سباق المئة قصة

دعني أقدّم لك تعريفًا للإنسان؛ إنه حيوان حكّاء. أينما ذهب لا يرغب في ترك يقظة فوضوية، ولا فضاء فارغ، بل عوّامات مرشدة مريحة وسلسلة علامات من الحكايا، وعليه أن يواصل ابتكارها. فما دامت هناك قصّة، تكون الأمور على ما يُرام. حتّى في لحظاته الأخيرة، يُقال، في اللحظة الحاسمة من سقوط مميت أو حين يكون المرء على وشك الغرق يرى حكاية حياته تمرّ أمامه سريعًا.

غراهام سويفت

قبل عدة أسابيع انتهى اشتراك اليوتيوب، وانتهت معه رؤية الإسباغيتي المُلقاة على الأرض أو حروف اللغة الهندية. بدأ سُعار الإعلانات المحموم بالظهور، ذكاء صناعيًا لكتابة بريد العمل، ولا أعرف كيف وصف الموقف بالكامل أسهل من صياغة مباشرة للبريد. إعلان آخر عن تصميم موقع خلال دقيقتين، ولأننا نعيش في عالم يركض، تبدو الدقيقتان مثيرة للفضول، لا يخبرك لماذا موقع، ولكن أي موقع خلال مدة وجيزة. تذكرت لقاء شخص ممتعض من الانتظار في صالة التدريب، ولديه الاستعداد لدفع اشتراك سنوي أضعاف القيمة المُتعارف عليها، وذلك لمجرد ترتيب يومه بشكل مثالي، ثماني ساعات عمل، ومثلها للنوم، ساعة لدورة المياه، وساعتين لوقت حُر، وساعتين للنادي، وثلاث لزحمة الرياض، وقته الثمين جدًا لا يحتمل الانتظار لعدة ثوانٍ لاستخدام الجهاز. اكتشفت من خلال الإعلانات أن الخطوط السعودية لديها خصم على الرحلات، ولكن بعد فوات الأوان، وآخر الإعلانات التي ظهرت كانت لشركة إكسبيديا: "وُجدت لتكتب قصتك المميزة..."، من قال إنك وجدت لكتابة قصة مميزة!

 

في الأشهر القليلة الماضية صادفت أشخاص يتصورون أن لديهم قصّة مميزة. في فعالية اجتماعية يعرّف الشخص الأول عن نفسه كالتالي: "مستشار أسري، ومهتم بعلم النفس، الاجتماع، الأديان، التاريخ، الفلسفة والمنطق"، أكثر ما أثار انتباهي هي الثقة التي بدت عليه وهو يعدد مجالات المعارف والعلوم، وشعرت في ذات اللحظة أنها مجرّد وسيلة لوضع نفسه في مقدمة الحضور. أصبحت أترقب اللحظة التي يشارك فيها، ولسبب ما انحنى موضوع الحديث إلى الكلام الإيجابي وأهميته، فعالية اجتماعية على ميت أب وش نتوقع! وفجأة يرفع يده العالِم المحنك، تصريح مباشر للمشاركة المنتظرة، وأصبح الجميع يترقبون المداخلة، بعضهم من باب الفضول، وآخرين من باب الحسد: "قريت دراسة أن الكلمات الإيجابية تأثر على كل الأشياء المحيطة حتى النباتات، جربوها على وردتين، الأولى يكررون عليها الكلام الإيجابي والثانية كلام سلبي، الأولى أزهرت، والثانية ذبلت." السؤال الذي شغلني بغض النظرة عن كل تفاصيل القصة المتخيّل أنها رهيبة، وتليق بأن تُحكى أمام العشرات، والتي أتت بعد مقدمة ثقيلة، بأي لغة تم التحدث إلى النبتة؟

 

