معسكر الحج ١٤٤٠ ھ
الفصل الخامس والأخير
عوداً إلى الإرشاد ..
مشى الثلاثة: مجيد وحسان وعبدالعزيز، من معسكر هيئة الرياضة في منى، إلى أن وصلنا إلى محطة القطار. ركبناه، وكانت تذكرتنا المنديل الكشفي، متجهين إلى عرفات. فوصلنا إلى المحطة، وقد ألمّ بنا شيء من الجَهد في هذه العملية، آخر مراحله أن اضطررنا إلى القفز من فوق بوابة عالية مغلقة، قد اعتلتها أطراف مدببة كالأسنة، نجونا بحمدالله بلا إصابات .. تذكر.
كنا قد أشعرنا شباب جوالة البترول بأننا سننضم إليهم، وقد نسّق نواف الحربي -قائد الفرقة- مع قيادة معسكر عرفات، وأخذ منهم الإذن بمشاركتنا معهم. تحرّقت شوقاً للقاء الشباب، فقد غيّبت الأيام وفرقت بيننا لعدة أشهر، وكنت أتابع بشغف عملهم وفعالياتهم على السناب. والظروف كلها ذات شجون: جوالة البترول، في معسكر عرفات، في ليلة عرفة، فالزمان والمكان والأشخاص.
وصلنا، وكان الشباب مصطفين قاطرتين خارج المعسكر، غير بعيد عن بوابته.
اللقاء كان أبرد قليلاً مما توقعت ههههههه، لكنه لم يخل من دفء. وعذرتهم لمّا علمت أنهم عادوا لتوّهم من زيارة لمركز الإرشاد، وقد راجعوا أدوارهم فيه للمرة الأخيرة، وأخذوا جولة واستراحة تهيؤ، لليوم الكبير، غداً يوم عرفة.
تعشينا معهم في مطعم المعسكر، ودارت بيننا أحاديث عفوية قصيرة، لم تخلُ من هياط ومقارنات بين أوضاع المعسكرين: معسكر الجمعية الكشفية ومعسكر هيئة الرياضة، والإمكانات المادية بينهما. عدنا للمهاجع، وكانت الغرفة المجاورة لهم قد أخليت بعد خروج نصف فرق المعسكر للتفويج، صلينا العشاء، واستعدّ أكثرنا للنوم، وأقلنا للبلوت، على وعدٍ بعدم السهر.
استيقظنا فجراً، صلينا، أفطرنا على عجل، ثم انطلقنا لمركز الإرشاد الشامل، القريب من جبل الرحمة.
كان أول ما لاحظت أنّ الوصول والدخول من باب مركز الإرشاد صعب: فهناك خندق مائي يحول دون الوصول، اجتهد أحدهم قبلنا فنثر أحجاراً وراكمها وسط البركة ليخطو عليها من أراد العبور. الوضع الحالي كان سيعجب فرقة كسولة، ولا أخفي القارئ سراً أن هناك كثيراً ممن يفكر بهذه العقلية: "لا يجون الحجاج، أريح، ما بيدنا شي والخطأ ماهو خطأنا". لم يعجبني الوضع هذا، فتحركت والشباب وجمعنا من فناء المركز قطعاً من طوب بناء، ثم جيء -لا أدري من أين!- بباب خشبي كبير، مددناه كجسر، وأسندناه من الأسفل بالصخور -جامعة مهندسين يا حبيبي!-، فكان الحل النهائي والمثالي للمشكلة. والآن يمكن للحجاج -وكثير منهم كبار في السن ومنهم مقعدون- أن يصلوا بسهولة للمركز، فالحمدلله.
كان شباب جوالة البترول على قدر عالٍ من التنظيم والكفاءة، ولا عجب. ولم يدّخروا جهداً في العمل، حتى في أصعب الأوقات، حين هبّت عاصفة مطرية شديدة في آخر اليوم.
أولئك قومي بارك الله فيهمُ
على كل حالٍ، ما أعفَّ وأكرما
وبينا أنا أنظّم الحجاج الجالسين، إذ بي أراهم يدخلون المركز. لم أصدّق عيني ابتداءً، أهم أهم؟! إي والله!
