الإعلان الإسلامي للفرح
كلما كبرت، كبُر العيد في عيني؛ كبُر معناه وقيمته ووجودي من خلاله، تعاظمت المعاني التي أدركها وأشاهدها أثناءه، ازداد مهابةً في قلبي وتمجّد عاليًا في روحي. هذا العيد الذي ليس وليد اليوم، ولا مئة سنة مضت، ولم تخترعه شركة تجارية ذات يوم لتسوّق أشجارها ومراقصها وتحقق به المال التي رغبته، لكنه بدأ في العام الثاني من الهجرة؛ أعلنه أطهر هذه الخليقة، خير من وطأ قدماه الأرض، أنقى العباد محمدﷺ. ومنذ ذلك الحين، هو الإعلان الإسلامي السنوي للفرح. كل مسلم على هذا البساط عليه أن يفرح. يأسرني في هذا الفرح العالمي الإسلامي، ليست طقوسه المُبهجة التي تختلف من بيت إلى بيت ومجتمع إلى مجتمع، ولا مقدار عشرات الريالات والخمسات التي أقبضها من جدي وأسرقها خلسةً حينًا من جيب أخي؛ لكنه المعنى الشامل الكامل، بقوانينه ودقته وثباته المفروضة من ربّ العالمين. الفرح في الإسلام يحمل المعنى الأول في الإنسان، يذكره عند فرحه بإنسانيته وفطرته التي دمرتها مفاهيم المال والأعمال؛ ليخبره بأنه جزء من غيره، فلا يفرح متجاهلًا حزنهم، لا يأكل متناسيًا جوعهم، لا يلبس جديد ثيابه وتفوح رائحة عطره وقد أهمل المرقعة ثيابهم. ويخبرنا هذا العيد بأننا جسد واحد، بروح واحدة. قوت يومنا هو لغيرنا، حتى الجنين في بطن أمه تُخرَجُ عنه زكاة الفطر، ليتحقق بذلك المعنى السامي والأعظم “كلكم عند الله سواء، كلكم من آدم وآدم من تراب”.
علمني والدي وأنا الطفل الوديع الجاهل بغير ما فُطرت عليه، عندما كان يأخذني ليالي العيد في سنوات طفولتي، نطوف بيوت المساكين ويمنحني الرز الأبيض الذي أحببته، لأمنحه إياهم. وأن: لا تنسَ يا ولدي أن تبتسم، وتكمل ابتسامتك بأن تقول لهم: كل عام وأنتم بخير.
العيد أجملُ ما يكون إذا رأت
عيناي من أهوى بأحسنِ حالِ
أما عن هذا العام، فهو أشد حالات الفرح التي مررت بها منذ أعوام؛ كان رائعًا فيما مضى حتى تدنّست براءة الطفولة ببلوغ طمع الشباب، عندما ازدادت قيمة المادة على قيمة المعنى والفرح الذي يتحلّى به الأطفال الأبرياء الأنقياء.. أحسن وصفهم الرافعي عندما قال: “هؤلاء الفلاسفة الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة. أما النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها فهي التي تُبتلى بهموم الكثرة الخيالية، ومثَلها في الهم مَثَل طُفيلي مفغل يحزن لأنه لا يأكل في بطنين”. أدبّني قول الرافعي، وزاد من قيمة العيد في عيني.
ها هي تكبيرات العيد تصدح وإن مُنعنا الخروج، لم يمنع بيتنا منعُ التجوال أن يفرح. بيتنا في العيد ممتلئ بهدايا الأقارب والجيران والأحباب، برغم بعد عيونهم. مُزدان وملون برسومات الفرح المعلقة على الحائط، قلوبنا ازدهرت واخضرّت برسائل واتصالات من نحب، حتى حلوى العيد تلذذنا بها هذا أكثر من أي وقتٍ مضى.