أتصوّر من أكثر الأسئلة التي لا أمتلك إجابة واضحة لها هي التعريف عن النفس -خارج نطاق المقابلات الوظيفية-، وسعيد جدًا أن سؤال: "ممكن نتعرف؟" وما يتبعه طواه الزمن! الشخص الآخر في ذات اللقاء بدأ بالمنصب الوظيفي واسم الشركة قبل التعريف بالاهتمامات التي يمكن لها أن تتقاطع مع عنوان اللقاء البعيد كل البعد عن العمل، ولكن لا يمكنني لومه كثيرًا، اليوم الشخص يضع كل قيمته في مهنته، وبعضهم يضعها حتى في تويتر حتى وإن كانت مشاركاته بعيدة عن المجال. مداخلة الشخص الثاني، ونسيت سياقها، لكنه يعمل 16 ساعة متواصلة، ساعات عمل نظامي، وأخرى بشكل مستقل، ولا أحد يعرف ما هو الشيء الفاتن في شخص يفني عمره في العمل، ولا توجد أي اهتمامات أو مساحات أخرى. بعد أن تأكد من إدراكنا أن لدي طموح مادي واجتهاد لا يُشق له غبار، يدوي مفاجأة أخرى وهي سقوطه من الإعياء، وأصبح لديه قلق شبه مزمن من الإغماء، وبدأ يعزف على لحن المعاناة الوهمية/المُختارة، وبعد كل هذا النشاز يخبرنا أنه فخور بنفسه، ويمكن للمرء أن ينجز ويحقق المكاسب بغض النظرة عن الآلام.

 

توجد عشرات التنويعات على مشاركة المشاعر/المواقف السعيدة أو الحزينة. قرأت أن مشاركة لحظات السعادة إشباع لشيء ناقص، ومشاركة المعاناة شكل من أشكال السيطرة على الذات. لا يمكن أن أفهم مشاركة اللحظات الحميمية، وأقصد التفاصيل الصغيرة التي يمكن تسميتها بأشياء لا تُشترى. هدية عيد الميلاد، ضمّة اليد في مكان عام، الحركات العفوية للأطفال، الحديث مع الأم، صالة المنزل، ونرى مؤخرًا غرف النوم، لماذا يُصر البعض على فكرة: "أنا أعيش حياة رهيبة/أنا محظوظ". أتخيل إلى حد اللحظة أنها نتيجة وجود شيء ناقص، لحظات لا تكتمل إلا بالإشادة من الغريب، ولا أعرف إن كانت تمنح شعور الإنجاز لأصحابها، ومن ثم شعور القبول من الآخرين أو مجرد جذب للانتباه. أنتظر معرض الكتاب للحصول على "موت الأسرار"، ويمكن إلى حدٍ ما فهم الأسباب.

 

يقترح أحد الأصدقاء تعميم عبارة ذاتية تردد نفسها عند الشعور بأي دراما: "كل تبن بس". مديرك لم يقدّرك بالشكل الكافي، زميل العمل يمزح معك وشعرت أنه اعتداء شخصي، صديقك لم يرد سريعًا، دخلت في نقاش محتد مع من تُحب، العائلة دعتك إلى عزيمة تتعارض مع شيء آخر، كرر العبارة على ذاتك، وتجد أن الامتعاض يسيح إلى حدٍ ما. لا أدّعي أن الجميع لديهم الخيار للخروج من المأزق، ولكن مشاعرك تجاهها غالبًا في متناول اليد، ابحث عن أي عزاء يخفف وطأة الأشياء ضعها في توقعاتك أو حظك أو أيًّا يكن. مؤخرًا أجد صعوبة كبيرة في تقبل هذه الحساسية العالية، مسرّات الثلاثين؟ ربما، ولكن لملم شتات نفسك، الجموع غير متهمة بملوخيتك، وكلنا نعرف أن الجميع لديهم مشاكلهم ونقاط ضعف لا تُحصى، والإنسان في المحصلة كائن هش، لماذا لا يُمكنك الشعور بأنك لست الوحيد من دون البكائيات المستمرة! قصتك ليست قصة استثنائية، لا أحد يهتم بمشاكلك التافهة إلا إن كانت هناك غاية مرجوة في نهاية المطاف!

 

