المدن تزدهر بفضل الإبداع الذي يتحقق حين يعيش الناس جنبا الى جنب فيتبادلون الأفكار والمعرفة

نبدأ هذه التدوينة بلمحة عن شخصية إدوارد غلايزر يقدمها كريس فيليش وسوف نتناول في الجزء الثاني آراء ادوارد حول مستقبل الرياض التي تقوم بالاستلهام من نظريته حول جذب المواهب ومزايا التوسع الحضري وذلك على هامش استضافته مؤخرا من قبل مركز الادارة المحلية. 

نشأ إدوارد غلايزر في مدينة نيويورك في سبعينات القرن الماضي ليشهد حاضرة عظيمة تنهار. فمعدلات الجريمة في صعود حاد، والقمامة تتراكم على جانبي الطريق بعد ان اضرب عمال النظافة عن العمل. كانت المدينة تترنح على حافة الإفلاس.


ومع انتصاف الثمانينات، بات واضحا ان مدينة نيويورك ستسترد عافيتها. لكنها ربما كانت لا تزال مكانا مخيفا حينذاك؛ فقد ُقتل ثلاثة اشخاص على الجانب الآخر من الشارع الذي تقع فيه مدرسته في شمال غرب حي مانهاتن. ومع هذا، كان غلايزر مفتونا بالحياة الصاخبة التي تعج بها شوارع نيويورك وكان يقضي ساعات طويلة متجولا في أحيائها. ويقول غلايزر مستحضرا تلك الحقبة في مقابلة ُأجريت معه في مكتبه بجامعة هارفارد: «لقد كانت رائعة ومروعة في ان، وكان من الصعب ألا ُافَتن بها». واليوم، لا يزال هذا الشعور بالانبهار متغلغلا في عمل غلايزر كخبير في الاقتصاد الحضري. فهو يستخدم ُعَّدتها لنظرية كخبير اقتصادي لاستجلاء أسئلة مستوحاة من فترة شبابه في نيويورك. لماذا تخفق بعض المدن وتنتعش أخرى؟ وما الذي يفسر التكلفة الفلكية للسكن في سان فرانسيسكو؟ وكيف يختلف نمو المدن في البلدان الغنية عنه في البلدان الفقيرة؟

وفي تلك الفترة، كان روبرت لوكاس وبول رومر، أستاذا الاقتصاد في جامعة شيكاغو، يعملان على بلورة ما يسمى «نظرية النمو الداخلي»، التي تركز على دور الابتكار وتبادل الأفكار في التنمية الاقتصادية. وحسبما يتذكر غلايزر، أشار لوكاس الى المدن باعتبارها أماكن يحدث فيها انتقال للمعرفة — أي أن الناس يستطيعون الاستفادة من أفكار الآخرين دون مقابل. لننظر إلى مدينة مثل ديترويت في مطلع القرن الماضي، حيث استفاد هنري فورد من خبرته كرئيس للمهندسين في شركة أديسون للإضاءة ليبدأ مشروعه الخاص في مجال صناعة السيارات.

وقد استوحى من هذا المفهوم دراسة رائدة في عام 1992 تحت عنوان» «النمو في المدن». وبدا غلايزر وثلاثة مؤلفين مشاركين في استخدام المدن كمعمل لاختبار نظريات النمو الجديدة. وباستخدام بيانات 30 عاما تغطي 170 مدينة أمريكية، خلص المؤلفون الى أن المنافسة المحلية والتنوع، وليس التخصص، هما المحركان الأساسيان للنمو في المناطق الحضرية.

وعلى الفور، لمع نجم غلايزر بعد صدور الدراسة وعرضت عليه جامعة هارفارد العمل بها. وعن غلايزر يقول جوزيف غيوركو، الأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا والذي تعاون معه في العمل لفترة طويلة "اثبت إدوارد ان التنوع الحضري، وليس التخصص في شيء بعينه، دافع كبير لنمو التوظيف. وكانت هذه بالفعل مقالته الأولى التي يكثر الاستشهاد بها، وبالتالي فهي التي وضعته على اول الطريق».

وقد بدا غيوركو وغلايزر يعملان معا في مطلع الألفية الثانية، حين حصل غلايزر على إجازة للبحث والدراسة لمدة عام في جامعة بنسلفانيا. وتساءلا معا عن سبب بطء التدهور في أحوال بعض المدن مثل ديترويت، ولماذا مكث فيها الكثيرون بدلا من الانتقال الى مكان اخر. وتوصلا الى جواب بسيط: المساكن سلعة معمرة بطبيعتها، ومع الركود الذي تمر به المدن، يصبح العيش فيها اقل تكلفة. وأثارت هذه الرؤية سؤالا ذا صلة: ما السبب في ان تكلفة السكن اعلى بكثير من تكلفة انشاء المساكن في مدن مثل نيويورك وبوسطن؟ الجواب هو ان القيود المفروضة على استخدام الأراضي تحد من الكثافة السكانية، مما يكبح عرض المساكن ويدفع الأسعار الى الارتفاع. كان هذا من أبجديات علم الاقتصاد، ولكن حتى ذلك الحين لم يكن المتخصصون في اقتصاديات المناطق الحضرية قد ركزوا بعد على دور التنظيم في هذه الظاهرة.