كانوا أصدقائي الحجاج الجزائريين الذين أوصلتهم أمس في منى لمخيمهم في أعلى الجبل، وأكبروا عملي جداً وتصوّروا معي. (قصتهم في التدوينة الثالثة)
ما احتمال حدوث هذا؟
أعني: من بين كل الحجاج، ومن بين كل مراكز الإرشاد، ومن بين كل الأوقات -إذ لربما كنت خارج المركز آنذاك- قُدّر لنا لقاء!
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا!
وعجباً لي وإياهم من شتيتين ههههههه
ولكن احتمال ضياعهم يزيد، إذا تذكرتَ حملتهم البائسة، حسبنا الله ونعم الوكيل.
قفزت إليهم وسلّمت عليهم، ولم أدرِ أينا كان أكثر سروراً بمرأى الآخر.
قلت للشباب هؤلاء معي، أنا أوصّلهم. أخذت موقع مخيمهم، وكان في المنتظرين حجاج من جزر القمر، ومخيمهم قريب من مخيم من معي، فانطلقنا راشدين.
وفي الطريق مررنا بثلاث حاجّات من الجزائر، لم يكن كبيرات في السن، وقد بلغ بهنّ التعب والجَهد أقصى ما بلغ، ضائعات من عدة ساعات، وكنّ على وشك الانهيار! رأيت رقم الحملة، فعلمت أنها ليست بعيدة عن حملة من معي، وهي على الطريق نفسه. فرفضوا المجيء ابتداءً وقالوا اطلب لنا سيارة، فقلت لا أجد والله ما أحملكم عليه، لكن امشوا معي، واصبروا، وأضمن لكم أن تنتهي معاناتكم هذه. وافقن على مضض، وكانت إحداهنّ شرسة للغاية، وأحمد الله أن حلّاني بصبر جميل على الحجاج، وكنت أترفّق بهم ترّفقاً لا أحسبه إلا تيسيراً من عند الله، رغم ذلك أعيتني الحاجّة لكثرة تسخطها، ورغبتها في ترك الركب، وتحريضها اللتين معها على ذلك، وقد انفجرتْ لمّا علمت أنني سأوصل الرجال الذين معي قبلها! وما كان ذلك لأني أخذتهم قبلها، ولا كان ذلك محاباة، ببساطة لأن مخيمهم قبل مخيمها وفق الطريق الذي نسير فيه. لكن طريقنا كان التفافاً، فيظهر أنّ مخيم النسوة أقرب إزاحةً، لكن يحول دون الطريق القريب مواقف حافلات مرتصة، متاهة ضيقة الممرات وخانقة بعوادم السيارات. فاستاءت لاختياري الطريق الأبعد، ولتقديمي أحداً عليهم. وهنا استعنت بصديقي الحاج الجزائري، "الجنرال" شكور ههههههه، قلت له: تكفى فهمها، ودعها تثق بي. ففعلاً حادثها بلهجتهم، وأشار إليّ إشارات التفخيم والتعظيم، وذكروا ما وقع لي معهم بالأمس، وكيف أنني حاذق في الصنعة، فيسّر الله واقتنعتْ! وأكملنا المسير. أوصلت رفاقي، فكان لفراقهم الحرارة نفسها، وقلت لهم: أسأل الله أن يجمعنا وأن نلتقي على خير، وأنتم لستم ضائعين هههههه. ثم أوصلت أهل الجزر القمر، ثم أوصلت النسوة، وقد اعتذرن منّي عمّا بدر من فظاظة، لكن لم أكن والله أعبأ بشيء من ذلك، كنت حريصاً على إيصالهم، وكانت الفرحة بوصولهن أكبر، والحمدلله.
ثم وأنا راجع للمعسكر، اعترضتني حاجّتان مصريتان، كبيرتان في السنّ، وفيهما بدانة. واستحضر معي صورة الأم المصرية الحنون الماكرة في الأفلام والمسلسلات هههههههه
طلبت منّي إحداهما أن آخذهما إلى جبل الرحمة. فنهيتها وقلت ستضيعين يا حاجة، ومن يرجعك إلى مخيمكِ؟ قالت لي الله سبحانه وتعالى، (يا لييل، ونعم بالله! لكن ..!)
فأصّرتْ، فأعدتُ، فاستاءت وعبست وبسرت، فألحّتْ، فحننتُ ورضختُ -يا خفيف!-، ودفعني لذلك ذِكرُ أنها حاجّة، وما تعنّته للوصول لهذا المكان، وحرصها على العبادة.
