صاحب

قبل فترةٍ طويلة، كنت أكتب شيئاً من خواطر، وصفوفاً من كلام، ثم أبعث بها لبعض الأصحاب..


والحُق أنها كانت طويلةً بعض الشيء، وممتلئةً بالأفكار أو القصص أو المشاعر التي لا ترتبط بهم ولا علاقة لهم بها.. والسرُّ في ذلك هو أنني إن كنت كتبت، فقد كنت أكتب لنفسي ولأنني أريد أن أكتب فقط، ثم أشاركهم إياها لقصد المشاركة، ولا شيء غير ذلك..


ولكن الذي ما زال يقيم في ذاكرتي، ويحوم في رأسي، ويتردد على عقلي، هو أنني كنت كلما كتبت شيئاً؛ وجدت بعضهم يثني، وبعضهم ينشر، وبعضهم يُعقِّب، وكُل ذاك من حسن ظنهم ورأفتهم بي.. إلا إنساناً واحدًا!.. غالباً لم يكن يفعلُ شيئاً من ذلك أبداً.. ولكنه مجردَّ أن يقرأ شيئاً منها يراسلني أو يتصل بي كي ليقول : "اليوم كتبت كذا، عساه خير!"، "اليوم كتبت كذا ففرحني معك!"..


وكل هذا لأنه عندما كان يقرأ تلك الأسطر؛ يقرؤها وكأنها مُشاعرُ مرسلة، ويرى تلك الجُمَل كأنها ذكرياتٌ مدفونة تتنفس بين الأحرف والكلمات؛ وقد كان مُحِقًّا في ذلك لأنه يرى فيها ما لا يراه غيره، ولا يشعرُ به سواه.. ثم يقتحمُ مشاركاً إياي تلك المشاعر بما لا يشاركني بها غيره..


وكان السِّرُ الذي بيني وبينه مقالةٌ أو خاطرة، أكتبها أنا فيفهَمُ هو منها أن هناك خطبًا ما؛ فيبادر لجبر الخاطر أو مشاركة الفرح.. فهل سأنسى له ذلك؟ لا أبداً ما حييت! إلا أن أُصاب بداءٍ يذهب بذاكرتي لا سمح الله..


وبجانب ذكرياتي لكل مواقفه تلك، أجد صديقاً مُقرَّباً يخبرني سِراً أن صاحبنا الأول يفهمه بما لا يفهمه به غيره أبداً، وأنه هو دون من سواه يستطيع أن يسانده في حال حزنه وفرحه، وأن يصلَ إلى مكنون خاطره فيبدل الهمَّ ويُعزِّزَ الفرح.. وصديقٌ ثالثُ أيضاً يؤمن بأن صاحبنا مستودعُ أسراره، ومستأمن خباياه، ومستشاره الأمين في الرضا والسخط..


أما صاحبنا الأولُ نفسه، فهو يمشي بين الناس يجبرُ الخواطر، ويتفقدُ الغائب، ويُفرحُ الحاضر، وكان أكبر أمانيه في الحياة، أن يصبح بعد زمنٍ كقريبٍ له.. وما الذي يفعله قريبه هذا يا تُرىٰ ليكون مثالًا وقدوة؟!.. كُلُّ ما في الأمر أنه لا يطلب شيئاً من الناس، سليم قلبٍ، ورفيعُ مقام.. يسألُ عن الغائب، ويحتفي بالحاضر مهما كان، ويقف على خواطر الناس عندما يكتفي غيرُهُ بأن يقف على حوائجهم ثم يرحل..

فشهادتي في صاحبنا مجروحة، وقيامي بحقه ناقص، وكل ما علينا فِعلهُ -أنا وبقية أصاحبي- هو أن نسأل الله ألا يُريَنا فيه مكروهاً ولا سوءا..


إنَّ صاحبنا هذا وأمثاله لمِمَّن يَفتخرُ بهم مَن كانوا حولَهُم، ويسيرُ أحبابُهم وراءهم طمعاً بهم، ثُمَّ يسيرونَ أمامهم مساندةً لهم وقوفاً على طريقهم.. أبوابُ الرِّزقِ أمامهم مفتوحةٌ بإذن الله، وقلوبُ الناسِ لهم صافيةٌ بحولِ الله، بيضُ القلوب، سليمو الضمائِر.. ولا أفقرَ مِنْ صاحبٍ ما عرفهم وما عرف لهم حقهم..

فاحفظوهم، وقومواً معهم ولهم، ولا تُطيلُوا عليهم العتَبْ والغضبْ، واحملوا عنهم بعض همومهم وأتعابِهِم في الحياة..


وقولوا لهم: أنتم فخرٌ لنا عند السلامة، وذُخرٌ لنا عند الندامة.

Join