مردود الجمال
كيف يؤثّر جمال المدن على النمو الاقتصادي لها؟
في ظاهرة يسميها الاقتصاديون بمردود الجمال beauty premium، يميل الأشخاص ذوو المظهر الأفضل إلى كسب المزيد من المال وهم أكثر نجاحًا في حياتهم المهنية. ولكن هل تستفيد المدن أيضًا من "مردود الجمال"؟ وفقًا لدراسة جديدة أجراها اثنان من خبراء الاقتصاد الحضري، يبدو أن الأمر كذلك.
وجدت مجموعة من الدراسات السابقة بالفعل صلة بين النمو الاقتصادي وبين جودة المرافق الحضرية، ولكن هذه الدراسة التي أعدّها جيرالد كارلينو وألبرت سايز من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تبحث العلاقة التي بين مؤشرات النمو الرئيسية وبين جمال المدينة من خلال مواقع الجذب التي تحتويها.
وللحصول على ذلك، قام الباحثين بقياس الجمال في المدن بطريقة فريدة، إذ قاموا بتتبع الزيارات السياحية وصور المواقع الجميلة من تطبيق Panoramio، وهو تطبيق لمشاركة الصور يقوم بوضع علامات جغرافية وتجميع صور لأماكن ذات مناظر خلابة حول العالم. وقارنت الدراسة مقياسها الخاص للجمال الحضري بالمقاييس الأكثر رسوخًا للمرافق الحضرية الجميلة مثل الحدائق، والمناطق التاريخية، والقرب من السواحل، والمسطحات المائية والمرتفعات الجبلية، وحجم صناعة السياحة، وغيرها. كما نظر الباحثون إلى عمليات تجديد وتطوير الأحياء في وسط المدينة وفي أطرافها من 1990 إلى 2010.
وحتى لا يتوهم القارئ بأننا نقصد بمفهوم الجمال في المدن بالتشجير والأرصفة فقط -وهي مهمة- وإنما نقصد به هنا المناظر الطبيعية الخلّابة والحدائق العامة ذات الطابع الفريد والمكتبات والمتاحف والمراكز الثقافية والمجسمات الفنية الفريدة والميادين وغيرها من المشاريع التي قد تندرج تحت مسمى نقاط الجذب وأماكن التجمع.
المدينة التي شهدت تضاعف في عدد المواقع الجميلة شهدت نموًا بنسبة 10 في المائة أو أكثر في عدد السكان والوظائف
وجدت الدراسة دليلاً على وجود علاقة واضحة بين الجمال وبين نمو المدن والأحياء. فالمدينة التي شهدت تضاعف في عدد المواقع الجميلة شهدت نموًا بنسبة 10 في المائة أو أكثر في عدد السكان والوظائف من 1990 إلى 2010. كما ارتبط جمال المدن بمعدل ضرائب أقل باعتباره أهم مؤشر للنمو السكاني العام في المدن. بالإضافة إلى ذلك، تجذب هذه المدن أعدادًا هائلة من خريجي الجامعات. حيث شهدت المدن الأكثر جمالا زيادةً بنسبة 3 في المائة تقريبًا في عدد خريجي الجامعات مقارنة بأدنى المدن جمالا.
خلصت الدراسة إلى أن جمال المدينة لا يرتبط بحجمها، فالأماكن الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تضم المزيد من الحدائق والمباني التاريخية والتي تكون قريبة من مسطحات المياه والمرتفعات الجبلية وسماءها صافية تعتبر جميلة أيضًا. كما حدد الباحثون نوعًا جديدًا من الأحياء التي تجذب سكان جدد: المنطقة الترفيهية المركزية (CRD)، والتي تحددها انتشار الحدائق والأماكن التاريخية والمعالم والوجهات السياحية -وغالبا ما تكون مواقع "Instagrammable" أي مواقع تصويرها مناسب لتطبيق الانستقرام. خذ على سبيل المثال السائحين الذين يتدفقون على طول High Line في مدينة نيويورك، وهو متنزه عمره عقد من الزمان تم إنشاؤه على خطوط السكك الحديدية السابقة المرتفعة بشكل غير مرئي.