أتخيل أن الإنسان قادر على خوض تجارب يمكن أن تقربه من الموت من أجل قصة تُحكى أو أخذ مواد معينة ليخبرنا لاحقًا أنها تجربة روحية. على الأرجح مرّت عليك ما يُسمى بـ: "الصمت النبيل". تذهب إلى إحدى المزارع في شرق آسيا أو أوروبا، وتُسحب منك الأجهزة التي تصلك بالعالم الخارجي، وتظل في صمت طويل مدة الإقامة، وطريقة التواصل الوحيدة إذا كنت مضطرًا إلى ذلك عن طريق كتابة عبارة على ورقة، ورفعها للآخر. بمعنى لو كنتم على طاولة الطعام، بعد جلسة تأمل وبحث عن الذات، الصمت عن ضجيج العالم للوصول إلى الذات، الضجيج الذي أربك عزلة الذات، وكل العبارات السخيفة التي يولدها الفراغ بحجة أنك كثير جدًا، وكل ما تحتاجه هو الصمت، ومن ثم تبشّر بهذه التجربة في كل مكان، تحكي أنك شعرت بالطمأنينة لذاتك المُرهقة، وانسيابية أفكارك التي أُعيد ترتيبها، وعدت إلى الماضي البعيد جدًا للكشف عن جذور قلقك، وساحت عشرات الدموع على مرأى الجميع، وربما تحكي ضاحكًا كيف احتجت إلى الملح على طاولة الطعام، تمد يدك إلى الستيكي نوت في المنتصف، وتكتب: "بالله قرّب الملح" للشخص المعني، ولو مسّتك حمى النكتة التي تصاحب وجبات العشاء... أتصور لا داعي لتخيّل شكل الضحكة البائسة على الورقة!

 

أحب الأعمال الروائية التي تتحدث عن الواقع، وعن أناس يشبهون حياتنا بدرجة كبيرة، شخص غارق في الروتين، ويحتفي بإنجازاته في العمل، وترتفع الثقة عند الإشادة، وتنخفض عند التعليقات المسيئة، يمر بتجربة عاطفية تشبه عشرات القصص باختلاف بعض التفاصيل، ويمر عليه مجانين كُثر ومواقف عابرة، وفي نهاية المطاف يرحل دون أي بصمة أو أثر عظيم على الأرض إلا من ذاكرة الأحباب. أتخيل أن الحياة بشكلها المجرد بسيطة جدًا، وأميل مؤخرًا إلى أنها فعلًا تتفاوت بين الوقت، المال، والصحة في مختلف الفئات العمرية، وما يأتي فوق هذا هي المشاعر التي تتركها أحاديثك مع الآخرين. كل إنسان يمر بلحظات يشعر فيها بأنه من الفئة النادرة والمحظوظة جدًا على الأرض، يستمتع بها قدر الإمكان ويشاركها مع من يُحب، وفي لحظات أخرى وكأن الكون كله ضده، لكن يكرر الشعار المُقترح، ويشاركها كذلك مع يُحب فقط، تقول بلقيس الكركي: "يكبر الخطأ حين تقرر، بمنتهى الغباء، الإفصاح عن ضيقك. يسألك غريب عمّا بك فبدل أن تجيب: لا شيء، مجرّد تعب. تتفنن في رسم صورة درامية سخيفة تمزج فيها بين الحقيقة والاختراع. يمتعك مؤقتًا هذا النسج وتواطؤ الآخر حدّ أن تنسى ما بك، وحدّ ألا تلاحظ هول الخطأ الذي ستتذكره حتمًا فيما بعد"، وبالعموم يعيش الإنسان بين هاتين اللحظتين المتطرفة.

 

لدي متلازمة طفولية بعد قراءة رواية فاتنة، وهو الشعور بأني سوف أكتب بنفس ثيمة الروائي: أحداث في منطقة جغرافية ضيقة، حوار طويل في "أبو هيثم"، تقاطع شخصيتين بين الماضي والحاضر، وأن الإنسان هو الإنسان في كل زمان، علاقة عائلية مُلتبسة، يوميات أو مذكرات، وأيًّا تكن الثيمة لا بد أن تكون عن ذلك الشخص الغارق في الروتين لا لشيء إلا لمجرد إثبات أن وجوده في هذا العالم، بغض النظر عن النظرة الحالمة والجُرم الصغير، ملحمة قائمة بذاتها. تعيش في عالم مستعجل جدًا يشعرك دومًا بأنه على حافة كارثة، في عالم لديه شعور عالٍ بالاستحقاق دون أي مجهود، عالم فيه المؤخرات ملقاة على ناصية الطريق تكسب فيه أكثر من سنوات الكدح وسهر الليالي، العالم الذي يُشعرك بالأبدية عند الكلمات الحلوة، العالم الذي يستميت فيه الناس من أجل التكديس المادي، العالم الذي يُعلن فيه أن وجودك مرتبط بكتابة قصة مميزة!

الوليد
Alwaleed@hey.com

Join