!شحّاذو الانتباه


أو لصوص العاطفة

"... تأثرهم بالأحداث الكبيرة زي علبة البيبسي لمّا تفتحها بعد ما ترجها، تسبب ضجة، لكن بسرعة تخفت!”

 

كانت هذه أول استعارة تمر علي في حياتي، من مدرس مادة التاريخ في المرحلة المتوسطة، وأعترف بخجل أنني نسيت اسمه، وحتى ملامح وجهه، إلا أنني ما زلت أتذكر جيدًا حركة يديه وهو يعبّر عن تناثر البيبسي، كالحركة التي يفعلها الأطفال في أغاني السعادة، وشروق الشمس، والمستقبل المبهر، والتي لسبب ما اختفت هذه الأيام. كانت أيام عدوان آخر للكيان المحتل على غزة. كان يضع كبك فضّي، وهذه معلومة إضافية شبه متيقن منها، مجرد محاولة بائسة لترقيع ثقوب الذاكرة، عمومًا ذهبت صورة الرجل، ويتكرر العدوان، وما تزال الاستعارة تطرح ذاتها عند الأحداث الكبيرة.

 

نعيش في عالم يموت فيه الأطفال كل يوم، وموت طفل ليس أكثر حزنًا من بالغ يعوّل عليه، وتتعدد الأسباب والموت واحد. من حسن الحظ أنني لم أعرف عن حكاية الطفل المغربي إلّا بعد انقضاء كل شيء، ويعود ذلك إلى الابتعاد عن تويتر، لم أعرف إلّا بعد أن انقلب السناب إلى صفحة حداد، ولا أخفيكم أُثير فضولي، ولوهلة شعرت أنني بعيد ومنعزل عن أخبار العالم، وهذا الشعور بالفضول أصابني بالقلق. يجدر بالذكر أن حذف تويتر قرار يريد له أن يُعلن، كالنباتيين مثلًا، لن يأتي اليوم الذين يتحول فيه أحدهم إلى نباتي دون التصريح بذلك، عمومًا هذا الحدث وجدت فيه الطبيب يتحدث عن الحقائق العلمية المتعلقة بتحمل الإنسان للجوع والعطش، والمتديّن عن رحمة الله، ولاحقًا عن الابتلاء، والجيولوجي عن طبيعة الأرض، والناشط الاجتماعي عن التقصير والإهمال، والصحفي عن إكمال أطراف الحكاية، والقناة التي تبث بشكل متواصل، والمؤثر الذي وجد فرصة ذهبية توصله إلى أعلى الترند إما بتغطية الحدث بكامل التفاصيل أو بالبكاء علنًا أو مساعدة الأهل المعنوية والمادية على مرأى العالم كله، وأخيرًا هناك من هم مثلي يشعرون على استحياء أن في الأمر مبالغة ما!

 

أيامنا هذه في حالة متطرفة من محاولة جذب الانتباه، وفي هذا السُعار المحموم يبدو لي أن العالم ينقسم فيه إلى قسمين بما أننا نحب وضع الأطر على الأشياء لتختصر علينا عناء التفكيك. تتشارك الفئة الأولى في أحد أو كل الثلاث سمات التالية: الغباء، وعدم الفهم، ولا وجود للخصوصية. في هذه الفئة تجد فيه الشيخ الذي أصبح بقدرة قادر أحد الغربان السوداء، وكأن ما فات لا يكفي، أو لنقل أحد حراس الليل الذين أقسموا على حماية البلدة من قدوم الشتاء، والأخرى تصوّر حفلة عيد ميلاد لطفلة على ما بدى لي أنها كلّفت أكثر ثلاث حفلات زفاف -كل ما يتقدم العمر بالشخص يرى الأمور من ناحية التكلفة قبل أي شيء آخر-، وغيرهم يعيد خلق سيرك "الناس غير التامّين" من رواية قُبلات لينين بصحبة فتاتين طوال الوقت، يُعامل وكأنه لعبة يطيب لها القفز من فوق الكنب، والمرور بين الأقدام، ومولعة بمطاردة الآخرين، لا أعرف أين يوضع بعد أن تُغلق الكاميرا، في الرواية تم استنزاف وسرقة المهرجين في نهاية المطاف، وأتساءل هل حركاته علامة للنجدة كالتي افتعلتها إحداهن واشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت اليوم تصوّر سكيتشات خايسة لا تخطر على بال الأطفال حين يحاولون تلبّس أدوار البالغين، وغيرهم الكثير ممّن يتقاسمون انتباهك اليومي، وأحيانًا ما فاض من العاطفة!

