الحقيقة

من أين نستحبّ ونكره؟

لماذا نتحدث عن أمور مثل المعجزات والخوارق وما وراء الطبيعة؟ أو لماذا نتحدث عن أشياء ننشدها ولكننا نوقن من الداخل انها لن تحصل، مثل المثالية، النزاهة، والحيادية؟ لم هذا السعي الدؤوب وراء العديد من الأفكار الجامحة والتي نعلم مسبقاً أنها لا توجد إلا في اليوتوبيا وفكرة أفلاطون القديمة؟



إن الصراع الدائم بين قطبيات الأصالة والدناءة، القدامة والحداثة، الثبات والتحول، الانفتاح والتحفظ، الوضوح والتشتت، لهو صراع شامل مختصر لفقدان المعنى والبوصلة بين مرموزية الأقطاب وعمقها التنفيذي. والخليقة، منذ ساعة وجودها على الأرض دائرة في محاولة تشريع الأقطاب أو تدنسيها، بمعنى آخر، هذه هي وظيفة البشرية، التعريف والتشريع، الإباحة والتحريم. ولكن، ألا يمكن أن يعيش الانسان بشكل آخر؟ بعيد عن الرموز ومنسلخ من التصانيف؟ هل يستطيع انسان اليوم الخروج من الإطار التعريفي الذي وُضع لتحديد مكونات الحياة والقالب المحفوظ لتفسير أحداثها؟ الخير والشر، ألا يوجد خيار ثالث؟

إن أردت صياغة حديثي في جمل مركّبة أخرى فسأسأل عن تلك الحقيقة المطلقة حول تحديد الأشياء، هل هي موجودة؟ ومن يقرّها إن كانت كذلك؟ أنا؟ أم أنت؟


من يملك أن يُسفسط، يملك حق الرؤية الحيادية للمرجعيات والعقائد وحزم الأخلاق والفضائل، فهو بكل حال، يتجرّد من الدليل المستمدّ عن طريق التناظر والقبول المطلق لأي نوع من القوالب، ويفنّد جميع الأوراق ليضعها تحت عين الشك. فهل يكون المسفسط بطل القصة؟

 

هناك أساس قائمٌ من جذر الأرض إلى سقف السماء يحكي منذ خلق آدم إلى هذه اللحظة، أن وجود الصراع بين الأمل والشر، هو بحد ذاته، مكون لجميع أقطاب هذا العالم. فكل شيء قائم على فكرة إمكانية إحداث التغيير. حتى الأشياء التي لا تغير، إنها الآن في هذه الحقبة، يبتّ فيها على أنها من شبيهات المتغيرات. فإن جرى الأخذ بهذا الاعتبار، هل بإمكاننا إباحة وتحريم، استحباب واستقباح، ما نراه وما نفعله وفق بؤرتنا الخاصة من هذا الكوكب؟

لقد وصلنا إلى عصر من الزمن، اخترع الانسان فيه علوماً عديدة في محاولة تفسير ظواهر غريبة وشاذة، وبعضها عادية ولكن غير منطقية، ليبرر حريته الحقيقية في ممارسة تلك الأفكار بشكلٍ علني، ولكلٍ مراجع وأجندات ومحافل كثيرة يثبت فيها صحّة نظره بالاستدلال والتجربة العقلية الخاضعة للعُرف البشري الملموس، بمعنى آخر، وفيما يتعلق بسياق الإثبات، هناك جمعٌ غفير من الناس لا يؤمنون بأي شيء يخرج عن إطار حدودهم الحسيّة والعقلية، فلا الغيبيات ولا الخوارق ولا المعجزات، وهي كلها خارجة عن الطرق الاستدلالية العلمية للبرهنة، تُضمّن في حزمة حقائقهم الشخصية.

فكما يقولون، أنت لديك حزمة من الحقائق، وأنا لدي حزمة من الحقائق، وفلان لديه حزمة من الحقائق، وبهذه الطريقة، كل فرد فينا لديه الحق والحرية في اتباع ما يقول له حسّه ومنطقه، بافتراض أن لدى جميعنا منطق وحس سليم.


وفي محاولة منّي لتقرير أي جانب يتعيّن عليّ اتخاذه، المسفسط في المبادئ العقلانية والهادم للعُرف المشترك، والقائم بالفكر الموحّد والطبيعة الفطرية الأصيلة لجميع البشر اليوم، طرحت نقاش بيني وبين صديق حول ثنائية الموقف الإنساني تجاه الحكم على الأشياء، من الذي يحدد ماهيّة الأحكام؟ اتفقنا على أن العرف والدين هما الركيزتان الأساسيتان لإطلاق حكم الاستهجان من الاستحباب على الكائنات وأفعالها، وبطبيعة الحال، ستُقسم الأحكام إلى المترددة والمطلقة، فالأولى مرجعيّتها الأعراف، والثانية مرجعيّتها الدين.


ولتجنّب اللغط الكثير، سنضع أحكام الدين التي لا يمكن لانسان البتّ والتفنيد فيها جانباً، لأنها ببساطة منقطعة وبيّنة.


فماذا عن العُرف؟


حين نتحدث عن الأساطير، والمعجزات التي يختلقها أو يؤمن بها شعب على وجه البسيطة، لا نستطيع وضع ملاقط الدين لمحاولة تحديد الحقيقة من الخرافة، فالدين لا يُستعمل كبرهان لتحديد الظواهر بشكل علمي، وإنما يستمدّ برهنته بشكل عكسي على اثبات الأمور العلمية والمُكتشفة أساساً وفق التجارب الميدانية والبحثية في المقام الأول. لذلك، لا يستطيع الانسان بشكل من الأشكال أن يأخذ مأخذاً ويُحاكم العقول والمنطق في الحيّز الذي أتاحه الدين لممارسة الحريّة دون التحريم أو الاستحباب ليقول هذا خطأ وهذا صحيح. ما هو خطأ، قد يتغيّر في غضون خمسمائة ميل ليصبح صواباً وليس بالضرورة أن يُخالف أصول الدين. والعكس تماماً صحيح.


مرموزية الأقطاب هي الدائرة التي تدور فيها الخليقة منذ ساعة وجودها على الأرض، الإباحة والتحريم، التشريع والإلغاء، لدى كل حاكِم على مرّ العصور، ملف كامل يزعم أنه الأصحّ والأفضل والأتمم لحياة البشرية محاولاً فرض تعليماته على غيره ليُكسبَ طريقة عيشه هالة من الإثبات والرسوخ. كل شيء دائر حول الأقطاب، وواقع الحال يقول أننا لن نصل إلى تسوية.


فهل هذا يعني، أن الانسان قادرٌ، وله كامل الحريّة، في مراوغة حدوده العقلية والعُرفية، ليغيّرها بشكل مستدام، بحيث، ينتهي في كل اتجاه بما يرغب ويشتهي؟

Join