كلمات أخيرة
نتكلّم كثيراً، ونكتب كثيراً. ويبقى أهمّ الكلام ذاك الذي لم يقل ولم يكتب بعد. يقضي أحدنا عُمُرَه مؤجلاً، منتظراً شيئاً لا يعرف ماهو، سيدفعه ليلفظ تلك الكلمات، قبل أن يلفظ القائل أو السامع أنفاسه الأخيرة. ولو سألت الفاقدين عن أمنياتهم، لسمعت حتماً فيها أن يعبّروا بصدق عن مشاعرهم للأحبّة الراحلين. وخطرَ لي أننّا لو سألنا الراحلين لأجابوا بشيء مشابه، أن ليتهم قالوا شيئاً، قبل الوداع.
يمرّ بي هذا الخاطر كثيراً، أن أرى نفسي -لظرفٍ ما- مضطراً أن أقول كلماتي الأخيرة للأهل والأحبّة. وهممت مراراً أن أدفع ذلك الخاطر بأن أكتب وصيّتي، لكن أقعسني عن ذاك حاجتي للبحث في أحكام الوصية، فضلاً عن أن للوصيّة هيبةً، وليست مما يكتب وينشر عفواً.
ها أنذا أبادر لأكتب شيئاً، أظنني كنت سأندم لو رحلت عن هذه الدنيا ولم أقله. لستُ في أتمّ استعداد ولا في أحسن حال وأنا أكتب، فأنا متعب، أتثاءب مغالباً النوم، مع ذلك أرى أنّ الوقت حان، وليس للمرء إلا الساعة التي هو فيها. وعلى كلّ حالٍ، لست هنا لحصر كلّ ما أريد قوله.
فأوصي الأحبّة بأن يلزموا تقوى الله، ويتعلّقوا به، ويتخذوا إليه كلّ سبيل، ما استطاعوا. وإنّي ما كنت أجدُ نفسي في الدنيا وخارجَها إلا في ساعة تنشرح فيها نفسي لذكر وطاعة. وعشت زمناً أحسب أنّ الاستعداد للموت يكون بكثير عمل، والآن أوقن أنه لا وافد على الكريم الرحيم الرحمن أحسنُ ممّن يحسن به سبحانه الظنّ، وإنّي لأرجو أن أكونه. وفي هذا لو تعلمون عزاءٌ عن كل فقد ورحيلٍ. فتعزّوا يا أحبّتي، وإيّاكم وطول الحزن واستبداده، فإنّي أنهاكم، وخير من البكاءِ الدعاءُ. بل كيف يحزن مؤمن علم أن الدنيا ليست دار مقرّ، وأنّ متعتها واجتماعها إلى زوال وتفرّق، وأنّ الآخرة خير وأبقى، وفيها نلتقي؟ ولو كنتُ حيًّا لما سرّني أن أراكم إلا راضين ضاحكين مستبشرين، مقبلين على الله، وعلى حياةٍ شاء ربّكم أن يكون لهم فيها فسحة أجل، فأحسنوا فيها ما استطعتم، وكونوا كما أحبّ أن أراكم، حتى أراكم.