يوم الميلاد

أشاهد هذه الصورة، وأعجز عن إخفاء الإعجاب بذلك الطفل. الغاضب، الهادئ، التي ترسم عيناه لمحة مما يُبطن داخله. تبدلت الملامح سريعًا منذ ذلك الحين، تبدلت كثيرًا من الأفكار التي انطلقت من إملاءات أُطعم إياها وأُلقّن، إلى استقلالٍ غير تام يمنحني مساحة أكبر وأرحب من الفكر والتدبر. تبدلت العبارات التي أحفظها، والمرجعيات التي أتبناها وأنطلق منها؛ ولكني برغم هذا.. كبرت وذاك الطفل لم يكبر.

لم أحتفل طوال حياتي القصيرة، الحافلة، بيوم ميلاد. أسرتي لا تحتفل استنكارًا لمفاهيم الغرب الفاسدة، واتخاذ عيدًا غير الأعياد التي منحنا إياها الله؛ عيدي الفطر ويوم النحر الأكبر. معظم الأسر في مدينتنا، وفي ذلك الزمان، تستنكر الفكرة فضلًا عن الاحتفال بها.  ولأنها كذلك، لم أسأل عن يوم ميلادي إلا في أواخر المرحلة الثانوية إذ احتدمت نقاشات الأكبر بيننا عمرًا داخل فصل المدرسة. ومع ذلك، استبدلت الهجري بالميلادي وأخطأت وحملت هذا الاعتقاد بأني من مواليد ٢٤ نوفمبر حتى فترة قريبة بعد استدراك ذلك عندما سألني موظف السفارة عن جواز سفري الذي خالف يوم ميلادي الذي ذكرت. في بيئة كتلك، لم يعنيني الاحتفال أصلًا وأعتبر من يمارسه إنما يمارس ضربًا من ضروب التفاهة والتقليد الأعمى ومضيعة الوقت التي سيُسأل المرء عنه فيما أفناه. 
اعتدت أن أُجاري مفاهيم الانفتاح وأسير معها إن أتت، تفتح لي آفاقًا من الفكر واتساع الذهن لرأي آخر يحتمل الصواب. حينها، استوعبت أن الاحتفال أقل تعقيدًا من الذي أتصوره، وأنه وسيلة يفعلها الناس للمزيد من مناسبات الفرح والرفاه ولحظات الأيام السعيدة. يوم الميلاد يجمع الأصحاب وتُقدم به الهدايا ويتذكر فيه أصحابه أيامهم الأولى ويسخرون. يوم الميلاد محطة نتوقف بها لإدراك ما فات، وتقدير ذواتنا على ما فعلنا والأيام التي تجاوزنا، محطة يُشكر فيها الإله على ما أنعم به علينا من وفرة وأمان، وإلا من العاقل الذي يحتفل بقرب موته؟

أعود مجددًا لذلك الطفل، الذي لم يصبح طفلًا بعد؛ اليوم قانونًا ووفق معظم أنظمة العالم الحديث: أنا كامل أهلية. عمري ٢١ سنة ميلادية. 

يؤسفني عدم مقدرتي لمشاركة الحكمة التي منحتني إياها الحياة، وأن أكتسب ذاك الشعور بالمنح بعد عناء. لم أُعاني، لم أفقد والديّ ولا إخوتي، لم أجوع يومًا بسبب عوز الحاجة والفقر، لم أفقد عضوًا في جسدي يعيقني عن الحركة، فقدت نصف النظر ولبست النظارة ولكني لم أفقد عين واحدة، آلاف الخطايا التي ارتكبت لكن معظمها كان دون مرحلة الأهلية، لم تتبدل مبادئي الثابتة ولو فعلت الذي يخالفها، لم أرضَ المهانة ولو كان تعرضي لاختباراتها ليس بتلك الصعوبة، لم أُشرّد ولم تحدث كارثة تدخلني دوامة اكتئاب أكتب بسببها رسالة انتحار. لم تكن الحياة بتلك الصعوبة التي قرأتها في روايات دوستيوفسكي وتشيخوف، أو ربما لم أُقبل عليها بعد. 

