الكاتب يتكلم:
الكاتب لا يكتب، انه يريد التكلّم كأي شخص آخر، حتى ولو قالوا عنه زنديقا، لا يهم، يريد ان يسترجع حقه الذي فرّط به وهو يكتب ويكتب فقط.
حان وقت الحديث: أنا رجل بلا أرض، بلا وطن، بلا رفيق مُلازِم، انا حقل بلا مزارع، بستان بدون بستانيّ، انا قلم بلا قارئ، قارئ بلا آذانٌ تسمع، قالوا لي: تقرأ فيما لا يعنينا، وإذا فعلت قالوا القراءة للفارغين. رموا بالشيطان داخل صدري وهربوا، أتخيل وأتساءل كل يومٍ من أين أتوا به، ولماذا استوطن عقلي لا صدري. قالوا افعل ما نقول، فعلت فقالوا حسنتك لك. أمشي بمحاذاة البحر اللا منتهي، وأنا المنتهي، لا حياة تحتي وفوقي طوقٌ أسود يمشي معي، أفكر وأبحث وأسأل وأحاول العثور على إجابات، لم أدري أنها لا تريد أن يُكشف عنها، لماذا نصرّ على جرّها من شعرها إلى واقع مقفر؟ لو كنتُ إجابة سؤال لفضّلت البقاء كامنة في أسرار السماء على أن أمضي مضيًّا مضنيًا فوق أرضٍ يفسَدُ فيها وتُسفَك الدماء بلا مبرر.
الكاتب يقول: أنا تائه، التيهان دلالة العارفين، العارف لا يسكن، الساكن يعود إلى العدم، أنا عدميّ، وحيّ، ولا أمتطي جواد الريح من أجل كسرة من السماء لا أحتاجها، ما زلتُ أريد أن أشرب، وأمتلئ، وأُفرغ مجددًا، الامتلاء إلى الأبد صفة الموتى، متخمين بالصمت لا غير. الكاتب ينحرف، يقول أن الأسطورة تقول أن النزاع قائم أبدًا بين الأسد والبقرة، ولكن الأخيرة تعيش حياتها غبية وتموت غبية، أعرف أناسٌ قالوا: لا نريد هذه الحياة! خلعوا ما عليهم وهربوا محاولين صنع واحدة وحجز مكانٍ لهم في قطار وجهته الحقيقية الوحيدة الموت. همٌّ بالخلود وغمٌّ بالوجود، ولعلّ الانسان لا يجد ما يرثه لما بعده سوى هذا الهم المكبّل بالمقاييس والمعايير، ان تعيش هكذا وليس هكذا. فهل الانسان، بعد ما سنّ ما سنّ وعاش وكدّ واخترع وارتحل وسكن الصروح وذُكر برهة من الزمان في جزءٍ من التاريخ إلا كمن خلا قبله من الأمم الغابرة فذكروا قليلًا ثم نُسوا بالجملة؟ الكاتب لا يريد الخروج من النصّ، الكاتب يتساءل، وقد ألقى بسهمٍ من خيش أسهمٍ مخبأة لديه، الكاتب يقول: لديّ قلب طوّعته الأحزان، ورقّقته قلة الزاد، يتعرّض للمهالك بلا معنى، فينقلب متخبّطا ويدفع من رصيد حياته ما تبقّى. الكاتب يقرأ: هذا خلقُ الله. فيدعوا أن يُفتح عليه نافذةٌ من السماء على قلبه، وألا تكتمل عليه السعادة فهو لا يريدها، إنما يريد النور.
الكاتب يقول: اكتشفت انني لا شيء غير ظلّ لنصّ أراه يمشي امامي بمشقّة ويصافح الناس كأنه انا.
الكاتب لا يريد التكلم، كل هذا الذي سيتوقف عن قوله، اجعلوه التراب الذي تدفنونه به.
الكاتب ترك قلمه ومكانه وانساب بين الاشجار، لقد اختار العزلة.