اقتصاديات منصات العمل الحر
د. عبدالعزيز الباتل
انتشرت في السنوات القليلة الماضية كثير من المنصات الافتراضية والتطبيقات الهاتفية التي تعمل على تقديم خدمات نوعية تقوم على إيصال طرفين، الأول طالب لخدمة معينة والآخر مزود لها. هذه المنصات تقدم خدماتها عن طريق أشخاص لا يعملون بدوام كامل ولا يوجد بينهم وبين المنصة التزام بالعمل وفق الطرق المعهودة. بحيث تمكن الأفراد من العمل لساعات معينة - مرنة - دون الالتزام بعلاقة عقدية، وسمي هذا النوع من العمالة بـ (gig workers). تمكن بذلك أي شخص من التسجيل في المنصة (التطبيق) والبدء في العمل وتحقيق الدخل المادي مباشرة.
وأول ما يتبادر إلى الذهن في العمل الحر؛ المنصات المقدمة لخدمة النقل والأغذية والبضائع.ومع مرور الوقت ونجاح التجربة، ظهرت على الساحة التقنية منصات تختص بتقديم خدمات نوعية أكثر تعقيداً. مثاله يوجد في الوقت الراهن تطبيقات تقوم على إيصال الأشخاص بالأطباء وتمكنهم من الحصول على استشارة طبية عبر منصة الكترونية تفاعلية، كما يوجد منصات تختص بإيصال أصحاب الأعمال "الشركات" بالعمالة الماهرة في اختصاص معين، كالمحامين، المحاسبين، المبرمجين، وغيرهم.
مثال على منصات عمل حر
جاءت جائحة كورونا محرك لمنصات العمل الحر بشكل كبير، حيث أن في قطاع الأعمال تمكنت الشركات من الوصول إلى عمالة ماهرة كالمبرمج، المصمم، أو حتى المحاسب في دقائق معدودة دون الحاجة إلى توظيف الشخص بدوام كامل للحصول على الخدمة. ومن ناحية الفرد نفسه، فقد تمكن من تنفيذ أعمال مؤقتة وسريعة في المكان الذي يراه مناسباً دون الحاجة إلى الارتباط بتعاقد طويل المدى، متمكناً بذلك تسخير حرفته بالتعاقد مع أكثر من عميل في وقتٍ واحد.
رد فعل أسواق المال
يظهر أن أسواق المال تفاعلت بشكل كبير مع تلك المنصات وجدوى نموذج عملها في الوقت الراهن، من ناحية أنها وجدت ملاذ جديد للإستثمار في هذه الشركات. الأمر الذي نتج عنه ارتفاع كبير في قيمة أسهم تلك الشركات وزيادة قيمتها السوقية. ومن المعلوم أن الإرتفاع في قيمة السهم لن ينتج عنه تعظيم العائد للمستثمر فيها فقط، بل سينتج عنه حراك إيجابي في التوسع في تقديم الخدمات ومزيداً من الاستحواذ، ,البحث والتطوير.
مثال على حركة سهم شركة فايفر من شهر أبريل
ماذا عن سلوك المستهلك؟
تفاعل المستهلكين بشكل كبير مع هذه الخدمات خلال الجائحة. تشير الأرقام إلى تحول سلوك المستهلك نحو الاعتماد بشكل كبير على المنصات الالكترونية لشراء الأغذية، المستلزمات، والكماليات بشكل ملحوظ. في الولايات المتحدة على سبيل المثال كان الطلب عبر المنصات الإلكترونية يرتفع بمعدل 1% سنوياً، ووصل إلى 15% من إجمالي مبيعات التجزئة قبل جائحة كورونا. ثم جاءت كورونا مختصرة سنين بأسابيع، حيث خلال 8 أسابيع فقط ارتفعت نسبة الشراء من الانترنت ليلامس حاجز الـ 30% من إجمالي مبيعات سوق التجزئة.
توضيح لنمو الطلب على مبيعات التجزئة عبر الانترنت
نظرة على نموذج العمل الحر
الفرق الجوهري في نموذج عمل الشركات والمنصات الالكترونية أنها لا تحتاج إلى نفس الكادر البشري لتنفيذ أعمالها، حيث أن المنصات لا تحتاج إلى توظيف الأشخاص بدوام كامل أو تلتزم بمنحهم رواتب ثابتة وتأمين طبي والمزايا الأخرى المصاحبة للعمال بدوام كامل، بل تتعهد فقط بإيصال طرفين مقابل عمولة (نسبة) من إجمالي الأجر. وهذا التباين في آلية الاستعانة بخدمات العاملين سيوفر الكثير من المال على المنصات ، الأمر الذي يمنحها ميزة تنافسية لا تملكها الشركات الأخرى. نذكر منها على سبيل المثال العلاقة العقدية بين شركة أوبر وسائقيها.
يبدو أن السوق متجه أكثر نحو العمل الحر عن طريق المنصات أو عن طريق التعاقد المباشر بدلاً من التوظيف التقليدي. وما يحدث في أوروبا وأمريكا خير شاهد، حيث أن في أمريكا يوجد نحو 57 مليون شخص عامل حر في عام 2019م، مساهمين بنحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي.[1] هذا الرقم ليس بالقليل وبالتأكيد سيرتفع بشكل ملحوظ في العام الجاري والأعوام القادمة مع تغير سلوك المستهلك وثقة الشركات بالاستعانة بالعمالة الحرة لتنفيذ الأعمال. في المثال أدناه إلى نتائج دراسة خالصها توقع نمو الطلب على العمالة الحرة بالشركات في مجال الصناعة، الخدمات المساندة، وغيرها.
وفي سوقنا المحلي، فإن القطاع لا زال ناشئاً ومن المتوقع أن نرى مزيداً من الاعتماد على تلك المنصات. وفي الوضع الراهن نجد غالب الخدمات المنتشرة المقدمة لهذه الأعمال تعمل في مجال الأغذية، والنقل، والمطاعم وغيرها من الكماليات ، أي خدمات بسيطة. والسوق بإمكانه استيعاب خدمات أكثر تعقيداً عبر العمالة الحرة، والطلب على خدمات المنصات الأكثر تعقيداً موجود ، ويتمثل في الحافز للقطاع الخاص بخفض التكلفة ورفع الكفاءة. ومن المتوقع في القريب العاجل أن نرى تحول في سلوك المستهلك -سواء فرد أو شركة- نحو الاعتماد على منصات تقوم على إيصال الأشخاص بالأطباء والمحامين والمصممين والمبرمجين وغيرهم من المختصين، لما أن سلوك السوق السعودي يعد متبنياً للتقنية وسباقاً إليها.