه من إدارة المعسكر.
لم أطق الانتظار، فوقفت قريباً من القادة لأساعدهم، وكان هناك مجموعة تريد الخروج، فاحتاروا من يرسلون معهم، فبادرت وقلت: أنا لها. أعطاني مشرف المركز الإيصالات (التي يأخذها الكشاف إلى مسؤول الحملة ليختمها بعد توصيل الحاج، ولها تبعات على الحملة من وزارة الحج) وأعطاني المواقع، فرابني الموقع بدايةً ولم أكن متأكداً ١٠٠٪ من سبيل الوصول إليه، فهو في منطقة لا أعرف تضاريسها (قد تكون حملتهم أعلى جبل، وهذا ما رجحته ابتداءً، أو عند أسفله في طريق ملتوٍ)، فسألت القائد المشرف في المركز فأجابني بإجابة مبهمة جداً لا تشي أبداً بأنه خبير.
فقررت أن أتوكّل على الله وأعتمد عليه سبحانه ثم على حسن تصرفي. أخذت المجموعة وكانوا جزائريين، فطمأنتهم أن لا تقلقوا، سترجعون معي إن شاء الله إلى مخيمكم. وهنا صاح بي أحدهم: إذا ما كنت تعرف المكان بالضبط أرجوك اتركنا هنا ولا تأخذنا! -ولم يكن ردّ فعله هذا لشيء ظهر عليّ، لكن لخطأ أحدثه القائد المشرف كما سيأتي-. هنا بلع صاحبكم ريقه، ولاح لي خاطر مخيف، إذ حذرت الشباب مراراً من تضييع الحجاج، هل سأقع في المحذور؟ وا فضيحتاه! لكنني استبسلت وكتمت رهبتي وقلت لهم: لا عليكم، ثقوا بي. -ما عرفتني ههههه-
مضينا راشدين، والحاج يحدثني عن خيبة أمله من تردي المستوى التقني الذي وصلنا إليه، أيعقل أنكم لم تصلوا لحلول لإيصال الحجاج وإرشادهم أكثر من هذه الطريقة البدائية: تسترشدون بخرائط وجداول مطبوعة، وتسيرون معنا مشياً على الأقدام؟ أين التقنية عنكم؟ لماذا لا يكون عندكم ما يشبه خرائط جوجل؟
ليس الحج موضع جدل، لكن قلت له أننا نتطلع إلى هذا، وشرحت له بعض الصعوبات الحالية، وإن كانت لا تخفى على ناظر: فتضاريس منى، وبنيتها التحتية، وتوزيع الحملات فيها، وعدد الحجاج. اقتربنا نوعاً ما من موقع مخيمهم، وأحب عادة أن أطمئن من أرشدهم من الحجاج من اقترابنا كل فترة؛ لأزرع فيهم الأمل وأخفف من طول الطريق، وإذ بالحاج يصيح ويتحسب على القائد المشرف في مركز الإرشاد (الذي سألته آنفاً)، قائلاً: “كنا هنا، وأخذنا فلان معه طوال هذا الطريق المعاكس إلى مركز الإرشاد”. لم أدرِ ما أقول، لكن قلت له: الله يهديه ويسامحه.
ها نحن ذا وصلنا إلى أسفل الجبل، الذي أتوقع أنّ حملتهم في أعلاه، وكان أفظع كوابيسي أن أطلب منهم أن يصعدوا معي إلى أعلى الجبل -على ما بهم من تعب وجَهد- فلا تكون حملتهم هناك! فطلبت من الحجاج أن يستريحوا في أسفله، وأخذت رقم جوال أحدهم، وقلت سأصعد أنا وأتأكد من وجود الحملة بنفسي، ثم أنزل لآخذكم لها. فتوكلت على الله وصعدت، ومررت أثناء صعودي بطريقين قصيرين متفرعين، فيهما حملات متفرقة لدول جنوب آسيا (الهند، باكستان، بانجلاديش). مضيت صُعُداً في طريق ملتفّ إلى أعالي الجبل، فوجدت طريق متفرعاً يظهر على الخريطة أنه طويل وملتف كذلك، وحسب ما علّمت على الخريطة سيكون مخيّم أصحابي في نهايته، ووجدت في بدايته حملاتٍ لدول عربية، فاستبشرت، وتوغلت فيه أكثر وأكثر حتى وجدت الحملة المنشودة! -حسبي الله على أصحابها، وسترون منها عجباً-. فالتقطت صورة للوحة الحملة؛ لأطمئن الحجاج أنني فعلاً وصلت لحملتهم، وكانت للدول العربية ورقمها ١٧٦، واتصلت بهم مطمئناً أن قد وجدت حملتكم، وطلبت منهم أن يصعدوا اختصاراً للوقت على أن ألقاهم في منتصف الطريق وآخذهم إلى حملتهم.
