معسكر الحج ١٤٤٠ هـ
الفصل الأول
أكتب من مدينة ميلانو الإيطالية ..
في شقة رخيصة، متدنية النظافة، وقد أطفئت الأنوار، ووليت عبدالباري ظهري، وأقبلت على لابتوبي للمرة الأولى خلال هذه السفرة التي انتصفت مدتها .. وأجد فيّ من أيامٍ شهيةً للكتابة، فأحببت أن أستدرك وأمسك بشيء من ذكريات معسكر الحج الماضي الجميلة.
هممت وأنا هناك، في مشعر منى، أن أكتب مذكرات -ولو مبعثرة- ثم أجمعها وأحسن صفها، فبدأت .. لكن خانتني الظروف فلم أكمل.
مشاركتي هذا العام كان مختلفة، بكل معنى الكلمة، كانت عظيمة جداً .. الحمدلله
كنت أظن أنني استوفيت تجربة معسكر الحج بمشاركتي مع شباب جوالة البترول في معسكر عرفات العامَ الماضي، أما وقد رأيت عملَ هذا العام، فأقول أين عمل الأمس من عمل اليوم! الحمدلله
المعسكر كان مختلفاً .. فهنا معسكر هيئة الرياضة في منى، أحكي لكم شيئاً من أجوائه، وأقارنه بمعسكر الجمعية الكشفية في عرفات:
أولها وأوضحها مكان المعسكر، أنت اليوم في منى، ما يعني أنك في قلب المشاعر، وفي قلب الحدث، مكوث الحجاج هنا أكثر؛ فالحاجة لخدمتهم أمسّ.
عدد الفرق هنا أقل، فهنا ٨ فرق، أما في عرفات فقرابة الخمسين فرقة! منها ٢٢ للمسح والإرشاد، هي التي بقيتْ في المعسكر بعد خروج فرق التفويج من ٧ ذي الحجة. كل فرقة في معسكر هيئة الرياضة تمثل منطقة: ففرقة عسير، وفرقة الرياض، وفرقة الجوف -يا أهلاً!-، وفرقة جازان، وفرقة القصيم، وفرقة الأحساء، وفرقة جدة -عوملتا كمنطقتين، لكبرهما-، ومثلهما وأخيراً فرقتنا .. فرقة مكة.
الجانب الكشفي في المعسكر غالبٌ وواضح مقارنة بمعسكر الجمعية في عرفات، فالدوري، والجمع، والتقاليد والأعراف الكشفية إجمالاً حاضرة بشكل أكبر هنا.
القادة هنا مميزون، فقائد المعسكر حصيف حكيم، جاوز الخمسين، له حضور لطيف وقرب من الشباب، فيعايشهم ويسمع من هذا وذاك، وتراه يقف في صف الغداء، ويغسل ملابسه .. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق هههههه
بشوش في معظم الأحيان، لا تراه سريع الغضب ولا الإنكار، أعجبني اتزانه.
ومن القادة أبو سيف، الرجل الذي أسمع عنه من سنة، وله سمعته في الوسط الكشفي، شيخ متقدم في السن، له باع في الكشفية، حازم، غير متئد في الألفاظ، يستعين بالآخرين ليخدموه، يؤمنا في الصلاة، ويتذاكر الناس مواهبه في الإيقاظ للصلاة، له كاريزما عالية، ويحبه كثيرون.
ومن القادة قائد البرنامج الثقافي، من أشبّ القادة سناً، حازم، لكنه يفرط في ذلك فتغيب عنه الابتسامة، وربما غابت عنه الحكمة، بعيد عن شباب المعسكر فكثير لا يحبونه ويتهمونه، رغم ما شهدته من مواقف كان دقيقاً فيها في رصد الدرجات.
ومن القادة من يظن نفسه وسط الشباب وحبيبهم، وقدّم نفسه في التعريف بالقادة على أنه كذلك، فلم أرَ إلا تكلفاً، وتباسطاً ثقيلاً على النفس، رغم ذلك لم أشهد منه كثيراً مما أحب ولا مما أكره.
ومن القادة رجل فاضل اسمه عبد الباسط، شهير بين بعض الشباب باسم "عم عبدو"، كبير في السن، لكنه شبابي قريب من الشباب، هادئ بسّام، كان نائب قائد المسح، أدار اجتماعات حضرتها شهدت فيها طيب روحه، ونقاء سريرته، من استماعه وحديثه مع الشباب، ونظرته للأمور، والتماسه الأعذار، وكرهه للبهرجة.
