كلنا إيغوشي العجوز!
عن كورونا وأشياء أخرى
تناولوا الفطور في الصباح مع أسرهم وأصدقائهم، ليتعشوا في الليلة التالية مع أجدادهم وأسلافهم في العالم الآخر!
جيوفاني بوكاشيو
قرأت اقتباس عن الجائحة، يضم تفاصيل صغيرة في عبارة موجزة. تأملت الاقتباس قليلًا، وفكرت لو أنني كنت كاتبه، وفجأة ماركيز يخطر على بالي، ودّ لو أنه كاتب الرواية اليابانية "الجميلات النائمات"، والتي تحكي عن زيارات إيغوشي العجوز للمنزل المخصص للمسنين، والذي يضم فتيات لا يمكن إيقاظهن، ولكن يمكن الحصول على حلم جميل أو إيحاء ذكرى طوتها الأيام، ومطلق الحرية للندم أو للنحيب على أي شيء دون الشعور بالخجل أو طعن الكبرياء. ذلك المنزل لا يوفر إلا خيار واحد، ولا يقبل إلا المسنين، ممن يُريدون الهروب من الموت، والذي يشعرون باقترابه. ومنزلنا الكبير -الأرض- هذه الأيام يمنحنا خيار وحيد، البقاء في أماكننا، هربًا من الموت –على الأرجح بسبب صيني لعين- لنحيي ما شئنا من الذكريات، ونلعب ما شئنا من الألعاب، ونتأمل حياتنا كيفما يطيب لنا، نحن بطريقةٍ ما، كلنا إيغوشي العجوز!
أعترف أنني ممن لا يستهوون الخروج، أو حتى اللقاءات الجماعية، وليعذرني بعض الأصدقاء عن كل الوعود التي منحتها سابقًا -وعن الوعود القادمة كذلك- التي سوف تنتهي غالبًا دون الإيفاء بها، إما لمناقشة شيءُ لا أشعر أنه يمسني بأي شكل من الأشكال أو للجلوس والحديث مع أصدقاء قدامى، حفلة لم شمل بائسة. لكني أشعر الآن بأنه تتملكني الرغبة في الخروج، أحب أن أمتلك هذا الخيار، أن يكون شيئًا مُتاحًا لا غير، ولا تتم الاستفادة القصوى منه، الآن أتمنى فقط الخروج من المنزل إلى نهاية الشارع لسماع أغنية لمحمد عبده، والمرور بقهوة على الطريق -أو لنقل شاي بالنعناع حتى لا أكون من المُصابين بمحنة إقحام القهوة في كل شيء-، والعودة للتمدد في المنزل كما أحب.
أعترف أيضًا أنني اشتقت لمكتب العمل، لا حُبًا فيه معاذ الله، ولكن حتى أتخلّص من شعور الارتباط على مدار الساعة، ومن كلام المدير المفرط في الإيجابية عن تسيير العمل أحيانًا، وأحيانًا من النصائح الأبوية عن أهمية شراء المعلبات، لا يوجد منظر محزن أكثر من شخص خائف يدّعي الأمان. لا، لا أتوقع أنني مشتاق للمكتب بحد ذاته، بل لأحاديث أبو صالح المتكررة عن فتاة تُشيد بعقله المعطوب، والذي يعتذر في كل مرة أنها زلة لسان، ودائمًا يؤكد أنه لا يحب الاستعراض بهذه الأمور، أو إسهاب فهد الطيّب الوديع بأن كورونا صناعة إيرانية وتصدير صيني، أو حتى محمد الذي لو كان كاتبًا، لوضع مؤلَّف بعنوان "الدرب المنير في تقبيل مؤخرة المدير"، وغيرهم ممن تجعل الشخص يلعن الرأسمالية، ويعيد التفكير في لو أن الأقدار جعلته ثريًا دون الحاجة إلى العمل، دون الشعور الحقيقي بإلغاء هؤلاء من الوجود، مشتاق للتواصل اليومي مع الناس، وسماع الجديد من التفاصيل وإن كانت موضوعة في ذات النمط، وطبعًا كما ذكرت التخلص من مكالمات الساعة العاشرة ليلًا، عن معنى معلومة مذكورة في تقرير تم تسليمه أول الصباح!
يجدر بالإشارة إلى أن جميع الأسماء الذي تم ذكرها من نسج الخيال، أما الوقائع فهي حقيقية.
عند بداية الحظر، وبعد التأكد من عدم إمكانية حضور النادي، شيء ما بداخلي أقام الاحتفالات، لن يؤنبني ضميري، أستطيع القول هذه مشيئة الرب، اللهم لا اعتراض. مشيئة الرب والتي رُجحت في الديكاميرون، وهي بالمناسبة هدية، كما يؤكد الإهداء، نسيت في أي مناسبة مُنحت لي، ونسيت كذلك شعوري في حينها، أبو نواس نسي ألف ألف بيت، ليكتب مجددًا ما يشاء، ونسيت أنا شعوري لأكتب ما شئت من المشاعر، أعلم أنها فكرة فاتنة أن أقول "نسيت الموقف، ولكنني لم أنسى الشعور"، وهذا سوف أتحدث عنه في موضع لاحق. سوف أفترض أنني نسيت لأنه لا نية لي في قراءة الرواية التي تحكي عن عشرة أشخاص يعتزلون عن فلورنسا التي أصابها الطاعون، المنتشر كانتشار اللهب في القش أو في أي شيء قابل للاشتعال سريعًا! ليحكي كل منهم، وعلى مدار عشرة أيام كذلك، الحكايات. فتحت المقدمة هذه الأيام، ذات الهلع، وذات الانتشار الواسع، ومرت علي هذه العبارة: "تناولوا الفطور في الصباح مع أسرهم وأصدقائهم، ليتعشوا في الليلة التالية مع أجدادهم وأسلافهم في العالم الآخر!". كان تُنسب الحادثة إما لمزاج كائنات سماوية، أو بسبب الأعمال الجائرة، أيًّا كانت الأسباب، فهي متعلقة بمشيئة مُفارقة، وراح ضحيتها مئة ألف، وعند كتابة هذه التدوينة بلغت الأرقام مئة ألف.