 

كل إنسان لديه مواقف يندم على فعلها عندما يعي أنها كانت مجرد حماقة. قبل سنوات طويلة وفي رمضان تحديدًا، اتفق أصدقاء ذلك الوقت على زيارة سريعة إلى مكة، وبعدها التوجه إلى جدة. توقفنا عند أحد المحطات في الظهر، ونعرف أو بعضنا يعرف أن اللوزين في نهار رمضان يصبح ميلفيه فرنسي مالح، وأن الاندومي تكون ألذ من ألذ فيتوتشيني على وجه الأرض. سألنا عن قائمة المشروبات الساخنة، قال العامل بعد أن عدد القائمة: " ...كابوشتينو". سألنا مجددًا، وأجاب ذات الإجابة، وانخرطنا في ضحك مجنون !العامل يتأمل الحمقى، وفي لحظة ما شعر أن الأمر متعلق به، صرخ في وجوهنا، وحلف مع التأكيد على أنه صائم -مما يعني قسم لا رجعة فيه- أنه لن يعطينا أي شيء وأغلق النافذة. تمضي الأيام، ونتذكر حماقاتنا من وقت إلى آخر، وتخلف فينا شعور أن الأيام تركض ولا تلوي على أحد. هذه الحماقة أتذكرها كل ما رأيت أو سمعت عن "سمول كبتشينو" أو "مع نكهة"، أصبحت حقوق إضافة الكلمة الإنجليزية محفوظة، ولا طاقة لي في مشاكل من هذا النوع! فكّرت أن تسمية كابوشتينو تحتمل الاستمرارية أكثر من التسميتين السابقة، مالذي سيحدث لو حملتها معي؟ وبت أكررها بشكل أهبل وأنا أوثق اللحظة في كل مرة! من يدري ربما تستضيفني قناة رسمية، وتسألني عن سر التسمية، عن الملهم المجهول على قارعة الطريق، ومن ثم أوضّح: "صحيح أننا كنا في نهار رمضان، لكن الله يحب أن تُؤتى رخصه."، وترند جديد عن جمع الدين والدنيا ما بين معجب وساخر، وما هي إلا عدة أيام حتّى يتم استضافتي في صدر المجلس لمهرجان الصقور، مع أشخاص كانوا إلى وقت قريب يشككون في مرجلتك إن شربت غير القهوة العربية، وبعدها أبدأ باستعراض... أتصوّر طالت السالفة أكثر من اللازم.


لا أحب مشاهدة أفلام الجرائم الوثائقية، والمُلاحظ أنها تتصدر قائمة أعلى المشاهدات، ودائمًا كنت استغرب هذا الانكباب على هذا النوع من الأفلام. من يرغب حقًا في مشاهدة عائلة هندية مكونة من ثلاث أجيال بين يوم وليلة يجدونهم معلقين من السقف أو قاتل متسلسل يستهدف أصحاب الشعر الأصفر أو مغتصب القاصرات أو الفندق الأسود! أتصور أن معظم هذه الجرائم تعبير عن الغضب بشكل أو بآخر، انتقام من متنمرين ولكن الأمر لا يتوقف عليهم، ردة فعل لرفضٍ ما أو تحطيم صورة الأب أو الأم المتسلطة، تتنوع الحكايات، وفي نهاية المطاف تنفيس عن غضب متراكم. ربما لو سألنا شخص مهتم بهذا النوع من الأفلام على الأرجح سيجيب أنه يستمتع بشعور التوتر وتدفق الادرنالين، ولكن أتوقع أن السبب الأساسي أن حياتنا تدور في روتين لا يتغير إلا نادرًا، وعندما نغضب، وأتصوّر أن هذا يحدث كثيرًا، نتعاطى مع الغضب بالنوم أو الأكل أو الخروج من المكان الذي نحن فيه، لكن هناك نسخ بشرية تشبهنا أو تشبه أشخاص نعرفهم، وصلوا إلى أقصى ما يمكن التعبير عنه عند الغضب، وبالتالي أن نرى نموذجًا يتخطى كل الأعراف المجتمعية والقانونية، سنشعر على الفور بالرعب، ولكن في ذات اللحظة نستلذ بمتعة غريبة. تعلم أنه إذا عشت ألف سنة قادمة لن تجرؤ على فعل أمر بهذه الشناعة -أتمنى ذلك طبعًا-، في المقابل ستمتع ناظريك عند رؤية هذه النماذج الاستثنائية التي تأسست من أحداث ليست بعيدة عنك! بالنسبة لي لا أحبها لأنني ببساطة أعلم لو اقتحم أحدهم المنزل آخر الليل، على الأرجح سأستيقظ فأجد نفسي معلقًا في السقف، ولو استيقظت قبل وقوع الكارثة، حتمًا لن تنقذني لمبة الكومادينة من المختل اللعين!

