خيالٌ لا يكفي لإكمال الرحلة!

Bouguereau, The First Mourning

Bouguereau, The First Mourning

في الوقت الذي أدرك فيه الإنسان استحالة الخلود، ابتكر الدعاء!

 

الدعاء مثير للفضول، يعبّر فيه الإنسان عن همومه، يستودعه كل أسراره، تخلق له العزاء في لحظات الضعف، وتصنع معنى الامتنان في لحظات الفرح، وكذلك الاستحقاق في لحظات الرضا، والكثير الكثير من الإحباط في لحظات الانتظار/الترقب الطويلة. في مشارق الأرض ومغاربها، ومنذ أن بدأ الإنسان يسأل: "لماذا؟"، حتى يومنا هذا، يتكرر إطار الحكاية، مع فروقات طفيفة في الكيفية، حكاية الدعاء والابتهال للخلاص أو النجاة. يتم توجيه الدعاء إلى السماء، وأحيانًا إلى الطبيعة، وهناك أيضًا من يشعر بالرغبة الملحة في الارتباط بالأشباح أو الاتصال بأرواح الأجداد، والذي يفترض الإنسان دائمًا أنهم يمتلكون الحكمة للحياة الطيّبة.

 

أتخيّل أن الإنسان لم يبدأ يفكر بالدعاء إلا بعد أن ارتطم بشعور الفقد. تخيّل ذلك الإنسان الأول في البريّة، الإنسان الذي لم يمتلك بعد إجابات، قبل أن تصنع الإجابات وتُعلب لتفسير الأشياء من حوله. بدأ بطريقة ما يسأل عن هذا الوجود وغاياته، ولا يبدو لي أنه كان جائعًا في حينها، لأن رفاهية خلق الأسئلة الكبرى لم يكن من نصيب الجوعى. وكما يُقال أن الطبقات وُلدت من فائض الإنتاج، وُلد السؤال من بطنٍ ممتلئ. أتصّور أن ذلك حدث بعد وجبة لذيذة، كتف نيّ من مخلوقٍ ما، تمدد ذلك الإنسان العاري بجانب رفيقه، وسأل صاحبه: "من الذي خرّم السماء بهذا الشكل !ما الذي يوجد خلف هذه الثقوب؟". لا يسمع أي إجابة، يلتفت ذلك الإنسان على يمينه، يجد أن صاحبه لا يتحرك. لم يكن انطفاء الكائن أمرٌ جديد، ولكنه يحدث للمرة الأولى إلى أقرب شخص إليه. من حسن الحظ أن لدينا جدارية محمود درويش، والتي تصوّر في أحد مقطوعاتها، حزن الإنسان القديم، حزن جلجامش على فقد رفيقه أنكيدو، وهذه شذرات منها:

 

يكسرني الغياب كجرّة الماءِ الصغيرة

نام أنكيدو ولم ينهض.

 

على باب المتاهةِ خذلتني يا صاحبي،

فقتلتني، وعليّ وحدي أن أرى، وحدي، مصائرنا.
ووحدي أحمل الدنيا على كتفيّ.

 

أنكيدو، ترفّق بي،

وعُد من حيث مُتّ، لعلنا نجد الجواب،

فمن أنا وحدي؟

 

أين ظلّك بعدما انكسرت جذوعك؟

قمّة الإنسان

هاويةٌ

 

لم يقرر ذلك الإنسان في تلك اللحظة مطاردة الآلهة أو قتال ثور مقدّس أو حتى الانتقال إلى أرض قصية من أجل عشبة سحرية تمنح الخلود، جلجامش في نهاية المطاف نصف آلهة، ولم يكن ذلك الإنسان سوى أنكيدو آخر، أنكيدو يبكي صاحبه، أنكيدو بخيالٍ واسع، وأسئلةٍ مفتوحة، وحزنٍ عميق!

 

وقبل أن تخمّن ما هي اللحظة التي بدأ فيها الدعاء، كان الإنسان ولا زال يتعاطى مع الفقد بعدة صور وطقوس، وكلها تُحمّل باستعارات فاتنة، ومتجذرة في المخيلة الشعبية لأهل تلك المنطقة. مثلًا يحكي رانسماير عن رحلته في الصحراء المغربية، وجد مخاريط حجرية موزعة داخل بقعة في قلب الصحراء. تحكي الأسطورة عن مذنب وقع في هذه المنطقة منذ آلاف السنين، واستطاع أهل الصحراء رؤيته من مئات الكيلومترات، كلحظة سريعة عابرة، لم يكونوا في ذلك الوقت مهووسين بفكرة غزو الكائنات الفضائية أو غيرها من الهراء الهوليودي، بل تخيّل أهل الصحراء أن هذا الموضع هو الأقرب إلى النجوم، اللحظة التي وُجد فيها جسر يربط الأرض بالسماء. شعر ذلك الإنسان بأن هذه البقعة هي المكان الأمثل لدفن الأحبة، وأخذوا في ذلك الوقت، يقطعون الصحراء من أقصاها حتّى تُدفن أجساد الراحلين في موضعٍ ينقلهم من العالم المتخم بالألم والجفاف، ويصعد بهم بعيدًا عن هذا العالم، بعيدًا حيث النجوم اللامعة والسماء الواسعة. لا أعرف إن كانت النجوم في ذلك الوقت أجرام سماوية أم مازالت ثقوب في قبّة العالم!

