الحب والعلاقات عند ابن حزم
الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد
ابن حزم الأندلسي - طوق الحمامة في الألفة والآلاف
سأل صديقي عبر حسابه في انستقرام “مين الحبيب؟” وأشار بالاختيار ببيت أبي تمام الذي شاع وخلد وتحركت عند ذكره الأشجان وعادت بسماعه ذكريات من غادرنا من الأحباب:
“نقِّل فؤادكَ حيثُ شئت من الهوى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ”
وبين رد الأصبهاني عليه:
“دع حبَّ أول من كلفتَ بحبِّـهِ
مـا الحبُّ إلا للحبيبِ الآخرِ”
جاوبته: الحب ليس للأول ولا للآخر، الحبيب يأتي عندما نقرر بداخلنا أن الأول هو الآخر، أو الثاني أو العاشر هو الذي نسعى للخلود معه. تلك اللحظة التي نشارك بها المحبوب حبنا إياه، نطلب قربه ولقاءه والبقاء معه، اللحظة التي نشتاق إلى أحاديثه كما نشتاق إلى رؤية حُسن وجهه وعدد الحبوب البارزة على وجنتيه. اللحظة التي نتمنى بها، ونسعى بجدية دون مراوغة ولا أفاعيل كاذبة وحيل مكررة لأن يصبح هذا الذي معنا اليوم.. معنا إلى الأبد. وعندما يتجاوز العقل والمنطق عاطفتنا الثائرة ومشاعرنا الصحراوية الجافة الفارغة، حينها يمكننا الحب على أحسن وجه وأكمل صورة وأنقى علاقة.
بعد النقاش القصير الذي خضناه، قرأت الجوهر الموجود والمرجع الأثير المكتوب (طوق الحمامة). فعرفت به أحوال الحب وأوصافه وعددًا من أخبار من خاضوا غماره، أذكر بهذه التدوينة بعض من الأجوبة التي ذكرها ابن حزم لبعض سؤالات الحب اليوم، بقليلٍ مخلٍّ لا يُغني ولا يروي الظمآن المتلهف. القليل الذي آمل به أن يندفع القارئ للبحث عن وقراءته، وأن ينعم عليه خالقه بأن يحظى بحبٍّ نزيهٍ ينسيه سالف زمانه، وأن تحفّه وتضمّه أحضان المحبوب، فتنفض غبار أوجاعه وتزيح المآسي عن أيامه. أتذكر الحوار السينمائي البليغ أثناء عودة المحامي ذائع الصيت الممتلئ بكدر قضاياه وعملائه وإخفاقاته التي قد تراكمت عليه، إلى بيته، يفتح الباب برفق ليقرر قضاء ليلاه الحزين وحده.. تداهمه المحبوبة منتظرة إياه ومترقبة، تتبعها لحظة صمت وقبلة طويلة.. ليت العالم توقف حينها؛ ارتشفها بعنف هادئ وأضاف: “قبلة واحدة منك أشعرتني بأن العالم بأجمعه لا يضاهيك ولا يجرؤ على مجاراتك، أنا ممتن لهذه اللحظة، أتمنى استمرارها حتى الأزل”.
إثم الحب الذي يستحقه أهله
لا تبدو عبارة الحب وفعله وأصحابه، إلا أهل هوى عُمي على قلوبِهم وغُشي على أبصارهم وانحلت أخلاقهم وغابت عقولهم عن جناية فعلتهم.. عند كثير. اليوم بدأ يخف وطء العبارة وتتحسن سمعتها وتُدْرَك حقيقتها ومعناها السماوي الذي نشأ مع الإنسان عند بروز معالمه، فهو يحب أمه التي أرضعته ووالده الذي أكرمه ويكبر ليميل قلبه تجاه من عاشره ورافقه وتستمر بذلك دورة الحياة التي سخرها الله. وهو “ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية وغيرهم”.