قلت سأوصلكما، وسأعطيكما خريطة عليها مسار عودتكما -وشجعني على ذلك أن أكثر من ٩٠٪ من طريقهما مستقيم، بل عبر طريق واحد، وقلت إن تهتما -لا قدر الله- فمرّا أقرب مركز إرشاد، وسيساعدونكم إن شاء الله.
فتهلل وجه الحاجة وابتسمت أعرض ابتسامة، وقالت لرفيقتها: "شوفتي .. قلت لك إن ربّنا هيسخر لنا حدّ يساعدنا وياخدنا لجبل الرحمة، أهوه، الحمدلله يا رب!"، ثم أعطتني من الدعوات الطيبة، وانطلقنا. وفي عرفات، تجد عادة شاحنات تتوقف في مناطق مختلفة لتوزع على الحجاج عصيرات، ماء، آيسكريم. وكان من حسن حظ الحاجة -وسوء حظي- أننا مررنا بعدة شاحنات مثل هذه، كانت تتوقف عندها الحاجّة لأخذ ما لذّ وطاب ههههههه، لكن اسمحوا لي أن أثنيَ على براعتها الشديدة في استلال ما تريد من وسط الحشود، وقد حرصتْ أن تعطيني من الغنائم، وافقت بعد إلحاح تطييباً لخاطرها على عصير ندى رمان :) . تمّت هذه المهمة بنجاح، فأوصلت الحاجة إلى جبل الرحمة، وأرجو أن تكون قد عادت لمخيمها، وأتمت حجها بسلام وقَبول.
واصلنا العمل في مركز الإرشاد الشامل، وكان من أصعب المواقف وصول عدة أفواج تباعاً من حجاج عرب -معظمهم مصريون- يسألون عن مخيمات الجزارين. أين هذه بحقّ ما له حق؟! فليس معهم أساور، ولا أي معلومة تدل على الموقع. بعضهم كان يقول على الدائري .. الدائري يدور من الخارج على عرفات كلها! هههههه
حاولنا قدر استطاعتنا مساعدتهم، بعضهم كان يخرج ليدبّر نفسه.
لكن في منتصف النهار تقريباً، اتصل أحد التائهين بشخص في المخيم، وأعطانا العنوان، فدللناهم عليه ورسمناه على الخريطة -إذ كانوا جميعاً رجالاً مستصحين-، وكفى الله المؤمنين القتال! فلا تخلو مواقف الحج من مفاجآت وتحديات، مهما أعددت.
كان من المقرر أن يتسلم زمام المركز بعدنا فرق جوالة أم القرى، فيكون بيننا وبينهم فترة تداخل، تنتهي بإجلائنا للمكان. لكني فوجئت حقيقة بسوء تنظيم شباب أم القرى وتخبطهم. أتدري ما أول قرار اتخذوه حين وصولهم؟ إغلاق أبواب المركز! والانتهاء من الحالات التي في الداخل -وكانوا يستغرقون دهراً لمعالجتها- ثم إدخال الحجاج من الخارج، رغم أن في المركز سعة ومقاعد شاغرة. وساءني أكثر: فظاظة بعضهم وقسوته في التعامل مع الحجاج عند الأبواب. فصحت بشباب أم القرى في الاستقبال، وسألتهم أين قائدكم؟! فالتفت وعرفته، وكان بيننا معرفة وحديث من العام الماضي، فهدئت من روعي وغيّرت نبرة العتب، وقلت له هذا الكلام مرفوض يابو حميد، ونحن معكم، نتعاون إن شاء الله في إدارة المركز. وأظن الأوضاع تحسّنت، المهم أنني واصلت العمل، حتى أن بعض شبابنا استغرب من وجود شخص نشيط ويشتغل من جوالة أم القرى، فلما التفت قال ما شاء الله عليك يا حسان! وذكرني بعدها مراراً باندهاشه هذا، يبدو بأنها كانت صدمة حقيقية هههههههه
يسّر الله لنا فعملنا حتى غروب الشمس، فتجاوزنا تطوعاً وقت الوردية المخصص بعدة ساعات، وإني لأستغرب الآن وأنا أستحضر تلك الأيام ما نشعر به أثناء العمل من نشاط وقوة. فالعمل متطلّب جداً نفسياً وذهنياً وجسدياً، ويحتاج إلى قدر عالٍ من ضبط النفس، ونحن لم نأكل وجبةً إلا الفطور، وبعض المفرحات والعصيرات من حين لآخر. توفيق من عند الله، الحمدلله.