 

بعد صاحب الدعاء الأول، وأهل الصحراء بسنوات عديدة. يبدأ الإنسان بتعريف الأشياء، وخلق الاستعارات/السجون التي سيحبس نفسه فيها، ويصل إلى أن يقسّم الصلوات إلى أعمال فردية وجماعية، الصلوات التي تمنحه الطمأنينة في الحياة القصيرة، حياة مستحيلة الخلود. تختلف التعريفات، باختلاف طبيعة الأرض، بل تعددت المسميات بتعدد أنفاس البشر، وكلها تقريبًا تنطوي على مشاعر جيّاشة، تخلق الانتماء، وتصنع المعنى، وتشد من أزر الإنسان في مواجهة الحقيقة الأكثر وضوحًا. كان الإنسان وما زال يعوّل على الأدعية والطقوس إلى أن جعلته يؤمن بأنه صاحب جوهر أسمى من بقية المخلوقات، يشعر بأنه مدفوع بلا رحمة نحو الأعلى، حيث تتجه الأغاني الإلهية، والأفكار العظيمة، وحالات العشق الجارف، واندفاع يقظ وغامض لا يتوقف. أعتقد أن تلك اللحظات التي يندمج فيها الجموع لتشكّل جسدًا واحدًا، من أي مكان، وتحت أي تعريف، من أعظم منجزات البشرية، لأنه اعتراف صريح بمحدودية قدراته، وإدراك أن الحياة الأبدية مستحيلة، لكن ما المانع في الحُلم بحياة قصيرة مطمئنة!

 

لا أستطيع نسيان ذلك العويل الذي سمعته مرة في صلاة التراويح، وما زلت أتصوّر أن ذلك البكاء هو الأكثر صدقًا. بدأ الإمام بالدعاء، وعلى غير العادة اختار طبقة الصوت التي ستحرك فيك شيئًا ما، إذا افترضت أنك تستمتع بالصوت الجميل. لم يتمالك ذلك الشخص، وأخذ يصرخ بالبكاء، لم يحاول السيطرة على نفسه، كما يفعل الآخرين عندما يُمس فيهم وترٌ حساس، قد يكون لحظة ضعف أو شعور بالتقصير أو همٌ اتكأ على الكتفين أو حتى ذكرى فقيد، أخذ يصرخ، ولو كان في موضع آخر لخلق ربكة عامة، ولكن الجسد الواحد قد تشكّل، يقوده صوتٌ فاتنٌ جدًا. فاضت مشاعره، وباتت تحيط بالجميع، وفي لحظة ما، بات الجميع يقاومون هذه العاطفة المتفجرة، تحيط بك اختناقات النفس من كل مكان، الأمام والخلف وعلى الجانبين. نزل الإمام من ملكوت الطبقات الصوتية، كان أكثر رأفةً بنا، أكمل الدعاء على عجل وسجد.

 

كما تفتح النكتة باب القصة، يشرّع الحزن أبواب الصلوات. نكبر وتختلف تصوراتنا عن الحزن، ربما كانت في بداياتنا المبكرة تتمثل في الرغبة لامتلاك الأشياء، وبعدها في التمكن من الخلاص، وأخيرًا بعد أن نتقلب في أدعية الرغبة والخلاص، كل ما نريده هو أن نمدد ساقيْنا بدون منغصات. سواء تحققت أدعيتنا أم لا، سنفتش عن أي شيء يشعرنا بالأمان حتى وإن كان التأمل في أحوال الآخرين، ومن ثم تستحيل كل غايات الدعاء إلى شكر/راحة. عندما أفكر في أول إنسان رفع يديه ودعى على الأرض لا أتخيل كما ذكرت أنه بسبب الجوع، لكن أتخيل أنه بدأ عندما فقد ذلك الإنسان رفيقه، حيث ذاق الفقد للمرة الأولى، وبعد أن جرب جميع حالات الحزن والحيرة والغضب ومن ثم الحزن مرة أخرى، وبدأ يسأل من أنا دون الآخر! ولماذا على الأشياء أن تموت! أو يعترف كما قال درويش: "خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي. لا بدّ لي من قوةٍ ليكون حلمي واقعيًا!".

 

في تلك اللحظة تمامًا، أدرك فيها الإنسان استحالة الخلود.. تخيّل، رفع يديه، ودعى!

الوليد
Alwaleed@hey.com

Join