ويخبرنا الأندلسي أيضًا عن علة الحب، وأيهما الحقيقي الذي يُرجى منه الدوام والمؤقت الذي يذهب مع الأيام، فهو يصفه بأنه“اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع”.
ويضيف على وصفه إجابة أخرى على من اتخذ معيار الجمال والصورة دافعًا للحب وأصلًا له وأي العلل الحقيقية المؤدية لاستقراره ودوامه “فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة. وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولى مع انقضائه”. فكان بذلك السكينة التي تتحقق مع المحبوب، والطمأنينة التي تملأنا بجواره وصحبته، والخوف على غيابه والشوق الدائم إلى لقائه واليقظة الدائمة المترقبة لحضوره، هي الأصل الثابت وغيرها زائف لا يدوم.
وهذه الأحوال التي تدفع القلب إلى ميله إلى غيره، ميلًا مؤقتًا غير دائم:
“ومحبة القرابة، ومحبة الألفة، والاشتراك بفي المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان علييه، يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ماذ كرنا من اتصال النفوس؛ فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها. حاشا محبة العشق الصحيح الممكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت”. لذا كانت تلك الصور المحزنة والأحداث المخجلة التي عندما انقضت حاجة المحب من حبيبه غادره غير آسفًا عليه، معاملًا قلب من منحه الأمان والثقة وخالص محبته على أنه مادة تنتهي بنهاية صلاحيتها اللي حددها دون علمه، تلك الصلاحية التي يتعامل بها مع أحذيته وحقائبه وممتلكاته. فإن أصابته ندبة غيرت من معالم حسنه هجره، أو فارقه لخسارة بمال جاء إليه لأجلها، وغيرها مما كتب عليه الفناء في لحظة لا يعلمها غير القيوم الذي عنده مفاتيح الغيب.
من أحب لأجل الشكل والمظهر
في القطعة السابقة ذَمّ كاتبنا من أحب لأجل الصورة وحسن المظهر، إلا أن الأندلسي يؤكد على حقيقةٍ قد جُبل القلب وابن آدم عليها، وهي الميل الفطري للجمال وأهله واستحسان البديع من خلقه سبحانه والاقتراب منهم والتودّد لمجاورتهم ”وأما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة”. فهو برغم تأكيده واعترافه بالميل الطبيعي لبديع المصنوع وبهاء تصويره، فإنها تظلّ محبة ناقصة قاصرة غير تامة.. لا تصح إلا بتكاملها مع غيرها من الصفات التي يحبها المرء بخليله ويحبّه لأجلها فتحصل الديمومة. وإلا كانت من دواعي الشهوة والحب الخائب.
من أوقعت خمسة بغمزة
“فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة الصبر، ومُخبرٌ بسرعةِ السلوِّ، وشاهد الطرافة والملل. وهكذا في جميع الأشياء أسرَعُها نموًّا أسرَعُها فنَاءً، وأبطؤُها حدوثًا أبطؤها نفادًا.
ومن الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المخافتة وكثير المشاهدة وتمادي الأُنس وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت، ولا يحيك فيه مرّ الليالي، فما دخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا، وهذا مذهبي”. هذا الكلام لا يكتبه غير المدرك المستبصر، والعالم المجرب المشاهد، ويعرفه كل من اطلع على أحوال من حوله ممن خدعتهم بدايات اللذة وسراب أحلام اليقظة والكذب على النفس بلقاء فارس الأحلام المنقذ من شقاء الأيام. اندفاع عجيب تحركه الغرائز غير المشبعة وتدفعه المظاهر المتبخترة، ويضِلّ الناس بأوهام هذا الحب اللحظي الذي كتبت نهايته قبل بدايته. ولعمري أن ما وصفه الأندلسي بأنه مذهبه لسائر على معظم الأشياء؛ الحب والمال والعلم والديانة؛ فلا حدثت ثروات الأغنياء بين ليلة وضحاها، ولا حُفِظت الأسانيد والمُطوّلات وانتقل العلم من الحفظ إلى الأثر الظاهر بحلقة دراسة، ولا تبدّل ظلام القلب إلى ضياء وأنوار بسجدة واحدة قبل السحر؛ وإنما تأبى تلك الصفات والأحداث العظيمة أن تستقر إلا بالصبر والمدوامة وطول الانتظار، فهي خيرٌ وأبقى. وقال الافرنج عبارتهم الشهيرة بمثل هذا "Easy Come, Easy Go”.