ومن القادة رجل التغذية، اسمه يزيد، كان حريصاً جداً على جودة ما يقدم لشباب المعسكر، وملتمساً رضا الله، فكان يؤذيه ما يرمى من الطعام، فاتخذ إجراءات في تقليل الطعام في الغَرفة الأولى، مع عدم حدّ المرات .. فإن أردت الزيادة عُد فنزيدك. أثار هذا سخط كثيرين وامتعاضهم .. رغم ذلك لامسني حرص الرجل وصدقه ومتابعته لشؤون التغذية حتى آخر يوم.
هؤلاء كانوا هم القادة .. أما الفرق، فكان أبرزها في نظري فرقة عسير، كانوا مهابيل، ومتغشمرين وقت الطرب والفلة، وأشداء وقت الجد والمنافسة، ولهم قائد رزين حازم اسمه فهد -توّج في آخر المعسكر بجائزة أفضل رائد عشيرة-، ونائب صاحب كاريزما اسمه فاروق، وقد زعم هذا الأخير أنّ كل من في الفرقة قادة، وأنه يحمل الشارة الأهلية. ورغم عملهم الجاد في برامج المعسكر إلا أنهم لم يفوزوا بمركز، فثاروا في الحفل الختامي وأتوا بردّ فعل نزق، ما كان ينبغي أن يحدث، وملؤوا الأجواء شحناً واضطراباً، واحتاجوا لجلسة مطولة معهم بعد الحفل من قائد المعسكر، امتصّ فيها غضبهم وطيّب خاطرهم، انتهت بصيحتهم الجميلة:
حنا جينا من أبها والعزم في يدينا
(والعزم في يدينا)
نستعد باستراحة
(لا لا ما فيه راحة)
وفرقة جدة كانوا مميزين كفرقة، لكن أفرادهم ما كانوا بارزين، سوى قلة منهم، أدوا أداء طيباً، وفازوا بمراكز في عدة منافسات.
أما فرقة القصيم فكان لها نصيب الأسد، وشهدتُ إبداعاً لهم في الزيارة الصباحية، فتارةً تراهم جميعاً بشماغ وعقال مطرز ببادج كشفي، ومرة كلهم بعصيّ وقفازات بلون موحد. ورغم عدم اقتناعي بمبدأ الزيارة الصباحية، في معسكر خدمة حجاج، إلا أنني أحترم المستعد. وكان لأفرادهم مشاركات مميزة في عدة مسابقات ومناشط، توجت جهودهم بالفوز بالمركز الأول. أثار فوزهم هذا حنق فرق المعسكر، واتهموا القادة بالانحياز -إذ قائد البرنامج الثقافي قصيمي، ويبدو للرائي أنّ فيه ميلاً لهم-. شخصياً أعتقد أنهم استحقوا الفوز.
وفي المعسكر فرقة كانت أشبه بتحصيل الحاصل، أتحدث عن فرقة الجوف .. كان تخاذلهم عجيباً، فكانوا المركز الأخير في عدة منافسات دورية، والأخير على مستوى المعسكر في المجموع التراكمي، ولم تكن عندهم جدية في أوقات الجمع، ولا لقادتهم في أوقات الاجتماعات، تعجبت جداً من ذلك، زرت مقرهم في اليوم قبل الأخير وسألتهم عن هذا، فأجاب بعضهم: "نعطيك إياها من الأخير: ما أعطونا فلوسنا" .. ولعلهم يقصدون بذلك تعويض تذاكر الطيران. وأتساءل إن رد لهم إهمالهم هذا شيئاً من حقوقهم!
لم أحتكّ كثيراً بالفرق الأخرى، ولم أجد لها نشاطاً بارزاً.
عرفت من فرقة الرياض شاباً لطيفاً اسمه نواف بوقري، ومن فرقة عسير آخر اسمه صالح، كانت معرفة لا تعارف، لم تتوج للأسف ولا حتى بأخذ أرقام الجوالات، يلا حصل خير خخخخ
أدارت فرقتنا -فرقة مكة- المسار الديني من البرنامج الثقافي، وكانت المسابقة أن يسمّع الفرد ٥ من أذكار الصباح والمساء، وسورة الملك .. فوجئت بضحالة المستوى في هذه، سمّع عندي أكثر من ٢٠ شخصاً، واحد منهم فقط سمّع السورة كاملة، ومجموعة حاولوا وفحّطوا، وآخرون يائسون.