ويرى غلايزر ان التنظيم المفرط يدمر جوهر الحياة الحضرية - ويقصد بذلك تنظيم الكثافات. فالمدن تزدهر بفضل الإبداع الذي يتحقق حين يعيش الناس جنبا الى جنب فيتبادلون الأفكار والمعرفة. ومدن الحزام الشمسي، مثل هيوستن، نمت بسبب سهولة البيئة التنظيمية التي ُتبقي اسعار المساكن في مستوى غير مكلف. ويرى الاقتصاديون أمثال غلايزر ان القواعد التنظيمية للبناء وتقسيم المناطق تمثل ضريبة على التنمية. فهناك ضرائب منطقية من المنظور الاقتصادي، لأن البناء يفرض تكاليف على المقيمين في صورة ضوضاء وازدحام مروري وتلوث. لكن التشدد المفرط في التنظيم، والذي غالبا ما يحركه السكان الساعون الى منع دخول سكان جدد وحماية قيم عقاراتهم، فيمكنه ان يرفع اسعار المساكن الى مستويات في غير متناول غالبية الناس. 

كذلك يشكك غلايزر في قواعد حفظ التراث التاريخي، مما يثير الفزع لدى اتباع جين جاكوبز، الشهيرة بانتقادها اللاذع لمشروعات التجديد العمراني واحتفائها بالحيوية المتدفقة في شوارع الأحياء العرقية القديمة في نيويورك. والواقع أن غلايزر من أشد المعجبين بجين جاكوبز — حتى أنه يحتفظ بنسخة موقعة بخطها من كتابها الأبرز الصادر في عام 1961 بعنوان موت وحياة المدن الأمريكية الكبرى (The Death and Life of Great American Cities) — لكنه يرى ان جهودها في معارضة التنمية في حي غرينيتش فيليدج كانت تتناقض مع تأييدها لإسكان محدودي الدخل. ويقول في هذا الصدد: «أنا أومن بأن كثيرا من مبانينا العريقة هي كنوز نفيسة. لكنني لا ادعي في نفس الوقت أن هذا طريق يصل بنا الى توفير المساكن بتكلفة يمكن تحملها. فالتكلفة التي يمكن تحملها تتحقق إذا بنيت مساكن رخيصة بكميات كبيرة او مساحات واسعة رخيصة للاستخدام التجاري. وقد لا تعجبك هذه المباني من المنظور الجمالي، لكن هذا هو المسار نحو أسعار في المتناول». 

وفي عام 2000، نشر غلايزر دراسة بعنوان «مدينة المستهلك» (The Consumer City) أعدها بالتعاون مع ِجد كولكو وألبرت سايز. وفي هذه الدراسة، ذهب بمفهوم التجمع خطوة ابعد، حيث قال أن الناس لا ينجذبون للفرص التي تتيحها المدن وحسب، بل أيضا الى وسائل الرفاهية كدور العرض والمتاحف والمطاعم. ويعلق على ذلك ريتشارد فلوريدا، أستاذ الدراسات العمرانية في جامعة تورونتو، بقوله: «نحن نعلم أن المدن يمكن أن تجتذب الشباب والمبتكرين أكثر من أي فئة أخرى.

وإدوارد كان يحدد العوامل الدافعة لذلك، إنها تلك الفكرة برمتها التي ترى ان المدن ليست أماكن للإنتاج فقط، وإنما أماكن للاستهلاك أيضا». ويشعر غلايزر بالأسى لوجود سياسات مثل خصم الفائدة على القرض العقاري من الدخل الخاضع للضريبة، مما يشجع على شراء المنازل بدلا من استئجار الشقق؛ ودعم الطرق السريعة، مما يسهل القيادة الى الضواحي؛ والنظام الدراسي الذي يتضرر منه الطلاب القاطنون في أحياء قاع المدينة. فهذه السياسات، في رأيه، ليست مضادة للتوسع الحضري وحسب، لكنها تساهم في تغير المناخ أيضا لأن سكان المدن، الذين يعيشون في بيوت أصغر ويستخدمون وسائل النقل الجماعي، يستهلكون كميات اقل من الكهرباء والبنزين مقارنة بنظرائهم من سكان الضواحي. 

ومن الغريب، والحال هذه، انه وزوجته نانسي، ولديهما ثلاثة أبناء، قررا الانتقال إلى ضواحي بوسطن منذ عدة سنوات. وبالنسبة لغلايزر، كان ذلك قرارا حكيما تماما: فالضواحي تمنحك مساحة أوسع للعيش، وفيها مدارس أفضل، ووسائل انتقال سريعة بدرجة معقولة. وبعد أن أصبح غلايزر معروفا في الأوساط الأكاديمية، بدأ يصل الى قاعدة اعرض من القراء بعد نشر كتابه الأكثر مبيعا عام 2011 بعنوان انتصار المدينة (Triumph of the City)، وفيه دراسة شيقة تتناول التوسع الحضري من بغداد العريقة الى بنغالور الحديثة. ونظرا لبلاغته وحماسه، فقد أصبح متحدثا مطلوبا في المنابر الأكاديمية وفعاليات TED الحوارية. وفي كل مرة، تراه شديد الأناقة في بذلة مكوية بعناية، يقدم للناس عصارة فكره في مجال التوسع العمراني بُجَمله المنمقة سريعة الطلقات.

Join