عدت لمعسكر عرفات، وكان أكثر الشباب هناك، صلينا المغرب والعشاء، وحزمنا أمتعتنا، وودعنا الشباب على عجل، بعبارة "نشوفكم على خير .. نتقابل"، ففارقتهم وظني أننا لن يتيسّر لنا لقاء في المشاعر غالباً، لكن علامَ تطويل الوداع؟
خرج الثلاثيّ، وكان يجب أن نصل لمعسكر الهيئة في منى ونخرج منه قبل الساعة ٩ م من الليلة نفسها؛ إذ تبدأ ورديتنا رسمياً الساعة العاشرة، وتستمر ست ساعات حتى مطلع الفجر. (على الله!!). وصلنا بسلامة الله، وتأخّر قائدنا ماهر في الوصول (وكان خارج المعسكر)، وشفع له قليلاً إحضار العشاء، وإن كان لا يعذر. أما ما زاد الطين بلّة فكان تغيّب أحد أعضاء الفرقة، الذي خرج للهو ولم يعد (تخيّلوا!!). فدارى ماهر قادة المعسكر، وقال أننا سنعوّض التأخر والنقص بخدمة ساعة أو ساعتين إضافية (وكأننا نقدر!)، وكان حريصاً ألا يتأثر تقييم الفرقة فتحرمَ من المشاركة العام القادم. تيسّرت الأمور. ذهبنا للمركز، تعشينا، وقرر ثلاثتنا أن نغفو، وطلبنا من ماهر أن يوقظنا بعد ساعة/ساعتين، أو إذا استدعت الضرورة. وكنا نعلم أن الأمور مستقرة والأوضاع مستتبة في منى، فمعظم الحجاج في مزدلفة. أيقظنا ماهر متأخراً نوعاً ما، بعد ٣ ساعات ونيّف، عاتباً بشدة، رغم أننا قلنا له أيقظنا بالتي هي! وكم منّ علينا لاحقاً ووبخنا على تلك الراحة.
وكان من المشاكل التي برزت وصول عدد من الحجاج، من أهل المخيمات الجبلية، الذين كانوا بحاجة ماسّة للعربات. كان عندنا عجز منها، فانتظروا عدة ساعت ليصلهم الدور في التوصيل!
وفي ساعة متأخرة من الليل، وصل إلى مركز الإرشاد مجموعة من الحجاج المغاربة، ذكور وإناث، تائهون منهكون، يتقدمهم رجل في الثلاثينات تقريباً، وكان غاضباً، واحتدّ علينا في القول، ولستُ أذكر وجه احتجاجه بالضبط، أكان عتباً على أننا لم نضطلع بمهامنا ونوصلهم على طول مدة ضياعهم، أم أضلهم أحدٌ ممن حسبوه منّا، كأحد العسكر مثلاً .. لا أذكر.
لكن الواضح أنهم لم يفهموا أن دورنا هو التطوّع والمساندة، وأننا لسنا مسؤولين مكلفين، وهذا سوء فهم كثيراً ما يخطئ الحجاج الكرام في تصوّره، فيشتدّون في العتب، ويتهموننا بالتقصير، وفي مهام ليست في كثير من الأحيان من عملنا!
المهم هدأناهم، وعرفنا مخيمهم، وكان نائفاً. فقالوا لا طاقة لنا بالمسير، فضلاً عن العودة للمخيم ثم القدوم للرمي نهاراً والعودة مجدداً، فطلبوا أن يمكثوا عندنا سويعات حتى يطلع الفجر، ويرموا بعد الإشراق.
كانت الوردية هادئة، والمركز خالياً، فلم أمانع إطلاقاً. وأذكر أنني ذكرت ذلك لماهر، أو ربما كان في عداد النائمين وكلّفني بقيادة المركز؟ لست أذكر بالضبط.