وكتب الباحثون "على الرغم من الظروف الاقتصادية الأولية الأسوأ، تمكنت CRDs من النمو بشكل أسرع من الأحياء الأخرى". زادت الإيجارات والدخل والتعليم بشكل أسرع نسبيًا في هذه الأحياء الجميلة، على حساب الاستقطاب الاجتماعي (قدوم فئة مرتفعي الدخل ونزوح فئة منخفضي الدخل).
الأماكن الجميلة لا تحدث بشكل طبيعي فحسب: إنها نتاج السياسة العامة والاستثمار. بالطبع، تتمتع بعض الأماكن بجمال طبيعي أكثر، من خلال قربها من شواطئ ساحلية مذهلة أو سلاسل جبلية ذات مناظر خلابة. لكن يمكن للمدن أن تجعل نفسها أكثر جمالًا - وبالتالي أكثر جاذبية للمتعلمين والأثرياء - من خلال الاستثمار في صورة المدينة والحدائق العامة وحماية المعالم والمناطق التاريخية والمتاحف والمجسمات الجمالية وغيرها من نقاط الجذب.
يمُكن للمدن الكبرى الاستفادة من نظرية "مردود الجمال" في إعادة التوازن لجسد المدينة
يمُكن للمدن الكبرى الاستفادة من نظرية "مردود الجمال" في إعادة التوازن لجسد المدينة وتوجيه النمو نحو المناطق البيضاء التي تفصل جسد المدينة والمساهمة في حل قضية الزحف العمراني المفرط من خلال الاستثمار بمشاريع التجميل لترجمة مخططاتها الاستراتيجية وتحقيق بيئة سكنية جاذبة. لا يختلف اثنان على الجمال الذي أضافه كلاًّ من مركز الملك عبد العزيز الثقافي (إثراء) على حاضرة الدمام، والبوليفارد في الرياض، وشارع الفن في أبها، وغيرها من نقاط الجذب التي حتما سيكون "مردود الجمال" لها أكبر إذا كانت ليس لغرض السياحة والترفيه فقط بل لتتكامل مع المخطط الاستراتيجي للمدن وتحقق أهدافا لخدمة نطاق المدينة الأشمل وتتماشى مع هويتها وقيمها المحلية.
في حالة للمدن المتوسطة والصغيرة، ففي الغالب أنها تملك بالفعل مقومات الجمال بما تحتويه من أصول طبيعية وهواء نقي، ولكن هذه المقومات لا تكفي حتى تكسب منه مردودا اقتصاديا معتبرًا، حيث يجب أن يُنظر لهذه المقومات الطبيعية بشكل استراتيجي من ناحية صناعة السياحة وإعطاءه الدعم اللازم من مرافق متكاملة وخدمات لوجستية لكي تبرز هذا الجمال وتجعله جذّابا. وقد يكون استخدام نظرية مردود جمال المدينة أداة فعالة لتحقيق هجرة عكسية من المدن الكبرى وعودة كثير من سكانها إليها ناهيك عن المردود السياحي والحيوية الحضرية.
ختاماً،
علينا أن ندرك أن هنالك عوامل تقلل من جمال المدن مهما كانت متكاملة وظيفيا وبصريا وتملك مواقع جاذبة وخلابة. فالتفاوت الاقتصادي الشاسع يؤثر سلباً بشكل لا جدال فيه في كيفية إدراك الآخرين لجمال المدن، وعدم تلبية احتياجات الفئات كذوي الإعاقة والأطفال وكبار السن والعوائل والشباب والنساء على حد سواء. كما أن نقاط الجذب قد تأتي بردة فعل عكسية إذا كانت مستنسخة من مدن عالمية ولا تتماشى مع الهوية المحلية. في الوقت ذاته يمكن لصانعي السياسة الحضرية استثمار مشاريع الارتقاء الحضري في تكريس العائدات المتزايدة منها بتطوير مشاريع لصالح الإسكان ميسور التكلفة، وتنمية القوى العاملة، وتقليل التفاوت الاقتصادي وتعزيز الهوية المحلية. وهي فرصة لإعادة النظر في أن تكون المدن صديقة للإنسان بكافة فئاته لكي تصبح أكثر جاذبية للجميع. المدينة الأكثر شمولاً هي المدينة الأكثر جمالاً.