أدوات تنظيم الوقت
كيف يبني الناجحون أوقاتهم
نعم، يمتاز الناجحون في حياتهم -بعيون غيرهم من الناس- بأنهم أناس تعاملوا مع الوقت كأنه بنيان يُبنى حجرًا حجرًا بانتظام، حتى يكون صرحاً عامراً لا يختل مهما مرت عليه السنين، فأوقاتهم محفوظةٌ مهما تغيرت عليهم الظروف، وأوقاتهم محسوبةٌ مهما كثرت عليهم الملهيات أو المشاغل..
بناء نظامٍ للوقت؛ بتنظيمه وترتيبه على مدار اليوم والشهر والسنة،ثم تعميره بالأعمال والمهام والإنجازات، هو ما يجعل الناجحين -بعد اكتمال هذا البناء بمرور السنين- يظهرون للناس وكأنّهم ملكوا من الوقت ما لم يحصل لغيرهم؛ بينما واقع الأمر أنهم أحسنو البناء، فتنعمّوا به فيما بعد..
فما الفرق يا ترى بين نظام أوو قاتنا ونظام أوقاتهم؟ وكيف لأيامهم أن تنتظم وتتدرج في النجاحات رغم وجودهم مع عائلاتهم وأصحابهم؟ وكيف لهم أن يشغلوا أوقاتهم بكل هذا الجِدِّ مع ما نراه ونسمعه من أنهم مثلنا لهم أوقاتٌ لمرحهم ولعبهم؟
لن أتحدث هنا عن قيمة الوقت، ولا عن أهمية المحافظة عليه، ولا عن أفضل من استغل وقته واستثمر فيه، ولا عن جَلْدِ الذات فيما يخص إضاعة الأوقات.. بل سأتحدث بتفصيلٍ عن بعض وسائل واستراتيجياتٍ ما رأيت أحداً من الناجحين إلا ويمارس -على الأقل- واحدةً منها أو اثنتين على سبيل العادة طول حياته..
وكلُّ ما أطلبه منك هو أن تختار واحدةً أو اثنتين منها، وتضعها في حيِّز التجربة والاختبار، فتلتزم بها مدة شهر واحدٍ لا أكثر.. وسترى معي الفرق واضحاً في نشاطاتك وأوقاتك.
ساعةٌ واحدةٌ من الجِدّية
نمرُّ أحيانً بفتراتٍ من الخمول والكسل، فما الذي يدفعها يا تُرى؟ وما الذي يعيننا على العودة إلى حياة الإنجاز والنشاط من جديد؟ مع البحث والتجربة وجدت أن محاولة تثبيت ساعةٍ واحدةٍ للجدية يومياً كفيلٌ بأن يعيد نظام الوقت إلى اتزانه من جديد..
فعنما ينهار نظام الوقت على المستوى الشخصي، وتختلط الساعات والأيام بوقتها.. فقط حدد بين ساعات يومك ساعةً واحدةً تلتزم فيها يوميًا بعملٍ جاد ولو كان مُمِلًا.. وطوِّ في هذه الاستراتيجية بين فترةٍ وأخرى حتى تضع عملًا يوافق مجال تخصصك أو ميولك، وتصبح هذ الساعة كاستثمار بالوقت لا تفريط في ابداً.. ومع مرور الأيام ستصبح هذه الساعة ساعتين، وسيدعوك لجد فيها إلى الجد في بقية الأيام والليالي..
هذه الاستراتيجية قد تكون مُبهمةً ربما، أو ربما تراها غير ذات ارتباط مباشر بموضوع المقال، ولكن الأيام تُثبت أن القليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع كما علمنا رسول الله صلى الله علي وسلم..
ومن كان جادًا في حفظ ساعة واحدةٍ من وقته، سيؤدي به ذلك بكل تأكيد إلى الإمساك بزمام وقته وحسن إدارته مع مرور الأيام والأسابيع.. فقط إن حددت هذه الساعة تذكَّر ألا تُفرِّط فيها أبدًا..
