"أنا أختنق.. لا أستطيع أن أتنفس"
هل يجعلنا تخطيط المدن أناساً أفضل؟
رجل أسود يصرخ تحت ركبة شرطي أبيض، في القرن الحادي والعشرين وفي أجواء مشغولة بجائحة كورونا "أنا اختنق..لا أستطيع أن أتنفس"، صورة هزّتني كما هزت العالم بآسره.
حاولت تأمل تلك الحادثة من زاوية تخصصي (تخطيط المدن والأقاليم)، وليس من زوايا جيوسياسية أو أبعاد تاريخية؛ فخطر لي تساؤل أظنه وجيهًا؛ وهو كيف تحصل تلك الأزمة داخل مدن متقدمة ومصممة بشكل جيد إلى حدٍّ ما وليست في مدنٍ عشوائية أو قرى ريفية.
وُصفت المدن بأنها واحدة من أعظم الابتكارات الاجتماعية للبشرية!
ويأتي تعجبي من ظهور هذه الأزمة في مدينة حديثة، أصبحت مثالاً للحداثة والتنمية والازدهار الاقتصادي، حتى وُصفت المدن بأنها واحدة من أعظم الابتكارات الاجتماعية للبشرية!
بل وقد وصف بعض العلماء المدينة بأنها شرط أساسي لتحسين الظروف المادية وغير المادية لحياة إنسانها!
ولأجل ذلك.. وغير ذلك: لماذا لم يمنع التخطيط الحديث في المدن الأمريكية من ضبط سلوكيات ساكنيها وتخفيف التوتر وتداعياته؟
سأحاول مناقشة جواب لهذا التساؤل من خلال الفرضية التالية: هل المدن الحديثة التي تتوفر بها بيئة سكنية متكاملة وظيفيا، تُسهم في رفع القيمة المعنوية للإنسان، وبالتالي رفع معدل التزامه بأخلاقه أكثر من المدن العشوائية أو الأرياف؟
لو حاولنا تفكيك هذه الفرضية وتسهيلها؛ فيمكننا أن ننظر لموضوع تأثير المدن على السلوك من زاويتين متضادتين:
الزاوية الأولى: تقول: إن البيئة العمرانية الجيدة تؤثر على السلوك الإنساني إيجابًا، ومثال ذلك: أن المدن المتقدمة والتي يوجد بها تجانس وتناغم في العمران يكون احترام الناس لبعضهم مرتفعًا وتكون سلوكياتهم مهذبة.
وأما الزاوية الثانية: تقول: أن البيئة العمرانية العشوائية والتي لا يوجد بها مفهوم واضح للعمارة والعمران تنتج سلوكًا إنسانيًا سلبيًا، ومثال ذلك أن المناطق العشوائية غير المخططة ترتفع بها معدلات الجريمة وانتهاك القوانين.
ومن الحقائق في النفس البشرية التي قد تساعدنا في تفسير هذه العلاقة أن الإنسان بطبعه يحب الجمال والتناسق والتناغم، وأن الأشكال الهندسية والألوان تؤثر كثيرًا على السلوك الإنساني، كما هو مقرر في علم النفس الهندسي، وعلم النفس البيئي.
عمارة مكارم الأخلاق
من خلال الاستعانة بتراث عمارة المسلمين -كما يحلو للدكتور صالح الهذلول تسميتها- لفهم علاقة السلوك الإنساني بالعمران، سنجد أن "الفن الإسلامي" مبنيٌّ على "الفكرة" لا على المنتج نفسه!
نقصد بذلك أنّ العمران في الحضارة الإسلامية كانت تتوجه "مكارم الأخلاق" وتغلّف المكون والمنجز المادي الذي نراه أمام أعيننا.
والسبب في ذلك أن الأخلاق جزء معنوي يتشكل ببطء وهدوء، ويتغلغل في المنجز المادي ويطبعه بطابعه كتسلل الروح في الجسد، ولهذا كان عمران المسلمين متمحورًا كثيرا حول بناء قيم السكان وتحسين وسلوكهم. حيث ركز علماء المسلمين في بنائهم لفقه العمران على الحديث النبوي «لا ضرر ولا ضرار»، وعلى القاعدة الفقهية القائمة على «جلب المنافع ودفع المفاسد» في تهذيب سلوك الناس وتحقيق مصالحهم.
ولقد تنبّه الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لهذه العلاقة بين السلوك وعمران المدن، فبعد أن قام بتخطيط البصرة والكوفة والفسطاط أمر أن يتم بناؤها بالقصب، ثم جاء الحريق فأحرقها، فاستأذنوه أن يبنوها باللبن؛ فكتب إليهم: أنه لا بأس بذلك، ولكنه توجس من أن يغيير هذا التطور في سلوكيات السكان فكتب إليهم كتابًا يبين فيه أنه ينبغي ألا يؤدي الأمر إلى الترف والركون إلى الدنيا، فقال: (لا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطيلوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة، وابنوا ما لا يقربكم من الترف، ولا يخرجكم من القصد).
