إلى أين؟
عبر العصور طور البشر آلية للوصول إلى منهجيات لترسية فهمهم عن العالم. تبدأ هذه المفاهيم التي تعتبر قواعد عامة لأبواب شاسعة من المعارف كفكرة، ومع المزيد من التفكر تصبح فرضية وبعد المزيد من البحث والتدقيق والمراجعة تصبح الفرضية نظرية وتبقى النظرية أقل من أن تسمى كحقيقة وقد يأتي يوم وتأتي نظرية لتنسخ أخرى.
وتاريخ البشر حافل بعلماء قاموا الليل والنهار على البحث والتحري والتدقيق والقياس.
في المقابل لدينا القرآن.
قد لا تبدو المقابلة مفهومة الآن، وهذا أثر جانبي لسنين من البرمجة على أن القرآن هو كتاب نقرأه في الصلاة ونستخرج منه قوانين الحلال والحرام وبعضا من القصص والأحكام الشرعية وكل من يزيد على ذلك هو على باب الخروج من الملة.
هناك إشكال عويص، يكمن الإشكال في أننا في أمس الحاجة اليوم لجرعة من شيء الكل يبحث عنه، الكل يبحث عن لحظة تكشف له الوقع الحقيقي، الكل يريد أن يرى الحقيقة، لا يوجد شخص لا يريد أن تزال الحجب عنه بشكل من الأشكال، الكل يعلم أن هذا العالم بكامل جماله وجلاله ما هو إلا نقطة من بحر الوجود وكل جهودنا تصب في هذه القطرة لضمان موقع أفضلية في المرحلة القادمة. ولكن ومع ذلك فلا أحد يلتفت للقرآن كوسيلة للحصول على تلك الجرعة.
الإشكال في أن إطارنا للقرآن يحجم فهمنا عنه عن طريق تحجيم دوره بتقزيم إمكاناته ومكانته.
لكل الإنسان الحق في إنشاء دفتره الخاص من المعاني والمسميات لما حوله، التالي محاولة لتقديم صورة بديلة قد تكون سببا في توفر خيارات أخرى للتعامل مع القرآن.
القرآن أشمل وأكبر من أن تحيط به كلمات منثورة من عقل مشوش مثل عقول كاتب الكلمات ولكنها تبقى محاولة.
كتاب الحقيقة
- القرآن -
القرآن بدون أدنى شكل هو أغلى مخطوطة معرفية ستملكها البشرية، في سمو منصب القرآن المحرر هو خالق الكون والناشر هو سيد الخلق، و لن ينتج لنا الزمن مهما طال أيما شيء يواز ما انطوى بين صفحاته.
القرآن بذلك هو أعظم من كل ما قبله ومن كل ما بعده من الكتب.
الله سبحانه وتعالى دقيق جدا، الله خلق كونا من العدم واعتمد في خلقه على قياسات ومعايير تجعل أعتى علماء الفيزياء والكون في حيرة من أمره.
مثال واحد لتبيان هذه الدقة ما يسمى بالثابت الكوني cosmological constant هو قيمة معروفة مكتشفة و هي قيمة متناهية الصغر 1 قسمة 122^10.
1 وبجانبها 122 صفر، شيء لا يكاد يذكر هو شعرة أعلى من العدم وهو ببساطة نوع من الطاقة النافرة (عكس الجاذبية)، التي تدفع الكون إلى التسارع في التمدد.
لو كانت أزود بأقل أو أكثر من هذا القياس بأدنى تغيير لما تكون الكون بصورته الحالية فقد تكون الزيادة كافية لتمزيق الكون بينما النقصان كافٍ لانكماش الكون.
هذه الدقة معكوسة في كتاب الله القرآن وتتجاوز هذه الدقة حدود علومنا ومعارفنا وتجعل من القرآن كتاب يقبل النظر من عدة أوجه واتجاهات مختلفة وليس فقط بالنظر إلى النص المجرد.
علما أن النص المجرد هو أوسع الأبواب التي نعرف اليوم للولوج في عوالم القرآن إلا أن جهود العديد من الأشخاص عبر الزمن تكاد تؤكد أن في القرآن أبعاد أخرى تجعل من الكتاب شيء مختلف تماما عن توقعاتنا.
قد سبق مثال من سورة الإسراء يوضح كيف أن الحروف والنقاط مستقصدة ولها حساب وهدف وذلك اقتباس من بحث طويل فيه ما هو كفيل بإحداث صدمة معرفية يمكن قرائته على موقع الكاتب.
الدقة الإلهية تحتم أن يكون لكل شيء في القرآن من أول حرف لآخر حرف وكل ما بينهما معنى وهدف ومدلول وتبقى قدراتنا الإستيعابة تنمو عبر الأجيال لتزيد من فهمنا شيئا فشيئا، و في الواقع فإن في القرآن ما يتجاوز حدود المعرفة البشرية خصوصا في المواضع ذات الدلالات العلمية وسيكون لنا وقفة معها قريبا.
اليوم نريد أن نستعرض مثالا واحد فقط لتثبيت فكرة أن القرآن الذي نقرؤه يمكن أن يقرأ بترتيب مختلف تماما.
أي أن تقرأ أية وتتجاوز آية دون أن يختل المعنى بل تجد مزيدا من المعنى على الترتيب الأصلي! وذلك ليس قولا بأن الترتيب الأصلي قاصر. إنما ذلك من تمام الإعجاز أن المستوى الأول من المعنى موجود في الأصل و المستوى الثاني فيما بعده وهذا موضوع لو تم استيعابه يكفي بأن يحول المخ إلى شوربة تذوب في الرأس وتسيل من الأنف من كبره.
نستعرض المثال التالي و يشرحه لكم المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي:
لتقريب المفهوم هكذا تبدو بعد الترتيب:
إذا بالثبات يوجد هناك طرق أخرى للنظر إلى الآيات بغير القراءة من اليمين إلى اليسار، مع ثبوت المعنى بل هناك إضافات للمعنى الأصلي عن ترتيبها على غير ترتيبها.
هذا مثال في سورة من السور القصيرة نسبيا، بتعميم هذا النموذج على باقي القرآن كم جدولا مثل هذا سنجد؟
كيف سنتغير برؤية ألوان أكثر فيما كنا نحسبه أبيض وأسود ؟