فارتاح الأحبة الحجاج في آخر المركز، ومنهم من استلقى، ومنهم من غشاه النعاس جالساً. سار كل شيء على ما يرام، فواصلنا عملنا. حتى أتانا أحد القادة من المعسكر، كان دوره الإشراف علينا، وقد بدأت ورديته للتو، في أواخر وقت عملنا، وقد أتانا مستنشطاً، وألا ليته رقد! فبدأ ينتقد هذا وذاك، وما هذا التكاسل الذي فيكم؟! وكيف تسمحون للحجاج بالنوم في المركز! (وكأن المركز خلية نحل يتدافع عليها التائهون!)، لكن هذه مشكلة الحرفية في تطبيق الأنظمة، وعدم العمل بروحها، بمراعاة الظروف والمقاصد. وزاد الطين بلّة أنّه استاء من طريقة إدارتنا للمركز، فطلب أن يقف اثنان أو ثلاثة من الشباب عند الاستقبال، وواحد وراءهم له دور آخر، وهكذا .. مدرب محترف ما شاء الله، وتشكيلة منظمة، لكن .. الملعب خالٍ يا أستاذ! ألا ترى ما نرى؟!
وكان أن ترك أحد مستقبلي الحجاج موقعه ليقوم بدور آخر، فاجتازه أحد الحجاج وناوره ببراعة ودخل إلى منطقة الجزاء (المركز المحروس!). حدث عادي جداً وليس بالجلل، لكن لم يعجب ذلك المشرف، فاحتدّ في أوامره وزجر، أما نحن فطفح عندنا الكيل، فاحتجّ بعض الشباب بالإضراب عن الوقوف، وتركوه هو وبيروقراطيته العجيبة! اعتذر لنا عن تجاوزاته في آخر المناوبة، بعد أيش! :) .. طبعاً سلّكنا له وجاملناه. وعدّت تلك الليلة ويومها على خير والحمدلله.
وقد يسّر الله وأعان فاستمرّ عملنا ووردياتنا حتى منتصف نهار اليوم الثالث عشر، وقد خرج أكثر الحجاج من منى، وأتموا مناسكهم والحمدلله. وزامن ذلك أن خرجت وغادرت كل الفرق المعسكرَ، فلما عدنا رأينا العمّال بدؤوا -بل وتوسّطوا- في تقويض المعسكر، لحسن الحظ أننا حزمنا أمتعتنا قبل الخروج للوردية الأخيرة.
لم نتوانَ عن المبادرة في الخدمة، حتى آخر رمق. أما آخر وردية فكانت ملهاوية، كان أكثرها توزيع مرطبات (ماء وسفن آب) على الحجاج، ما شاء الله على مركز الإرشاد! وأتتنا حاجّة مغربية، معها إبريق، وتطلب ماءً مغليًّا لإعداد الأتاي :) .. لحسن الحظ كان عندنا غلاية، فزودناها بالمطلوب، أرادت أن تجاملنا فتسكب لنا شيئاً منه، فاعتذرت، وفي نفسي رغبة في تجربة الأتاي الأصيل، لكن كان الإشفاق من نفاده عليهم أعظم.
ولم تكن واحدةً، فقد كان مخيم المغاربة مقابلاً لباب مركز الإرشاد، فأتت بعدها بساعة حاجّة أخرى بكوبين حراريين، قد استوطن قاعهما وريقات شاي خضلة، وكان الطلب المعتاد: عندكم ماء مغليّ؟
وإنّي إذ أذكر تلك الأيام، وما منّ الله علينا به من خدمة للحجاج، وتيسير في ذلك، لأحمد الله كثيراً.
ويزداد شكري لله سبحانه وتعالى إذ أكرمنا بأن نرى أثر عملنا على الحجاج، في المواقف التي مررنا بها، وبما عبروا لنا عنه من شكر بلسان الحال ولسان المقال، رغم اختلاف الألسن والألوان. أذكر مثلاً أنني أوصلت مجموعة من الحجاج الصينيين (كانوا عشرة)، فلما وصلوا عقدوا اجتماعاً سريعاً، ثم أقبل أحد رجالهم ومعه خمسون ريالاً، أصرّ على وضعها في جيبي، فأصررت على الامتناع، وقلت له أن هذا عمل وواجب، فسلّم عليّ بحرارة، فسّلمت على رأسه، واحتضنني، وهذا أكثر مما أطلب والله.
كان يمكن أن تكون خدمة الحجاج جافّة، أداء واجب، ليس فيها ذكرى تروى أو موقف يستشعر، وما كان ذلك لينقص من فضلها، لكنني أستشعر لطف الله في أن لم تكن كذلك، فكان في ذلك لنا مكافأة عاطفية وجدانية، وخير تشويق للاستمرار في المشاركة والتطوّع في مثل هذا العمل الجليل. نسأل الله التوفيق، وأن ييسر لنا في قادم الأعوام، وأن يجعلنا من أنفع الناس للناس. تمت بحمدالله.