عشرة معانٍ للعزلة في مائة يوم

حين اختفت الطائرات من السماء، وعادت الأرض تتنفس الهواء..!!

حين سكن اهتزاز العالم، وغفى الضجيج الهادر في لحظة ترقب..!!


مائة يوم، وأصداء ما جرى يقسم الناس باعتباراتهم، بين ترددات الحقيقة أو الأكذوبة، وبين توهمات المؤامرة أو العقوبة..

كورونا وتداعياتها التي شهدناها ستحكي قصةً لم نكن نتخيلها يومًا.. ودروسًا تعلمناها لم نكن لنفهمها بسهولة.


نظرنا فيه للعالم من نافذة اختبئنا خلفها بقناعة تامة ورغبة للحياة بسلام

مائة يوم؛ لم تكن بالأمر البسيط الذي انقضى ولم يصفع شيئًا في أعماقنا،  تواصلنا بالآخر دون اتصال حقيقي ملموس، نظرنا فيه للعالم من نافذة اختبئنا خلفها بقناعة تامة ورغبة للحياة بسلام.


مائة يوم؛ علمتنا الشيء الكثير، وعني أنا فقد قرأتُ من خلالها عشرة معانٍ مختلفة للعزلة  كتبتها لأجلي ولأجل حكايتها غدًا لجيلٍ لربما لم يسمع عنه وآمل ألا يعشه بإذن الله:

الاعتدال؛ هذه الفضيلة التي تقوم على ألا يكون المرء عبدًا لرغباته، ولكن أن يسمو عليها ويعيش باعتدال

الفيلسوف سقراط

أولاً: إن كان للحياة معنى، فالعزلة تمنح الحياة حجمها الحقيقي، الحياة التي كانت أقصى همومنا، وجل تفكيرنا، وكل سعينا، سنجد أننا انشغلنا بكثير من كماليات الحياة التي استطعنا العيش من دونها خلال هذه الفترة. التفتنا للحياة الحقيقية، للرغبات الحقيقية للبقاء وليست الرغبة المدفوعة بشهوة التنافس والظهور ولفت الأنظار، للاعتدال في مفهوم الحياة، يقول سقراط:" الاعتدال؛ هذه الفضيلة التي تقوم على ألا يكون المرء عبدًا لرغباته، ولكن أن يسمو عليها ويعيش باعتدال".

تنتعش روح العشاق بما يحبون، أما الحواس فتنتعش بما يحيط بها

ليوناردو دافينشي

ثانيًا: إن كان للحُب معنى، فالعزلة تمنح الحُب أسبابه وجوهره وشكله، الحُب الذي كدنا ننساه في وجوه أبنائنا، ودعاء أمهاتنا، وصلوات أسرنا الصغيرة، الحُب الذي انشغلنا عنه، نسينا شكله وكينونته، الحُب في كوب قهوة تتشارك العيون وتتجاذب الأحاديث تلك الحناجر التي اختنقت في زحمة الحياة، الحُب في التفاصيل الصغيرة التي لم نجد وقتًا لنلحظها، هالة الحُب التي تتجسد في وجوه الأسرة، في جدران البيت، على الستائر المتدلية والملايات، فإن روح العشاق تنتعش بما يحبون، أما الحواس فتنتعش بما يحيط بها. كما قال ليوناردو دافينشي.

ثالثًا: إن كان للعمل معنى، فالعزلة كشفت عن قيمته، عن متعة الإنسان حين يعمل، وحين يقضي وقته وهو مدرك أنه يحقق قيمةً لنفسه أولاً بالإحسان لها فيما تعمل، وبالإحسان لغيرها فيما تنتج، العمل الذي كنا نتثاقل عنه ونؤجله كثيرًا أو نرميه على غيرنا. وقد كتب الفيلسوف "آلان": " العمل هو الشيء الوحيد اللذيذ والكافي".

ماذا يُسرّ لك ضميرك؟ يجب أن تصبح ما بإمكانك أن تكون

نيتشه

رابعًا: إن كان للوقت معنى، فالعزلة أضافت لأوقاتنا معنى مختلف، ومنحى لم نكن نعرف ماهيته، الوقت الذي كنا نختلق الأسباب لنجتازه؛ ها هو يجتازنا بخيلاء، الأهداف والخطط التي وضعناها من أول العام، ها هي تنقلب مع روزنامة الأيام، فالحقيقة أن الأهداف ليست جازمة وحتمية، والحقيقة أن الوقت الراهن بين أيدينا هو خلاق، ولا نستطيع أن نستمتع بالحياة ونعيشها حقًا إلا حين نكون "هنا والآن"، ملء اللحظة التي بين أيدينا، فاللحظة تجعلنا نلامس الحاضر الأبدي.