وقِّت أعمالك ونشاطاتك
عندما سُئل الدكتور غزي القصيبي رحمه الله عن سر إدارته الكفؤة برغم الحياة الاجتماعية وكثرة المشاغل، ضرب مثالًا على أسلوبه في التعامل مع وقته،
فقال بما معناه:
أنا أعلم أن المسافة من بيتي إلى مكتبي هي عشرون دقيقة، فإذا كان لدي اجتماعٌ في السابعة، فسأخرج قبل عشرين دقيقة لأصل في السابعة تمامًا، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقتين
وهنا يُلمح إلى فكرة مهمة جدًا في التعامل مع الوقت، وهي أنه إذا عرف مواعيد بدء أعماله، ومدة الوقت الذي يحتاجه للبدء فيها، فسيكون هو المتحكم الرئيس بوقته..
ربما يبدو تطبيق هذا المفهوم صعبًا في البداية، ولكن توقيت الاعمال مهم جدًا، وتطبيقه تدريجياً يسهِّل من صعوبته، ويبدأ هذا كله بتحديد المدة الزمنية تقريبًا للنشاطات المتعددة في اليوم على اختلافها كالاستحمام والنوم وتناول الطعام والمشاوير، وهذه هي المرحلة الأولى وبها ندير النشاطات الضرورية اليومية..
وأما المرحلة الثانية؛ فهي النشاطات الاختيارية كالترفيه واللقاءات الاجتماعية وتصفح الانترنت، فنحددها بمدة زمنية أو بوقت انتهاء بمجرد البدء بها..
وأما المرحلة الثالثة فهي النشاطات الواجبة كالعبادة والعمل والدراسة وغيرها، وأما هذه فينبغي معرفة وقت بدايتها ومدتها كيلا تتداخل معها النشاطات الأخرى.. وكلما استطاع الواحد منا توقيت نشاطاته اليومية؛ فسيكون قادراً على إدارة وقته بكفاءةٍ وفعالية؛ ولكن هذه الخطوة تحتاج إلى الكثير من التجربة والخطأ في البدايات..
والواقعية مطلوبةٌ فيها أيضاً؛ فالتوقيت قد لا يكون بتحديد البداية والنهاية بالدقيقة والثانية بالضبط، ولكن نسدد ونقارب بتقدير الوقت المستغرق تقريباً.. فبعضُ النشاطات ليس لها حدٌ واضحٌ في وقت البداية والانتهاء، ولكن المهم هو عدم إضاعة النشاطات الضرورية بسبب تداخلها مع الاختيارية..
إذًا وقِّت نشاطاتك وأعمالك، لأنك بهذه الخطوة سينمو لديك حس الحرص على إدارة الوقت بشكل لم تكن تتصوره من قبل.
جدول أعمالك هو هيكل يومك
عندما تستيقظ في بداية اليوم -وقبل أن تنشغل بأي شيءٍ آخر- اكتب في ورقة خارجية أو في ملاحظات جوالك كل شيء تريد إنجازه لهذا اليوم..
ولنَضع هذا الفعل في قيد التجربة.. جرب أن تُمضي يوماً دون تحديد الأعمال والنشاطات في بدايته، ثم جرب اليوم التالي تحدد فيه ما الذي تريد فعله من بداية اليوم حتى نهايته، وعندها ستنبهرُ من كمية وحجم الفروقات بين اليومين.. وغالباً أن هذا يرجع لشيءٍ واحد وهو: وضوح الأنشطة وتفاصيها قبل انشغال الذهن بمجريات وأحداث الوقت، فعندما تتضح أعمالك ومهامك في بداية نشاطك -أياً كان هذا النشاط- فأنت تُنحي كثيراً من المشتتات والمشغلات جانباً وتتجه لما تريده بوضوح وتركيز..
وبعد انتهاء المدة التي خصصت هذه الأعمال والأنشطة له ا-سواء كانت يوما أو أسبوعاً- يأتي وقت المراجعة، وتحديد كم تم إنجازه وما الذي تم فعله.. وهكذا نستمر في أداء هذه العادة حتى نكون في بداية اليوم واضحين ومصممين على التركيز في أعمالنا، وفي نهاية اليوم غير مفرطين بأعمالنا ونشاطاتنا.. ولهذه العادة أثرٌ عجيبٌ في حفظ الوقت وحسن إدارته، وسترى بالملاحظة والتجربة أنك صرت تقطع شوطاً كبيرًا في مهارات إدارة الوقت واستغلاله يوماً بعد يوم..