من ارتاح لصوتها وكتابتها
في مجتمع لا تزال أعين أهله على أبنائه مراقبة، والاختلاط محدود بظروفه وخصائصه الصارمة، والانفتاح والمعرفة المشاهدة بين الأجناس المختلفة اقترنت بسوء الذكر والنوايا الخبيثة الباطنة، فوجد بذلك أفراد المجتمع حيلتهم ويأسهم بتعويض المغلق عليهم بوسائل قاصرة أتاحت لهم بعض مما يدرك -اتباعًا لمن قال وأوجز: ما لا يدرك كله، لا يترك جُلّه- ويُشارك ليتعرف به الولد على الرقيقة، فربما ساد بينهم الاحترام وتعففوا خجلًا أو ديانة أو عادة أو ربما خوفًا عما هو أكثر من الكتابة والصوت أحيانًا، فمال إليها قلبه وبادلته التعلق ووقعوا في وحل المحبة وما طاب يوم الواحد منهم إلا برسالة قبل نومه وبعده عند استيقاظه وأثناء عمله. وهو الذي لم يلتقِ بها لحظةً، ولم يرَ من حسنها لمحة، ولا يعرف عنها غير سرّ كتابتها له وحضورها المتواري خلف الستار. حتى اسمها ربما جهله وغاب عن علمه. وهذا واقع أعرفه وعايشت من عاشه والقارئ يتفق بما أقول طواعية لا كراهية. وبهذا أجاد ابن حزم وصف الحالة فقال “ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار، فإن للحكايات ونعت المحاسن ووصف الأخبار تأثيرًا في النفس ظاهرًا. وأن تسمع نغمتها من وراء جدارٍ، فيكون سببًا للحب واشتغال البال. وهذا كله قد وقع لغير واحدٍ، ولكنّه عندي بُنيان هارٍ على غير أسٍّ”. وعلّة ركاكة هذا البنيان أشار إليه بـ “وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم يرَ، لا بد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها وعينًا يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المعاينة يوماً ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عرض وعرف”. ومن المضحك أن هذا المتوهّم يقطع أشواطًا طويلة بأحلامه عن وجه محبوبه وحجم استدارته وسعة خصره وكم قدمًا بلغ طوله ورسمة أنفه وشفاه، فيظن أن المتخفي ملاك غير ظاهر، ودرة مكنونة في أعماق البحار تنتظر الوصول، وكارثة هذه الخيالات لحظة الرغبة بالانتقال للعالم المشاهد.. فتنهار كل الأحلام التي بناها وتنصهر خيالاته المرسومة وخذلانٍ مشترك لأن الأخير قد خُدع بحب المتخيّل والأول طار عقله لاختلاف واقعه. فيضطر الإكمال على مضض وكراهية ويسوء الحال والمنقلب حجةً بعدم الرغبة بانكسار قلب محبوبه، أو بلغت صراحته مداها وقطع الطرق بمنتصف مشواره، وفي كلا الحالتين خسارات وانكسارات لا تحمد عقباها ولا يُدعى على أحد بتذوق مرارتها.
أخيرًا، ما ذكرته اختلط بين ما فهمته منه -رحمه الله- وما قد قاله ونقلته بنصّه، وما كل ما ذكر غير نفحات من كتاب نفيس لمن طلب الفهم ورغبه وسعى لأن يعي ما يدور بخلده تجاه من توهم حبه أو تحقق منه. وهو مليء بالأخبار الطريفة والقصص الظريفة والأبيات الشعرية الأثيرة. أيامكم مليئة بالمحبة والسكينة.