معسكر الحج ١٤٤٠ هـ
الفصل الثاني
هممتُ أن أتحدّث هنا عن طرف من قصص المعسكر وطرائفه، لكني ترددت. والكلام لا يساق إلا لأن ينفع، أو يمتع، أو لكلا لأمرين. ولم أتيقن من تحققهما فيما كتبتُ سابقاً، فآثرت الاحتفاظ به في الأرشيف حتى يقضي الله أمراً.
دعوني أتحدث عن صلب عملنا، والغاية من وجودنا في معسكر الحج هذا. ما عمل الكشافة أيام الحج؟ وكيف يخدمون الحجاج؟ للكشافة في ذلك دوران رئيسان، لا يُجمع بينهما: فإما أن تكون مهمتهم تفويج الحجاج وقت رمي الجمرات -وهي مهمة استحدثت عقب حادثة التدافع المأساوية عام ١٤٣٦ هـ - ، أو أن يكون عملهم المسح والإرشاد، والغاية من هذا هو إرشاد الحجاج التائهين إلى مخيماتهم. وهو حقيقةً الدور الأهم والمحوري للكشافة. وفي مشاركتي العام الماضي في عرفات، وهذه السنة في منى، لم أعمل إلا في المجال الأخير، فسأسهب هنا نوعاً ما في الحديث عنه.
يقصد بالمسح: التعرّف على معالم المشاعر المقدسة، وشوارعها، ومناطقها، ومواقع المخيمات فيها. والقدرة على استعمال الخرائط المعدة لها.
وكما قال شيخ المعرّة:
لعلك يا جليد القلب ثانٍ
لأوّل ماسحٍ مسح البلادا
أبو العلاء المعرّي
ما صلة هذا البيت بحديثنا؟
ليس له صلة .. لكن أعجبتني حركة الاقتباس فقلت أجربها :)
وإن كان معنى المسح فيها مشتركاً لما أحاول تعريفه.
نعودُ:
ففي أيام المعسكر، وقبل وصول الحجاج، يتدرب الكشافة على ذلك. فيخرجون في جولات مسح على فترتين: صباحية من بعد الفجر، ومسائية من بعد العصر. ويُطلب منهم بعد انتهاء عملية المسح ملء استمارة توثق البيانات التي حصلوا عليها وجمعوها، ويطابق ذلك بالبيانات الموجودة عند لجنة المسح: إحدى لجان المعسكر.
ومما يختلف فيه معسكر هيئة الرياضة الذي نحن فيه عن معسكر الجمعية الكشفية أنّ لكل معسكرِ خرائطه وأدلته الخاصة. ففي معسكر الجمعية الكشفية كان الدليل الإرشادي جاهزاً -أو شبه جاهز- يوم وصولنا لمعسكر عرفات العام الماضي، وما كان دورنا إلا التعديل على تلك البيانات وتوثيقها. أما خريطة ودليل معسكر هيئة الرياضة فيصممان اعتماداً على عملنا أيام المسح: قادة وأخصّائيين، وفرقاً وأفراداً. ويستمر العمل حتى يكتمل قبيل وصول الحجاج، فلم يصدر الدليل الإرشادي إلا مساء يوم ٨ ذو الحجة.
وللتوضيح فهناك خريطة للمشاعر (خريطة لعرفات وأخرى لمنى)، ودليل إرشادي: وهو جدول يربط مخيم الحاج وحملته بموقعها على الخريطة. والعمل على إعداد الأخير هو الأصعب؛ لأن الحملات تتغير مواقعها، وتستحدث بعضها وتغيب أخرى من عام لعام.
وكانت عملية المسح مجهدة في مشاركة هذا العام، أكثر من الماضية. ومشعر منى عموماً أكثر تعقيداً من عرفات. فعرفات ملتئمة، منضمّ بعضها إلى بعض، وفي غالبها منبسطة. أما منى ففيها جبال وأودية، وجسور ملتوية، وطرق مغلقة، وحتى شكلها على الخريطة ممتد ومترام بشكل غير منتظم هندسياً. فلا عجب أن يكون مسحها، وضبط معالمها ومناطقها وشوارعها أصعب.
