أشياء باتت تُشترى
الخلاصة، أننا نُحب الأشياء الجاهزة، التعليبات المزخرفة، الكلمات الرنانة، الهالات الوضاءة، القصص الجاهزة الملهمة ولو كانت تفتقر للدليل والصحة. ونحب أن نشعر بالعلم والمعرفة، فلا تخفى علينا خافية ولا تفوتنا تفسيرات المعارك الحامية ونستمر بمعرفة المستجد والذي ولّى وتم هجرانه. أن نتحلّى بالنبل والصبر والذكاء والفطنة والشخصيات المبهرة؛ بلحظة واحدة، بفترة زمنية قصيرة. الخلاصة أننا بشر تحت مؤثرات هائلة وحياة تضغطنا وتؤلم أيادينا الضعيفة ونفوسنا الحائرة، بأن نصبح أقل صبرًا وأكثر بحثًا عن النتائج السريعة المذهلة. الخلاصة أنه بذلك اختفى الفنان الذي يقضي شهورًا ليكتب معزوفته، والجميلة التي تحافظ على بشرتها من عوامل التعرية المتطلبة للمقاومة، والكاتب المعتزل رفاقه ورفاهية أيامه ليؤلف عمله الخالد الذي يحتاج لمجهودات فائقة، بذلك اختفت الأم المربية والأب المعطاء والصدور الوسيعة الصابرة. صار الفنان هو الصاخب بكلماته المبتذلة الرخيصة الفارغة، وباتت الجميلة هي التي نحتت أنفها في كوريا ونفخت شفتيها في أميركا ونظفت بشرتها عند خبيرة التجميل شمال سويسرا وسحبت دهونها المترسبة بسبب إهمالها بإبر مخدّرة، أصبح الكتاب الأكثر مبيعًا مجموعة تغريدات، أو ثريدات مسروقة.. عفوًا “مستلهمة” من ويكيبيديا، عفوًا هذا الكاتب لا يودّ العناء والبحث في ويكيبيديا رغم سهولته وعدم ضمانته؛ بل عقله دليله ومشاعره فتواه ولو أفتاه الناس وأفتوه. الأم هي المربية بأجر ساعة، والأب هو دار الحضانة والجد الذي يرعى أحفاده، وصاحب البال الطويل هو الذي يفعل لأجل عميله أو مديره.. البقية يمكن استبدالهم تحت أدنى ظرف وأي عقبة مفاجئة.
عندما أحاول استيعاب الحال، أعجز. لأنني أيضًا أعجز عن البحث عنه وتأمله بعناية والقدرة على تحليله. أرغب بحلول جاهزة وتحليلات مباشرة. نعم، لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويكثر الجهل، ويحل الهرج ألا وهو القتل. وفي آخر الزمان أيضًا يكثر المال فيفيض. ويتخذ الناس رؤساء جُهّالًا فيُسألوا فيفتون بغير علم، فيضلوا ويُضلّوا. هكذا ورد عنه ﷺ وهذا ما يحدث.
أكتب هذه التدوينة بعد نقاش صغير مع صديق أُحبّه، يدفعني للأسئلة وأُدفع بها للبحث عن إجابة، كان النقاش شكوى “كل شيء أصبح يُباع”. صديقي مُخطط عمراني على مشارف بداية المهنة، ولأن الحياة تنافسية.. هو يشمئز من التظاهرات المعرفية في “ثريد” يكتبه طالب التخطيط الجاهل، للعامة، عن أرصفة الطريق المخالفة باعتبارها مأساة إنسانية وكارثة وجودية. الكل يعرف هذا، والعامة يظنونه بخطابه التافه: مُدركًا لشؤون التخطيط والعمارة. نعم، يحصل بقدرته على الاستعراض -رغم جهله البيّن- عقودًا مربحة بأموال طائلة، يثير الإعجاب ويحصد الأرقام وترتفع أرصدة حساباته البنكية والمكانيّة بمتابعيه العامّة. ويتخذوه رسولًا. ويعلم في قرارة نفسه التي لا تظهر؛ حماقته وجهله وقلة معرفته، لا أحد يعرف هذا سواه والعالم بمهنته. حالة صديقي لا تقتصر على التخطيط والعمارة، وليست شاذة. هي متفشيّة وصارخة وزخمها صعب المواجهة. يضيف: أودّ أن أكون معهم، أضاهيهم وألحق الركب قبل أن يسبقني ويفوت. أتدارك أيامي المتأخرة وأبدأ البيع؛ بيع السطحية. المستغرق بعمله، والباحث حقًا عن حقيقة، الساعي للعلم والمعلومة، لا مكان له إن لم يبيع ما يرفع اسمه لدى العامة.
توقفت لبرهة وإياه نبحث عن إجابة، المثال ينطبق علي في كل الأحوال، وصلنا إلى أن الناس تقدر الأصالة، وهناك من يحترم العلم حتى قيام الساعة، وقبل هذا.. الشعور بالرضا عن النفس لا تساويه ولا تساومه أي معادلة. نعم الجهد أكثر، والحياة تتطلب، “والله ما يضيع جهد أحد”.
الجمال، العلم، الفن، الأصالة، التاريخ، التربية، الثقافة، الصحة الصحيحة، الحرية، الرضا والطمأنينة، أشياء لا تشترى.