فحدد أعمالك في بداية الفترة، ويوماً تِلو آخر ستتطور القائمة بحسب نوع الأعمال وكميتها، ومع التجربة المستمرة والالتزام ستكون القائمة شيئاً أساسيًا في فقرات يومك أو أسبوعك، وعند النهاية حدد وقتاً مخصصًا للمراجعة والمرور مرةً أخرى على القائمة لمعرفة مستوى الالتزام وما الذي ينبغي تعويضه لاحقاً..
بعض المثالية ضياعٌ للوقت
أعجب كثيراً ممن يكفيه في بعض أعماله أن يؤدي الواجب فقط بلا زيادةٍ عليه بسبب عدم انتفاعه بهذه الزيادة؛ ثم يقوم بإضاعة وقته في طلب المثالية التي لا تستدعيها هذه الأعمال!
أذكر أيام الجامعة، وطريقة أداء الزملاء لواجباتهم ومشاريعهم، فكنت أرى أحدهم يركز في التفاصيل التي تستهلك ساعاتٍ متواصلةٍ من يومه، وجهداً ذهنياً كبيراً من تركيزه، وفي نهاية الأمر لا يُحصِّل غيرَ ما حصله زميلٌ لنا آخر بذل نصف الوقت والجهد..
صدقني بأن كل عمل تبذل فيه من وقتك وجهدك وتركيزك زيادةً على ما يستحق، سيؤثر حتماً على نشاطاتٍ أو أعمال أخرى كان ينبغي أن تصرف إليها طاقتك ووقتك وتركيزك.. وسترى أن الوقت يضيع وينصرم قبل أن تتم ما كنت عازمًا على إنجازه، بينما يقطع غيرك أشواطًا ومسافاتٍ أكبر في نفس الوق والمدة، وهذا قد لا يعود إلى أنهم أفضل منك فيما أقبلوا عليه، وإنما فقط تركوا وأهملوا بعض التفاصيل التي لا عائد منها..
فقبل بداية أي عمل؛ اسأل عقلك سؤالين اثنين: ١- ما مقدار الجهد والتفاصيل الذي يجب عليَّ أن أضعه فيه؟ ٢- إذا حسَّنته وأطلت العمل عليه فهل سيؤثر على أعمال أخرى؟
فالأهم دائماً هو حفظ وقتك وطاقتك للأمور المهمة واحذر أن تستنزفك الزيادات الجانبية وتُشغلك عما هو أولى منها وأهم.
التفويض يصنع قوة وسرعة
في سباقات الفورميلا-ون ، يتشارك خمس وعشرون ميكانيكيًا تقريبًا لإتمام الصيانة وتغيير إطارات السيارة فيما لا يتجاوز ثلاث ثوانٍ فقط! وكل هذا في سبيل شيءٍ واحد فقط وهو أن يفوز السائق بالمركز الأول في أقصر وقت، بمساعدة أهل الاختصاص في أعمال الصيانة.. دعني أربط هذا المثال بمفهوم التفويض من ناحية تشارك المهام مع أكثر من متخصص -والتفويض هو أن تُسند السُّلطة لشخص آخر لتولي مسؤوليةِ مهمةٍ معينة-، فعندما يمارس أحدنا التفويض فهو يستدعي أشخاصاً ممن حوله ليتحمَّلوا جزءًا من المهام التي تقع على عاتقه وقد تأخذ مدةً لا يُستهان بها من وقته؛ فيُفوِّض هذا الأعمال ليحفظ لنفسه الوقت للقيام بأعمال أخرى تصب في مجال اهتمامه وتستدعي تركيزه..