ومن تكاليف لجنة المسح في معسكر هيئة الرياضة أنها لم تكن تكتفي ببيانٍ نكتب فيه بيانات المواقع -كما تطلب نظيرتها الجمعية الكشفية-، بل طالبونا بالإضافة إلى ذلك أن نرسم "كروكي" لكل قطعة نمسحها. وكانت المهمة الموكلة للفرقة أن تمسح في كل فترة منطقةً مقسمةً إلى عدة قطع، وعلى كل شخص في الفرقة أن يمسح فردياً قطعةً واحدةً على الأقل، يرسمها ويسجل بيانات ما فيها من معالم، ومخيمات، وما يحدّها من شوارع.
تخبطنا في أول يومين فيما نسلمه للجنة المسح من استمارات، لكن من بعدهما عرفنا المقصد والمراد، وصرنا نحرص ونجتهد لنيل شيء من أوسمة التميز في المسح، التي تهدى للأفراد المتميزين كل ليلة بعد حفل السمر.
فاجتهدنا في تدقيق البيانات، واجتهدنا في الرسم: فاستخدمنا فيه أقلام الحبر والرصاص والمساطر. ورأينا الناس يلوّنون، فخضنا كالذي خاضوا ولونّا :) . لكن باءت كل مساعينا بالفشل، فلم يتوّج أحدٌ منّا بوسام في اليومين التاليين.
حتى كنا عائدين صباحاً من أحد أعمال المسح، فاستوقف الفرقةَ أحدُ أخصّائيي المسح (وكان أساساً عضواً في فرقتنا، انتدبته لجنة المسح)، فسأل: "وين هتّان البحير.. ، فيه واحد اسمه هتّان ..؟"، فقالوا له: "تقصد حسان البحيران"، قال: "نعم نعم"، فكلمني، وبشّرني أنني تميّزت، وسأكرّم بوسام، لولا خلل صغير تغاضوا عنه وهو أنني نسيت أن أدوّن في البيان وجود مركز توعية إسلامية على الخريطة (وكنت بحثت عنه فلم أجده!)، فاستبشرت وبادرني الشباب بالبِشر.
فكانت الليلة، وحان موعد التكريم، وإذ بالشباب جالسين في المصلى، وقد فاقني بعضهم حماساً، فهذا يلكم كتفي ويغمز لي، والآخر رفع كاميرا جواله للتصوير. وبدأ نداء الأسماء، فقرئ اسم وثانٍ وثالث .. ومع كل اسم ترمقني نظرات الشباب، بين ناظرٍ أن أكرم، وناظرٍ إلى رد فعلي. انقضت تلك الليلة دون أن يقرأ اسمي، فثقل عليّ الأمر بعض الشيء، لكني لم أحزن أو أكتئب -عليينا؟-، لكن ساءني البرق الخُلّب الذي أومض لي به صاحبنا الأخصائي. وما كان ذلك ليقلل من جودة ما أسلّمه من عمل للجنة المسح.
فأتت الليلة التالية، وحدث فيها ما شابه الأولى، من ترقّب منّي ومن الشباب، تبعه خذلان .. فنفضت يدي من كل ذلك.
ثم أتت ليلة تالية، قال فيها قائد لجنة المسح أنّ المتميزين بلغوا ٢١ شخصاً، ولعجزنا عن تكريم الجميع سنسحب ونكرم ٦ أشخاص. فكرموا شخصاً، وثانياً، وثالثاً، ورابعاً، ثم نادوا: "حسام البحيران" .. أخيراً!
وقالوا اسحب اسم المكرّم الأخير، فسحبت ووقع الاسم على "فريد خالد" أحد أعضاء فرقتنا الميمونة! فازدادت بهجتي أن كانت بيدي سعادة أحد القريبين.
قرؤوا بعد ذلك أسماء ال ٢١ شخصاً جميعهم المستحقين للتكريم، الذين لم يكرّم منهم إلا ستة. فلم يكن من فرقة مكة إلا أنا وفريد، فسبحان الذي سخّر لنا هذا :) وكان هذان الوسمان أول وسامين لفرقتنا في التميز في المسح (ولعلهما كانا الأخيرين هههه)
يستفاد من هذه القصة أن تحسب للمواعيد والبشائر حسابها، وتتيقن منها قبل إخبارها. فلا تلقِ للناس بسنّارة الأمل، لتعلّقهم بالخيبة طُعماً، وتذيقهم منها طَعماً، وإن طعمها لمرير :)