خامسًا: إن كان للموهبة معنى، فالعزلة قد منحتها شكلاً وطريقًا لتحكي نفسها، بعدما كانت تقتات اهتمامنا، وبعدما كنا نستأثر حياتنا في كل شيء، ونترك لها فتات الاهتمام، ها هي الآن تبوح بسرها وأحقيتها وحقيقتها هكذا يصير مفهوم التقدم الحتمي على الفرد محركًا فكريًا لتنمية طاقة الفرد ومواهبه وإبداعه والتماس الطريق الذي يناسبه، يقول نيتشه: " ماذا يُسرّ لك ضميرك؟ يجب أن تصبح ما بإمكانك أن تكون".

جسدك هو عقلك

نيتشه

سادسًا: إن كان للتعلم معنى، فالعزلة كشفت حقيقة الإنسان البدائي في أعماقنا، حقيقة الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل التواق للعلم والمعرفة، والقدرات العقلية التي لم نستعمل منها سوى جزء يسير، فدرسنا الفلك وقرأنا في التاريخ القديم والحضارات، ومكثنا ندقق وندرس لغاتٍ أخرى جديدة، ونحفظ أجزاءًا من القرءان الكريم، ونردد الشعر.

كل هذا في عزلة من الزمن استقطعناها بأنفسنا، بدوافعنا الحقيقية، برغبتنا الخالصة لإشباع العقل الذي لطالما كان مكتظًا بملهيات الحياة.

سابعًا: إن كان للصحة معنى، فالعزلة أعطتنا نظامًا حيويًا نتدارك فيه أخطاؤنا الجسيمة في حق أجسادنا وعقولنا وأرواحنا، فجودة ما نأكل مقترن بجودة الحياة الصحية لأجسامنا، الصحة الجسدية والنفسية التي هي الدرع وخط الدفاع عن أجسامنا وعقولنا وأذهاننا، فجسدك هو عقلك كما يقول نيتشه.

إن لم يحب المرء ذاته؛ فهو عاجز عن حُب الآخر

ثامنًا: إن كان للعلاقات معنى، فالعزلة أعادت ترتيب الأولويات في حياتنا، أعطتنا الفسحة والمساحة الحقيقية للشعور والحُب والمسؤولية، واجهتنا بأنفسنا التي لطالما هربنا منها، هربنا من مواجهة أخطائنا، عيوبنا، وانشغلنا بالآخر وما سوى ذلك، فكيف للمرء أن يقيم علاقات حقيقية وصادقة وهو بعيد عن نفسه، لا يعرفها ولا يدرك عنها شيء، فنوعية العلاقات التي نقيمها مع الآخر تتوقف جوهريًا على نوعية العلاقة التي نقيمها مع أنفسنا.

وبمعنى آخر: إن لم يحب المرء ذاته؛ فهو عاجز عن حُب الآخر. هذه العلاقة الفريدة بين المرء وذاته هي الصداقة الحقيقية، يقول مونتين عنها: " الصداقة التي ينبغي أن يبديها كل شخص تجاه نفسه".

الجمال سينقذ العالم

ديستوفيسكي

تاسعًا: إن كان للجمال معنى، فقد كشفت لنا العزلة وجوهًا للجمال، قد كنا ألفناها ونسينا التأمل فيها، وتغافلنا عن رؤية هذه الآيات، فالسماء والشمس والقمر والنجوم وكل أشكال الطبيعة تمنحنا شعور بالدهشة والتعجب، تجربة تخرجنا عن طورنا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فكيف تتغير مشاعرنا لرؤية غروب الشمس، أو لرؤية الضوء حين يتسلل عبر النوافذ أو بين أوراق الأشجار بخجل؟

فالجمال موجود حولنا في كل شيء، ولا نحتاج سوى عينٍ تتذوق الجمال وتشعر به، وربما قد تنبأ ديستوفيسكي فقال: " الجمال سينقذ العالم"، وربما سيجعله أكثر احتمالاً وألطف مما يتراءى.

عاشرًا: إن كان للتوازن معنى، فالعزلة قد أعادتنا إجبارًا لخط التوازن، فلا الغرق في القادم ولا المكث في الماضي، لا الإفراط في الجد ولا التفريط في اللهو، لا البقاء والجمود ولا الركض واللهث، لا اللامبالاة والتجاهل ولا المبالغة في الاهتمام وتضييق الخناق على العلاقات.

أن نوفق في تحقيق التكافؤ بين قبول ما هو محتوم علينا وما يتعذر تغييره، وبين قدرتنا على تحويل ما يمكن تحويله.

فبمجرد قبول الحياة بهذا المفهوم نتيح لأنفسنا شعورًا بالامتنان وهو بحد ذاته مصدر للسعادة لا يعرفه سوى القليل.

Join