وُلِدَ في مثل هذا اليوم

أخجل دومًا أن أقول، ولكن لطالما شعر ذلك الطفل بداء الكمال ورغبة بلوغ العظمة. هناك مساحة فاصلة بين السعي الحثيث وفق المستطاع، والمثاليات الزائفة. بين عيش اللحظة، والقلق لما سيحدث بعدها. بين الرغبة بالتعلم، وزعم المعرفة. دومًا هناك متسع للخطأ والزلل والنسيان والتقصير وتحقق الخيبة. لم تكم الحياة صعبة، لكنها لم تكن وردية أُطعمت بها من معلقة الذهب. فكانت محاولات بلوغ المرام بين جماعات الأطفال والمراهقة، تؤتي ثمارها. ولّد ذلك الشعور مثالية مصطنعة سرعان ما انكشفت وتبيّنت في أول رسالة رفض، تلاها سخرية، لحقتها رسائل كثيرة تحمل اعتذارات مصطنعة فحواها عدم تمتعي بالمواصفات اللازمة لرجلهم المرغوب. أبعد من ذلك، هو الرفض الذي لا يساوي ما قبله شيئًا أمامه، أن تشعر بأنه غير مرغوب بك ممن رغبته وأقبلت إليه. تلك الفوّهة جرحت القلب الذي آمنت بقوته وصلابته، وتظاهر أمام نفسه وغيره بالثبات وقت الخيبة. الحقيقة، أنني في غرفتي الصغيرة بالجامعة.. أغلقت الباب أيامًا كثيرة وجهشت بالبكاء، بصمت. أذهب للاستحمام لأخفي دموعي باعتبارها خليط ملح وماء. 
بدأت دراستي الجامعية بعد رحلة تعليم جادة ومكافحة، كنت الأكثر اجتهادًا دون منازع. حصلت على الدرجات التي تؤهلني لكل شيء حلمت به. حققت المراكز الأولى وطربت لها. وفي قرار صعب يحدد مسار الحياة لكثير، اخترت القانون طمعًا بالعدالة. كان الخيار الأكثر وحشية وجرأة. كما قلت، رغم واقعيتي، خيالاتي الواسعة خذلتني في مواقف كثيرة. أعزي نفسي: هذي المقبلات والجاي أكثر. يبدو من المريح أن تتعرقل الآن لتتماهى مستقبلًا مع عثراتك الأكبر. 

في مراحل مبكرة، ومتأخرة، قرأت عشرات وربما مئات القصص؛ عظماء التاريخ، رجال النهضة، أساطير خلدها الزمن، كفاحي وأيام من حياتي والسير التي لا تتوقف لأولئك الذين أخذوا شُغاف قلبي وحصلوا على جل اهتمامي. تخيلت كثيرًا أن أكون منهم. لا بأس أن أسير سيرهم الصعبة، وأعيش وعورتها. لكني كنت أرغب فضل الأنبياء وأعيش حياة المرفهين. وهذه معادلة خاطئة، رغم معرفتي بأن النعيم لا يُدرك بالنعيم. الآن أُقاوم هذا يأس الحقيقة وأُحاول. 

قضيت ميلاد العشرين وحيدًا بعد استقالة عمل أخذ مني الكثير وحققت معه أكثر، في مطعم هادئ وأنيق ودفترًا أسكب فيه العبارات التي ضاق بها صدري لأخطها على ورقة. كتبت أحلامي وراجعت أفعالي، وقدمت لنفسي مائدة طعام لذيذة أكرمت بها أحمد الذي أُحب.
في الحقيقة لم تصلني دعوة احتفال، ولو وصلت ربما كنت الطرف الذي يرفض. وفي هذا الميلاد، وبعد سنة من الاستقالة، أبدأ عمل جديد أنا ربّه. هذه المرة خفضت سقف توقعاتي ترقبًا للعثرات القادمة. تقليل التوقعات أمر جيد بالمناسبة، مع الناس وفي العمل وحياة الفرد التي تخصه. التفاؤل مطلوب، والله عند ظن العبد فليظن بربه ما يشاء. ومع ذلك، أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.

تبدل أصدقائي كثيرًا، ربما أعجبتني هالة أحدهم التي خلقها لنفسه، أو ذكائه وحذاقته، أو كانت كتاباته وعلاقاته الواسعة.. لم يدم أيًا من أولئك، ولا أحمل بنفسي لومًا على خسارة أيًا منهم. الذي بقي وأطمع بدوام صداقته وقربه ومحبته؛ من اقترن لفظ “صديق” بصدقه. صدقه بأن لا يخدعني، وألا يكيد مكائده، أن يكاشف مكاشفة المحب المُلاطف، صدقه بأن صداقته كانت لأجلك أنت لا طمعًا بما لديك وما تملك. صدقه بأن يقبل عليك لأنك أنت أنت بدون زيفك أو مظهرك. وكان أولئك الأقرب والأدوم ولو درست في الرياض وعشت حياتي في بريطانيا وأهلي في القصيم.. وهو يقضي حياته في الشمال الأفريقي ويسترق من إجازته لنلتقي. أو كان أحدًا لم نره يومًا ويعيش خلف الهاتف. 

دُمتم بودّ..

Join