ووجدت أمامها فوجاً كبيراً من حجاج جنوب آسيا، ربما ٤٠ حاجاً أو يزيدون، قد أنزلَتهم حافلة وتركتهم. فنظرت لإسورة أحدهم وعلمت حملتهم، وكانت في الطريق المتفرع الذي تركته أثناء صعودي، فقلت لهم اتبعوني. ثم مررت بنفر من الحجاج التائهين فنظرت سريعاً إلى حملتهم فعلمت أنها في الطريق المتفرع الآخر، فأخذتهم معي وضممتهم إلى الركب ونزلنا معاً. كانت حملة الفوج الكبير في الطريق المتفرع الأول الذي صادفنا، فأخذتهم نحوه وشرحت للنفر أنّ حملتهم في الطريق المتفرع الآخر، فمشيت أمامهم ثم استدرت مبتسماً وبسطت يدي ورفعتها مشيراً أن هذه هي حملتكم أيها السيدات والسادة! ولا تسل عن فرحتي وفرحتهم! تهللت وجوههم ومروا بي واحداً تلو الآخر بين ملوّح ومصافح ومعانق. ثم مضيت مع الثلة وأخذتهم إلى حملتهم، فشكرني أحدهم بعبارة كان لها وقعها:
!Thank you for being professional
مضيت نازلاً فصادفت رفاقي الجزائريين الذين تركتهم، فصعدت معهم وأخذتهم إلى مخيمهم. وأنا أودّعهم تذكّر أحدهم أنه نسي حقيبته في أسفل الجبل :| ، أخبرته أنني سآتيه بها، لكن للأسف نزلت وبحثت عنها فلم أجدها، واتصلت به وأخبرته.
وشعرت بعد هذا النجاح بنشوة، لم أقاوم معها أن أرجع إلى مركز الإرشاد -وهذا خطأ جسيم-، فكنت أرشد من أراه تائهاً حيثما كان، دون أن يكون معي إيصالات لتختمها الحملات. فتوليت إرشاد عدة حالات: منها حجاج يمنيين، وحاج مغربي -لا أدري كيف قلت له -رغم كل التحذيرات-: يعطيك العافية! لكن أحمد الله أنني استدركت ووضحت له مقصدي، دعاني بعدها لزيارة مراكش، فلعل الأمور عدت بسلام :).
وبعد مدةٍ وجدت حجاجاً كان شأني معهم عجباً.
