رسالة إلى عزيز
رسالة إلى عزيز.
رسالة محررة في ليلة ليلاء أصمة ثقيلة جافة مثل صخرة لا تحرّك.
رسالة مخطوطة بيد ناعمة وخشنة في ذات الوقت. حين لم تعد تفرّق بين الأنقاض والأضداد.
رسالة غريبة قليلًا كتبت من أجل هدف لا يعرف، في مقهى بعيد.
كيف حالك؟ لقد خلت أنك تراقبني وأنا أكتب، ولكن يبدو أني أنا من يراقبني. إلى أين تنتمي؟ إلى الوحشة والفراغ والعزلة؟ كلّا! هذه الأماكن ليست لك، إنها لي، أنا وحدي من يستلذ بها كسيجارة يعلم يقينًا أنها ستنهي حياته. مكانك أنت بالأعلى، بالداخل، محشورٌ بين دمىً قطنية حمراء زاهية وشموع معطّرة وقطوف حبٍ متدلية، هل قلت محشور؟ أعتذر على هذا الوصف، ولكنك بالفعل محشور! ربما لن تشعر بالارتياح، ولكن هذه طريقتي التي أعرف فيها حبّي من عدمه. أن أكدّس جميع المشاعر داخل علبة تتسع لعوالم عذبة وليالٍ رطبة، فيها القمر والنجوم والبحر، وأنت بالطبع!
هل قلتُ لك أنني بدأت العزف؟ ربما لا يهمّك ذلك، ولكني أعتزل الناس في كوكبٍ مضيء على حافة الكون، أعزف وأغني وأكتب كما أفعل الآن، إنه شعورٌ جميل، وكأنني في الجنة، ولكن وحدي.
سأعترف اعترافًا صغيرًا، لقد أخذت قلبك منك دون علمك، سرقته، هربت به، ركضت وأنا أضحك وأواجه النسيم العالي، كنت في حالة نشوة فظيعة، ضحكت حتى ابتلت عيناي، جلست على الأرض أمدّ ساقاي وأتفحص قلبك، وجدته ميّت، ساكن، جاف، شمعيّ، مثل نسخة بلاستيكية أو لعبة أطفال! هل هذا صحيح؟ أخذت برهة لأستوعب ما بيدي، كلنا نعرف، في بداية الصدمة يأتي النكران، ولكنه لم يغير شيئا، لقد كان قلبك بلاستيكيًا بالفعل! يا للهول! ماذا أفعل؟ شعرت بالعوالم التي شرحتها منذ قليل تتداخل، تنقلب سمائي أرضًا، تهتز وتتفجر براكين مدفونة منذ آلاف السنين، أصابني الجنون حقيقةً، لم أعتد مثل هذه المواقف وظننت أنها نهاية حياتي.
فكّرت مليًا بإلقاء القلب المزيف في أقرب حاوية، ولكني وجدتها ممتلئة، قلت: الحاوية القادمة سأرميه. ولكن الحاوية الثانية كانت مثقوبة. ثم قلت الثالثة سأرميه لا محالة، فوقفت عندها ووجدتها نظيفة، ولم أرغب بأن أكون أول من يلوّثها. فأخذني الأمل، ومررت بحاوياتٍ كثيرة أقول سأرمي هذا القلب فيها ولم أفعل. أظن أن السذاجة المكتوبة على جبيني منعتني.
ولكن ماذا أفعل بعد كل هذا؟ أحببت نفسي.
قلت لها ستكونين الأولى والأخيرة، وفعلت، فوجدت فائضًا من الحب لم أعرف كيف أصرفه. العالم مليء بالشر ولا أستطيع تحديد المكان المناسب لزرع غصنٍ أخضر صغير ومراقبته ينمو في تربة صالحة. أنت لم تكن تربة صالحة.
عدت إلى المنزل، عزفت، ابتسمت وشربت شايًا أخضر دغدغ بطني الخاوية. كانوا يحدثونني عنك في غيابك، وكنت أقول سيعود بقلب جديد غير هذا المزيف، وكانوا يصمتون في حضرة حديثي كأن مَلَك الموت يقف خلفي فلا يريدون إبداء أي تعبير على وجوههم حتى لا يفزعوا قلبي الصغير. يربتون على كتفي ويلتهون بعوالمهم الصعبة. يا رباه! أهكذا هي الحياة؟ صعبة على الجميع؟
أرغب بإخبارك عن القصة التي أقرأها، إن لم تمانع بالطبع، إنها قصة أديبة سابقة لعصرها، كانت أنيقة، ملهمة، شاعرة، كاتبة وفيها من المحاسن ما وجد في وقت ومكانٍ خاطئ تمامًا. لقد زُجّ بها في مستشفى للأمراض العقلية، بالطبع، وسط مجتمع مجنون يكون العاقل الوحيد فيه أكثرهم جنونًا. لكن روحها كانت طيّبة فلم تفطن لهذه الحيلة وقاست من العذاب أشدّه، مسكينة هي، لو أنها وجدت في عصرٍ آخر، ومكانٍ آخر، كانت ستحظى بحذافير الدنيا ومجاميعها، لأنها مثقفة.
لقد رأيت نفسي فيها، ولا أزكّي عقلي المتواضع ونفسي الصغيرة، ولكن أستشهد بحالك حين تبخّرت ولم تمد لي يدك.
كنتُ أرغب بشدة في أن احترق لأضيء طريقك، مثل نجمةٍ انفجرت منذ ملايين السنين لتضيء طريق بشريٍ تائه لا يأبه لنارها. أظن انها كانت رغبة محرمة مستحيلة مبتورة ومجهضة أيضًا، فالانتحار حرام.
أنت لا تشعر، ولا تملك شجاعة تكفيك لمواجهة عقلك قبل أي شيء. أنت اصمّ عن الفكر الصائب، ومشتت مثل سحابة ممزقة في السماء، لا هي تمطر، ولا هي تُظلّ.
اذهب واغرق في البحر واجعل البلل يخترق قلبك الحقيقي، لا هذا الذي بيدي، والذي سأحتفظ به في ثلاجة أغلقها إلى الأبد.
لقد جفّت أنهاري الآن، واستعصت الطيور على أن تغرد في سمائي الصافية، التي وقفت أتشبّع من شمسها الدافئة، وأشاهدك من بعيد، تموت مثل شجرةٍ عجوز.