في الحجر المنزلي تذكرت المقهى، آه مضى زمن طويل عن تلك الأماكن، من قبل الحجر أيضًا! لكن عندما يُلغى الخيار، تبدو الأشياء أكثر فتنة. كلنا نعرف ذلك الذي ما انفك ينادي عليه أحدهم، للتأكد فقط من وجود الخيار: "كل ما أقفيت ناداني تعال، وكل ما أقبلت عزّم بالرحيل". تذكرت تلك الأيام التي كانت حياتي فيها رأسًا على عقب، دون الحاجة لذكر تفاصيل تلك الحياة وأسبابها، تذكرت مقهى الصحراء في الخبر، والنخيل في الرياض، مقاهي غير صالحة للاستخدام البشري. الأصوات هناك عبارة عن أوركسترا متناغمة حينًا ومتنافرة في معظم الأحيان. الحركة لا تتوقف، أحدهم يصرخ على العامل، وعامل يصرخ على آخر، قطط تعبر من تحت الطاولات، وأخرى تحدق فيك من بعيد، تجعلك تتساءل هل استنساخ الأرواح شيء حقيقي وممكن! ولو أرخيت السمع، سوف تسمع قطة تتودد إلى أُخرى، لا يمكن التوقف عن الحديث عنها في تلك الأماكن، هل تشعر بالحنين للبشر بعد أن تم هجر تلك الأماكن؟ هل تحن لزبيرية أحدهم! وهل تذكر طعم بقايا الوجبات! هل يصيبها الهوس في رصد الاحتمالات، عن اختفاء البشر، وهي تنتظر عودتهم!
هناك أيضًا شاشة تلفاز تعرض الأخبار أو فيلم قديم لا أحد يلتفت إليه، وفي الركن المقابل أصوات ضحك عالية، تشعر بأن أصحابها يضحكون وكأنها المرة الأخيرة في هذه الدنيا، وإن صادف وجود مباراة، يُقام ألف ابتهال، لإحراز الهدف المنتظر، ليضج نص المقهى بالصراخ، والنصف الآخر يغشاه سكون الموت. كنت أتجنب الأوقات التي تُعرض فيها المباريات، بل أتحرى الأوقات التي لا يرتادها الكثير، متأخرًا في منتصف الأسبوع، أو مبكرًا خلال عطلة نهاية الأسبوع. خلال تلك الأيام، لم يتبادر إلى ذهني ترك هذا المكان المتهالك والتوجه إلى أحد الأماكن الحديثة، كانت تُعجبني بساطة المكان، وأعترف كتبت بعض الخواطر، وحصلت على الكثير من التفضيلات على تويتر، -وأنا ممدد على الأريكة التي عفى عليها الزمن- والتي على الأرجح تخيلني أحدهم وأنا أكتبها تحت أصداء موسيقى كلاسيكية، متوسدًا حضن الكتاب، بصحبة قهوة ساخنة سوداء!
ما أحلى العودة أيضًا إلى تفاصيل السفر، وما أحلى كلمة "حلو"، التي يقول لك بارت حين يعجز المُحب عن تسمية خاصة رغبته في المحبوب، فإنه يُفضي إلى العبارة الساذجة "ما أحلاك!". حلو هي أثر تعبٍ طفيف، تعب اللغة، ودائمًا جوهر الرغبة لا يولّد إلا عبارةً في غير موضعها، ولا يبقى من إخفاق اللغة سوى ذلك الأثر. يرى بلزاك في باريس الواقع كلّه، وتتملكه مشاعر باهرة، ومن أعلى مقبرة، كانت تصرخ شخصيته في وجه المدينة: "ما أحلاكِ!". ألغيت رحلتي إلى باريس، وما تم اكتشافه، بعد العبث في تفاصيل السفريات، هو أن كل المدن الجديدة، كل السفر، باريس.
كدت أنسى الاقتباس الذي أعجبني و-لوهلة- تمنيت لو أنني كتبته:
"أصبح العناق يقتلنا بعد أن كان يحيينا، ورائحة المعقم تضاهي كل عطورنا الباريسية،
وأن نتجول في حديقة أو شارع، ضرب من البذخ والرفاهية، الرعب يسكننا من كائن مجهول،
لا سلاح ولا نفوذ ولا مال ولا حروب ولا شيء يقف في وجهه."
أعود الآن إلى إيغوشي العجوز الذي في لحظة من اللحظات، شمّ رائحة الأوركيد وتفجرت فيه العديد من الذكريات، وأنا مع الحجر المنزلي، مع تأمل السقف -ومحاولة التفكير في طريقة لإقحام إيغوشي في تدوينة عن كورونا- أحيت فيني الذكريات رائحة الأوركيد! أعترف بأن إيغوشي لا يرتبط بشكل مباشر مع حالتنا، وربما لا عن قريب ولا بعيد، لكن مهلًا، لماذا الجدية! الناس تموت بسبب كورونا، وأنت تُريد أن تُحاسبني على إلواء رواية يابانية في تدوينة عابرة، لن تُقرأ كاملة إلا من القليل، وتُنسى بعد لحظات!