كانوا شيوخاً جزائريين، أعياهم السير جداً، وقد أضاعوا مخيمهم من عدة ساعات، نظرت إلى أساورهم، وإذا بها تلك الحملة البائسة ذاتها: الدول العربية رقم ١٧٦! فبشّرتهم أني أعرف موقع مخيمهم، فلم يصدقوني. وهنا أحمد الله أن وفقني وهداني في المرة الأولى لالتقاط هذه الصورة العظيمة:
أريتهم إياها فتيقنوا واستبشروا، وتشجعوا على المشي ورُدّت إليهم الروح. مضينا وكانوا أربعة أو خمسة، وقد بلغ الجهد بأحدهم أقصاه، فكنا نتوقف مرات للراحة، ولشرب الماء، وللتظلّل والتفيّؤ. ثم مررنا بثلة من الحجاج السودانيين، نظرت إلى أساورهم، فإذا مخيمهم مجاور لمخيم أصحابي، فأخذتهم ومشينا جميعاً. ويسلّيني في الطريق حديث أحد الشيوخ الجزائرين، وسأسميه الحاج شكور: "ما شاء الله عليك! بارك الله فيك! سألنا كثيير من الضباط، وبعضهم كابيتان -وأشار إلى كتفه بإصبعين- وما عرفوا، وأنت تعرف مخيمنا!". ولمّا اقتربنا من المخيمات، صاح بالجمع: "ادعوا له ادعوا له، جزاه الله خير!". وبخبرتي الآن بالجبل، قلت لعلي أن أختصر عليهم سير الطريق الممتد فيه والملتوي بالدخول من أحد المخيمات. لكن يتطلب هذا صعود درج مرتفع، فطلبت منهم الانتظار أسفله، ثم صعدت وتأكدت من طريقي وعدت لهم مبشراً. أوصلت السودانيين، ثم أخذت الجزائريين إلى مخيمهم. كانت فرحتهم غامرة! فاجتمعوا وتناجوا ثم همّوا بإعطائي مالاً -ظناً منهم أنّ هذه الخدمة بمقابل- فأكّدت لهم أنه تطوّع محض، وأني لن آخذ عليه شيئاً. لم يصدّق الحاج شكور، تأثّر جداً وظهر هذا على ملامحه، وصاح بلهجة جزائرية "لا لا هذا محال! أيش أنت .. ملاك!". ثم قال لرفاقه صوّروني معه وتصوّروا، فلا أظنكم ستجدون مثل هذا الرجل في الدنيا! ثم بدأ يسألهم ويتأكد: "تصوّرت معه أنت؟ تعال تصوّر معه"، وقابل عدد من أصحابه في المخيم وأخبرهم بالعمل الخارق الذي قمت به!
أحرجوني بردّ فعلهم العفوي والكريم هذا، لم يخطر على بالي! :D .. ألا رضي الله عنهم وتقبل الله منهم، ولي عودة لاحقة للحديث عنهم.
بعد أن أوصلتهم، ونزلت من الجبل، رأيت على الجسر حافلة لحجاج من الدول العربية (الأردن ومصر والجزائر)، ظلوا لعدة ساعات -على ما أذكر- تائهين دون أن يعرفوا موقع مخيمهم. وكنت قد لمحت لوحة حملتهم في أعلى الجبل نفسه، فأخبرتهم أنني أعرف موقع حملتهم، فهلّلوا وقالوا اركب معنا يرحمك الله! فهذا -وأشاروا لحاج واقف عند الباب- من اليوم يدّعي أنه يعرف المكان ولم نصل! لم يكن الحاج هو المسؤول أصالةً عن إيصالهم، لكن لم يكن معهم مسؤول من الحملة، فاجتهد بما يعرف من معلومات. المهم أنّ الله يسّر، وصعدنا بالحافلة حتى وصلنا المخيم، وأعياني الشرح للسائق -شايب سعودي- أن أنزِل الحجاج يا شيخ، ثم فكّر فيما إن كنت تستطيع إيقاف الحافلة أمام المخيم لباقي اليوم أم لا، نزّلهم يرحم والديك!
ثم اختتمت بإيصال حجاج يحملون الجنسية الأمريكية، وإن كان يظهر أن أصولهم هندية، وكان يسخر أحدهم وهو يتحدث لصديقه الذي في الحملة من التقدم التقني، وقد حاول مراراً استخدام خرائط جوجل للوصول لمخيمه دون جدوى.
كان هذا أبرز ما وفقني الله فأرشدته من حالات في اليوم الثامن. عدت للمخيم قرابة الساعة الرابعة عصراً، وقد بلغ منّي التعب مبلغاً، وكأنني أرى دخاناً يتصاعد من جسدي، وجلد يديّ وساعديّ محمّر، إلا موضع الساعة بعد أن نزعتها. علمت لاحقاً من طبيب المعسكر أني أصبت بحرق خفيف -من الدرجة الأولى- بعد التعرض الطويل للشمس، ولقلة شرب الماء، لكن طمأنني أن لا داعي للقلق، وأوصاني بالحذر، وأعطاني مرهماً موضعياً. وقد استمرت معي هذه الأعراض لأسبوعين تاليين أو ثلاثة. :)
لم يكن هناك وقت للراحة، كان لابدّ أن نعدّ العدة وننطلق لمعسكر عرفات. جهّزنا أمتعتنا وصلّينا المغرب، ثم انطلق الثلاثيّ: محمد مجيد، وحسان البحيران، وعبدالعزيز الشهري.
つづく