العيش بجانب البحر
في حُب الأزرق
أنت الآن على أعتابٍ ذهبية، تتشرّب كل عالقةٍ تشوب ذهنك، تأخذ عنك دون وعيك أو موافقتك كل نزعة ألمٍ مررت بها وظلّت شائبةً طافيةً في محيط عقلك المظلم، أنت الآن على الأعتاب الذهبية أمام الصرح الجليل، أمام الهدوء المشرع على مصراعيه. انطلق. انطلق فهذه هي اللحظة التي تتكلم فيها الجمادات، فالأعتاب من تحتك تطلب من ظهرك الحمل الثقيل الذي قوّسه دون أن تلاحظ، والصّرح من أمامك يخاطب روحك المحبوسة في قالبك الطيني، ويخبرها أن ما من زادٍ نفسيٍّ تحتاجه لأيامها القادمة إلا ومطويّ بين تموّجاته، ومخفيٌّ في عمق زرقته. انها اللحظة التي ترتوي فيها عوضاً عن أيام الظمأ، واللحظة التي تُلملم فيها نفسك بعد أيامٍ من الضياع.
انها أمامك! أمام ناظر عينيك! انها البداية لنهاية كل جرعات الشتات التي مررت بها، انها المساحة المضاءة بالزرقة الناصعة، زرقتين في الواقع، زرقة السقف المحفوظ، وزرقة العالم الواسع المخفي الممتد في أفق نظرك.
انها الفلسفة الشعرية، الفلسفة التي تقودك حتماً إلى نفسك، إلى الترويح عنها، إلى سبر أغوار رأسك الأشعث. انها العوالم التي تنتظرك، تنتظر أن تقع عينيك على بؤرها، لتعرف حجم الجهل الذي يحيط عقلك، وسيبقى بمساحته الشاسعة مهما حاولت تقليصه.
انها التراكيب اللغوية التي تفصح تماماً عما ألمّ بك ودار في خلدك وهاج بين جنبيك، انها القوة التي كُتبت بأحرفٍ ترجمتْ ما حاولتَ قوله والتعبير عنه، ولكنك لم تستطع.
انها الشعر، والحياة الممتدة في دقائق عمرك القادمة.
النفس الطويل الذي تأخذه أمام تلاعب الأمواج ومداعبتها للصخور الساكنة، النسيم الذي يهبّ فيلامس قميصك ويدغدغ خصلات شعرك، أو يحتفي بملمس رأسك الأصلع فيشعرك بالقشعريرة.
انها العودة، العودة بعد الكتمان، بعد الشعور المتكرر بضيق التنفس، انها الأيام التي قضيتها في صحراء أثقلت رئتيك فما عدت تطيق الهواء فعدت أمام وجه ربك والشمس تنظر إلى المهابة والجلال المتمثلا في القسم الأعظم من مساحة الأرض.
هيا.. أنت هنا الآن.
اخلع نعليك. اجعل أصابع قدمك أفقيةً تماماً. أنزِل أخمص قدميك وأنت تركض إلى أدنى مستوىً تستطيع الوصول إليه. استشعر حرارة ما خُلقت منه. اسمح له أن يُُغرق قدميك. دسّهما بقوة فيه. حاول وأنت تركض أن تسحب كل الأعصاب المتحكمة من كعبيك لتقودهما مقدمة الأقدام، فتختفي أصابعك بين ذرّات الأعتاب الذهبية. اقفز إن أردت، خذ نفساً عميقاً كأنك لم تعرف أن هناك هواءً نقياً من قبل. أنت الآن تواجه الراحة، والصخب الهادئ، والمنظر البديع.
إنه العيش بجانب البحر، العيش بجانب الزُّرقَة، العيش بجانب رئة الأرض.