حتى لا تختنق المدينة السعودية!
تخيل معي أخي القارئ الكريم بأن مكونات المدينة المادية وغير المادية كالطرق والمباني والفراغات والاقتصاد هي بمثابة الأنسجة والشرايين لجسد المدينة، سيكون القلب في هذا المثال هو السكان بطبيعة الحال.
ومن هنا تقوم فرضية المدينــة المســتدامة على الحفــاظ عــلى التــوازن بــين أنظمة المدينة المعقدة (الاجتماعيــة والاقتصاديــة والبيئيــة) وتعزيزهــا مــع مــرور الوقــت.
والوقاع أنه يتغير سلوك القلب (السكان) نتيجة لتعرضه لضغط هائل من عضو على آخر (مكونات المدينة)!
وحين نحاول النظر في واقع المدن السعودية سنجد على سبيل المثال في حالـة تجمعات الصناعة النفطية والاقتصادية كمدن حاضرة الدمام والجبيل، حيـث ينمـو النظـام الحـضري الاقتصـادي ويجلـب الازدهـار لمدينتـه ومواطنيـه، ولكــن في نفــس الوقــت تتعرض صحة المدينة لتهديدات بيئية شديدة كما تتأثر الجوانــب الاجتماعية والمكانيــة الأخــرى.
وتشهد مناطق كالقصيم والأحساء توسعًا عمرانيًا ومشاريع تنموية ضخمة، مما أدى إلى تأثر النظام الاجتماعـي والبيئـي والاقتصـادي بشكل سلبي للغاية، نتيجة للفقدان التدريجي للصلة بــين البيئتــين الأنثروبولوجية والطبيعيــة مـن خـلال تهديـد ســبل العيــش المرتبطــة بالقطــاع الزراعــي.
والفكرة هنا أنه على الرغم من أننا سنقوم بعمل تنموي له آثارٌ ملموسة كالعوائد الاقتصادية والمخططات المبهرة، ولكننا نقوم بدون وعي بإلحاق الضرر على العنصر الأبرز وهو الانسان وسلوكه مع بيئته.
لن تختنق المدن السعودية بإذن الله، لأن المعادلة النّوعية التي تقدمها رؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠ بمحاورها الثلاثة: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح؛ تبدو خطة إنقاذ حقيقية! وهنا يقع التحدي الحقيقي على عاتق المدن بترجمة ذلك مكانيًا وتحقيق التكامل بين أنظمة المدينة الاجتماعيــة والاقتصاديــة والبيئيــة بشكل متوازٍ.
بناء الانسان وتنمية المكان
في ظل سعي المدن للحفــاظ عــلى نمــو اقتصــادي مســتقر، من المهم أن تأخذ بالحسبان أن تحافظ عــلى الترميــم البيئــي والبنيــة التحتيــة الاجتماعية التي تمكنهــا من تقديم الخدمــات الأساســية بطريقــة مبتكــرة. ويتطلــب ذلك مســتوى عاليًا مــن المرونــة، ولهذا يصف جودسشــيك (٢٠٠٣) المــدن المرنــة، بأنها المــدن القـادرة عـلى تحمـل الصدمـات الشـديدة، والتوتـر، دون أن ينتـج عـن ذلـك فوضى أو ضرر فوري، أو اختلال دائم أو تمزق لشكل المدينة. وبالعودة لموضوع أثر المدن على السلوك، فإننا نستنتج أنه حتى لو ساعدتنا المدن في أن نصبح أكثر ثراءً وذكاءً وصحة وسعادة، كما ادعى إدوارد جلاسر (٢٠١١)، فإن تطورها لم يكن خاليًا من التحديات والتناقضات.
والتحدي الأبرز هو أنه حتى إذا كانت مرافق المدن المادية، وبنيتها التحتية، وتقنياتها الحضرية ضرورية لعمل المدينة، فإن روحها تكمن في التفاعل البشري. كما أن الإبداع والابتكار وريادة الأعمال وتنشيط ومرونة المجتمعات الحضرية يعتمد في المقام الأول على رأس المال الاجتماعي. وقد تكون نتيجة سيناريو تنمية المكان دون بناء الانسان مليء بالتحديات والمخاطر الناتجة عن التطور التكنولوجي والتلوث البيئي المحلي والتهديدات الصحية وعدم الاستقرار بسبب التفاوت الاجتماعي والاقتصادي كما حصل في أزمة جورج فلويد وما تبعها من أحداث.
لأننا مع بناء المدن نبني الطبائع، نبني الشخصية، ونبني الأخلاق".
عبدالهادي التازي