وفي أذكار الصباح والمساء حفلات أخر، كان أصخبها خطأُ بعضهم في المعوذات!
الله يصلح الأحوال!
أما فرقتنا فرقة مكة؟
فكان أسلوبنا السهل الممتنع، لم نجر كثيراً ونجتهد للفوز بمركز، فانتهى المعسكر ونحن الرابع في المسح والإرشاد، والرابع في البرامج، والرابع في المجموع العام، بلا مبالغة في العمل، ولا تقصير فيه، وبلا حرص ولا إحباط .. بركة!
أفراد الفرقة كانوا ضعافاً حقيقة، لا إمكانات، ولا خبرة، ولا جدية .. مراهقون.
جزء كبير منهم من أقارب قائد الفرقة ماهر، ١٠ منهم من طلاب الثانوي أو ما يعادله من المعهد التقني أو الصناعي (٤ أو ٥ تقريباً في الأول ثانوي .. ١٦ سنة!) .. ألسنتهم منطلقة بالبذاءة، كثير منهم مدخنون، بعضهم بالغو السوء كسلاً واستجابة وتفاعلاً. رغم ذلك كان في معظمهم طيبة كبيرة، واحترام لـ "قايد حسان!"، وبشاشة وترحيب لمستهما من أول نظرة ولقاء، وحماس في العمل والمنافسات، تجربتي معهم كانت جميلة.
وكان لي في هذه الفرقة سراجان، بهما يهتدي الساري، رفيقاي محمد مجيد وعبدالعزيز الشهري، الأول بخبرته العريضة في معسكرات الحج، وحزمه وشدته على الشباب (كان قائد المسح)، وإقدامه في الخدمة والإسناد، وشخصيته المميزة: نزق لكنه طيب، يخونه التعبير، مثقف، جاد دؤوب .. أحبّ هذا الرجل. أما الشهري فكان عضدي من قبل دخول المعسكر، وكان سنداً فيما احتجت من الدقيق والجليل، من أغراض استعيرها، وبما أهداني إياه، ومن حديث تباسطنا فيه، ومن بشاشة لقيتها منه، ومن ضبطه للفرقة في شطر من الجوانب الكشفية (وكان عريف الطليعة)، نعم الأخ والرفيق.
أما الربّان فكان ماهر. وماهر تخرّج طبيباً، يحمل شارة كشفية، طيّب ودود، قريب من أفراد فرقته، فيه من حيلة شباب مكة وألاعيبهم، فكان كثير التنصل من المسؤوليات، الداخلية في الفرقة (يرميها عليّ، دأبه من أول يوم، بصفتي نائبه!)، والخارجية من اجتماعات وبرامج في المعسكر. كان من ضرائب هذا التجاهل أن الفرقة برمتها أوقفت في أول يوم لها عند سارية المعسكر لتأخذ "كلمتين" ثم تعود.
وبدرَ من ماهر مظاهر مما أراه تسيباً، فلاحظت خروجه من المعسكر ليلاً وعودته متأخراً (وإن كان هو من يوقظنا أحياناً!)، وكثرة زائريه من أصدقائه وخروجه معهم، وتغيبه عن بعض برامج المعسكر وأحداثه، يفيده في ذلك علاقاته الواسعة بقادة المعسكر والدوري (الموكلون بحراسة أبواب المعسكر). أفادتني خبرته هذه وارتجاله في الخروج من المعسكر لإجراء مقابلة الفيزا الفرنسية، والخروج لمعسكر عرفات للخدمة يوم عرفة، وفي الخروج للقاء أخي عبدالعزيز الذي كان حاجاً. وكم مرة كنت آتيه بكلام أو تعليمات من القادة فيكون رده: "كبّك منو"، "أخسرك منو" ههههههههه، ولعلّ الأريحية التي كان يدير بها الأمور، ونظرته للمعسكر، نتاج تعوّد، يعززه أنه من شباب مكة، بكل ما يقال في "زهد المكيّ بالكعبة"، وعلاقاته في تلك البقاع، وما يتسم به شبابها من طباع. وعموماً أعتقد أن غياب جانب القدوة والحزم فيه أثر نوعاً ما على جودة الفريق وأدائه، رغم ذلك أودّه، وأدين له بالفضل بعد الله في مشاركتي في المعسكر.
نكتفي بهذا القدر .. ونكمل إن شاء الله في حلقات قادمة :)