 

أتصوّر أن وكالات الأنباء -ومن يقوم بمقامها- تعمل بشكل مشابه، ولكن تأخذ الأمور إلى مستوى مختلف تمامًا. نعم تصنع لك القصة حتى تجذب انتباهك ليبدأ تشكل الارتباط العاطفي، وتشعرك بأن كل ما يحدث حول العالم بالغ الأهمية، هذه هي الفئة الثانية. تتسم بالخبث، وادعّاء الأهمية، ومتخمة بالخبراء. خبيثة لأنها تحاول استهلاك عاطفتك أو جذب انتباهك بطرق ليست بريئة وإن بدت كذلك، تجعلك على قلق دائم من أن يجب عليك أن تكون مطلعًا على الدوام حتى لا يفوتك هذا الخبر، لا بل تريدك على عجالة أن تعرف، لذلك تجد دائمًا باللون الأحمر البارز كلمة "عاجل". تدعّي أيضًا أنها مهمة لذلك تبذل الغالي والوضيع لتضعك في قلب الحدث، تتغذى على فكرة أنه إن لم تطلع على هذا الخبر ستكون خارج الدائرة الاجتماعية، وستكون بمعزل عن الآخرين. ما هي المواضيع التي ستتحدث عنها مع الأصدقاء إن لم تسمع بخبر غرق سفينة مهاجرين في الأبيض المتوسط أو الاعتداء الذي حدث في بلدة شمال شرق نيويورك أو حادث سيارة أودى بعائلة كاملة أو مرض جديد في قلب أفريقيا المُتعب أو أي من فواجع البر أو البحر أو الهواء! وحتى تجعل الأمر أكثر مصداقية يتم استضافة الباحث/الخبير/الأستاذ الجامعي حتى يعلّق على الأمر، وبالتالي لديك قصة متكاملة مضافًا إليها رأي رصين تحمله معك في أي لحظة يُطرح فيها الأمر أو تبدأ بها الحديث مع أيٍ كان. عند التفكير قليلًا ستجد أن معظم هذه الأخبار ليست مهمة، ومبالغ فيها، وأنها مجرد مضيعة للوقت، واستنزاف للمشاعر.

 

هل خبر الطفل الأخير محزن؟ نعم، هل نتمنى لو أنه أنقذ؟ نعم، هل يستحق تعاطفنا؟ نعم كل مأساة تستحق، ولكن حفاظًا على مشاعرك واستقرارًا للعاطفة، لا يجدر بك التعلق بهذا الشكل، لأن هذا يحدث كل يوم في كل مكان، ولكن شاءت الأقدار أن تتجه أعين الإعلام على هذا الحدث. لماذا تُصر على تتبع الأمر؟ وتشعر أنه من المهم معرفة الأحداث؟ ولماذا تبث الكاميرات مباشرة داخل وخارج الحفرة أيام متواصلة؟ لا أتصوّر أبدًا أنه تعاطف حقيقي من الإعلام بقدر ما هي محاولة لتغطية الحدث من كل جوانبه، وبالتالي اكتساب أكبر قدر ممكن من المشاهدات. المتضرر في نهاية المطاف أنت وعاطفتك الجياشة، حدود معرفتك يجدر بها ألا تتجاوز العنوان الرئيسي، وبالتالي دعاء صادق حتى تُريح ضميرك، في هذا العالم قد يكون هذا أقصى ما تملك، ولكن أن تتبع الأحداث يومًا وراء يوم، هذا ليس حرصًا منك، هذا شعور يخلقه الإعلام بأنه سيفوتك شيءٌ ما، ويمكن لك التخمين الآن أن عاطفتك/مشاعرك شبه مُتحكم بها. لو حاولت رؤية الأمر بشكل مجرد، وخالي تمامًا من العاطفة -هذا غير ممكن لكن حاول قليلًا-، تجد أن الخبر لا يهم، لا يهم إن توفى أو خرج، لا يهمك بشكل مباشر، ولن يؤثر على حياتك، ولن يقدم أو يؤخر في سيرورة الدنيا، ولن تفيدك معرفة المأساة التي ألمّت بأسرته أو حتى تعاطف العالم، ولا يخدعك من يقول أن هذه من صور رحمة الإنسانية، عمومًا تُشكر على تعاطفك، ولكن في نهاية المطاف علبة البيبسي رجّت جيدًا هذه المرّة!

الوليد

Alwaleed@hey.com

Join