وإنسانٌ واحد، لن يستطيع مهما فعل أن ينجز سِوى مهَمةٍ واحدةٍ في الوقت الواحد، وإن حاول أن ينجز أكثر من مهمةٍ في نفس الوقت، فمن المستحيل أن ينتهي منهم جميعاً بنفس الجودة وفي نفس التوقيت؛ وأتذكر دائمًا عبارةً تقول: "ما يستطيع غيرك أن يقوم به، لا تفعله بنفسك"..
وبالتأكيد أنَّ فن التفويض لا يعني الاتكال الكامل على الآخرين؛ ففوِّض ما يقع خارج حدود مسؤولياتك، وما لا يستدعي تركيزك الكامل، وما يقع خارج حدود خصوصياتك الحساسة ودائرة واجباتك الشخصية..
إذًا فوِّض فالتفويض قوة.. وسيوفِّرُ عليك قدرًا كبيراً من وقتك بلا شك.. فقط فوِّض بذكاء..
الشتات يقتل الوقت
أن تكون قادراً على أداء عملين في وقتٍ واحد، هي ميزةٌ كبيرةٌ بلا شك.. ولكن لها تبعاتها وتضحياتها أيضاً! فالتنقُّل والقفز بين الأعمال بعشوائية وبلا خطة -بإنهاء جزءٍ من العمل الأول للانتقال إلى وسط عملٍ آخر ثم العودة للعمل الأصلي مجددا- سيفتك بلا شكَّ بوقتك، وسيفقدك القدرة على التركيز في باقي أعمالك..
فالإنسان لكي يكون فاعلاً في أي نشاطٍ يقوم به، فإنِّه يحتاج إلى مدة قصيرة في بداية العمل يستعد فيها نفسيًا وذهنيًا؛ فيبدأ من مرحلة التهيئة البطيئة وينتقل لمستوى التركيز ومن ثم إلى مرحلة الإنتاج بفاعلية. لكن تخيل معي لو أنه بدأ يقفز بين الأعمال ويتنقَّل من نشاط إلى آخر، فسيحتاج عندها إلى تكرار مرحلة التهيئة هذه أكثر من مرة في كل نشاط يدخل فيه مما يؤدي إلى تدني مستوى الإنتاجية وزيادة الوقت الذي يحتاجه لإتمام مُجمَل نشاطاته..
فجرب أن تقلَّلَ هذه الانتقالات، وتركز في كل نشاط على حِدة، إلى أن تتم ما قصدت وتنهيه، أو تربطَه بوقتِ توقُّف محدد، وسترى حينها أنك صرت تنجز في ساعةٍ واحدةٍ ما كنت تنجزهُ في ساعتين، وتؤدي في يومٍ واحد من النشاطات ما كنت تؤديه في ثلاثة أيام؛ بل وربما بكفاءةٍ أعلى.. إذاً ركز وقسِّم نشاطاتك وامنع تداخلاتها.
ترتيب الأولويات هو المعادلة الصعبة
من أكثر المفاهيم التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بفن إدارة الوقت وتنظيمه هو ترتيب الأولويات!
فترتيب الأولويات يحفظ النشاطات من أن يختلط بعضها ببعض.. وترتيبها يكون بتقديم تقديم الأهم على المهم، وهو من الأمور التي تجعلنا قادرين على ضبط أوقاتنا ومنتهى أعمالنا ومبتداها، ويعين أيضًا على سرعة الإنجاز ..
ومع هذا المفهوم تأتي الكثير من النظريات والأساليب؛ وأبسط طريقةٍ هي سرد العمال في ورقة ثم تصنيفها بحسب مراتبها (نموذج التقسيم مذكور في النقطة الأولى - وقّت أعمالك ونشاطاتك) .. وكلٌ أدرى بمراتب أعماله ومهامه ونشاطاته؛ ولكن المهم هو عدم لخبطة هذه الأولويات بعد ترتيبها! فإن وضعت النشاط “أ” ليكون تنفيذه مقدمًا على النشاط “ب”، فعليَّ إذًا أن أقاوم كي لا أُقدِّم الثاني على الأول أبداً..
فخلط الأولويات والركاكة في الالتزام بها سيؤدي في نهاية المطاف إلى هدم نظام الوقت في حياة الإنسان..